مقالات

برا الدنيا

بعد انتهاء أجازة نصف العام الدراسي الجامعي، قابلت صديقة عزيزة علي، كانت مستاءة بشكل هستيري، إذ كان ذلك موافقا لظهور نتيجة الفصل الأول، قالت لي:”تعرفين ما يغصني أكثر من نتيجتي البشعة؟

أنني السبب في هذا كله” ذُهلت إزاء قولها، عهدتها مجتهدة، حتى تدني درجاتها فاجئني، صمتت فاستوعبت ذهولي، ثم وضحت والندم يلُفها: “أنا لم أكن حاضرة تماما في ذلك الفصل، أنا كنت في دنيا تانية ..برا الدنيا، وكان ذلك بيدي وليس لظروف خرجت عن تحكمي.

بدأت صديقتي تسرد لي كيف بدأت متابعة بعض المسلسلات الأجنبية على الانترنت، ثم بدأ ذلك يٌبلي معظم وقتها، ثم بدأت في مشاهدة أفلام أكثر، وكانت تخرج من هذا لتقرأ قصصا!

قالت لي: “لقد انغمس ذهني، لم أعد أستطيع التركيز في دراستي كما في السابق، أصبح صبري ينفد مع أول ساعة أجلسها لأذاكر محاضراتي، ثم أصبحت أكره الخروج من غرفتي، أستمتع فقط بمشاهدة الأفلام أو قراءة القصص، ثم بدأ أتغيب عن الحضور في الكلية، لم أعد أود الحديث مع صديقاتي، وبمجرد أن أبدأ في استذكار دروسي، يهولني الكم الذي هو آخذ في التراكم، فإذا بموجة الهّم تجتاحني، فأفقد تركيزي أكثر”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أتوقف هنا عن نقل كلماتها، فأنت-قارئي الكريم-لابد قد استوعبت ما حدث على إثر ذلك. لقد تحول الأمر من المشاهدة المجردة إلى ما يسميه علماء الاجتماع بمصطلح “الخروج من الواقع”، وهو يستخدم لتعريف الإجراءات التي يتخذها الأشخاص لتساعدهم في تخفيف الشعور بالاكتئاب أو الحزن العام، أو بتعريف آخر: تجنب مواقف الحياة الشاقة أو المخيفة.

من هنا أرغب في الإشارة أن هذا الهروب الذي انتهت له صديقتي لا ينحصر في العالم الافتراضي الوهمي الذي كانت محجوزة ذهنيا فيه، فقد يكون بسبل أخرى وأشهرها هو النوم، من منا لايعرف مقربين له، يدخلون في ساعات نوم طوال إذا اجتاحهم الاكتئاب أو الحزن. في نهايـة الأمر، فهذا كله ينتهي بالانسحابية و التقوقع على الذات و رفض المواجهة. إذا ماذا بعد هذا؟

يقول إتيان جاكسون: “ليس من الصعب أن تعثر على الحقيقة، ولكن المشكلة الكبرى هي ألا تحاول الهروب منها إذا وجدتها”. إن ألم المواجهة-قارئي الفاضل- وأعني بالمواجهة، مواجهة المهام اليومية، والمسؤوليات الحياتيـة المطلوبة، والأعمال المنوط بالواحد منا القيام بها، والتي تختلف باختلاف أعمارنا،

فمنّا الطالب وربما المعلم، أو الموظف، أو الأب، أو الأم إلى غير ذلك من الأدوار التي تختلف واجبات كل فرد يشغلها، إن هذا الألم هو كطلق للولادة، يخرج لنا أفضل ما يمكن جنيه، الإنجاز الذي لايكتمل كياننا النفسي الصحي إلا به، وهذا هو سبب ضيق الصدر و الهم والاكتئاب الذي يجلد الواحد منا عندما نقّصر ونصبح برا الدنيا .

إلا أن هذا الألم-وهذه هي البشارة التي أود نقلها-لا يلبث أن يزول مع الوقت، لإن النفس تألف المهمة بالتمرن عليها، فتجد الأمر في تحسن طالما لازلت مثابرا، حتى تجد نفسك تحثك عليه حثا، وتقوم به بشكل شبه لا إرادي، في حديث نبوي شريف: ” إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قارئي الفاضل، إنك اليوم هو ما حملت نفسك عليه بالأمس، و حريّ بنا أن نعمل في تحسين واقعنا هذا قدر ما باليد من حيلة، حتى نحب بصدق أن نفتح أعيننا عليه.

 

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نورهان خليل

عضوة بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ المنصورة

مقالات ذات صلة