إصداراتمقالات

الى الأمام يا رومل

هذا النداء أو الهتاف للعين العابرة قد يظهر رومانسية أو حنين للماضي والتاريخ. وفي الحقيقة هو يعبر عن مرحلة تاريخية مهمة من مراحل التاريخ المصري . رومل ثعلب الصحراء وقائد جيوش ألمانيا النازية في شمال أفريقيا يحارب جيوش المحتل الغاصب الإنجليزي في الصحراء الغربية وقد أرهقهم واستنزف معنوياتهم القتالية باستراتيجياته الذكية وتخطيطه البارع. وفي هذا الرجل الألماني -الذي لا نقلل في تحليلنا من كفاءته وقوة حيلته العسكرية- رأى الثائر المصري المعذب المقهور تحت وطأة محتل ظالم وإقطاعية فاسدة وملك جائر بريق الأمل في الحرية والاستقلال والخلاص. وفي البحث التاريخي نجد الأبحاث التي تسعى للعرض فقط فتظهر الجوانب والتفاصيل الخفية عن الأحداث والوقائع المفصلية في التاريخ. ولكن ما كان هذا يوما مبتغانا ولا ضالتنا. بل إن نبشنا وبحثنا في أوراق التاريخ هو لاستخلاص واستخراج العبر والدروس. فالتاريخ يكرر نفسه بصورة أليمة كلما تكررت ابتلاءات الحياة مع الأجيال الجديدة إلا إذا ظهر المنذر والمنبه الذي يوقظ الناس من غفوتهم ويرفع عن أعينهم غشاوة غفلتهم فيرفضوا تكرار الفشل والمعاناة.

و في تحليلنا نختار بعض العناصر لنحللها. هذه العناصر تتعلق بدافع أو غاية طلب الأمل عند الثورة المصرية في عهد الاحتلال الإنجليزي. ثم نذهب إلى السبيل الذي اختاره الناس حينما هتفوا “إلى الأمام يا رومل”. لنصل إلى الغاية التي كانوا سيحققوها لو انتصر رومل وتقدم “للأمام” نحو القاهرة. ونفرق بينها وبين الغاية الحقيقية التي انطلقوا في البداية من أجلها. وفي النهاية نحاول مجازا أن نسقط جانبا من هذه التجربة والدرس التاريخي على حاضرنا العربي المؤلم الذي يتشابه مع الوضع التاريخي في مصر آن ذاك ويختلف معه في بعض الجوانب.

الوضع الاقتصادي: تشكل الوضع الاقتصادي المصري في عهد المملكة على أساس الإقطاعية المتوحشة. فحاشية الملك من الباشاوات والباكاوات ينعم عليها الملك بالإقطاعيات الزراعية المهولة. يمتلك فيها الإقطاعي الأرض بمن عليها بواقع السخرة أو الأجور المجحفة. ظهر مع ذلك الظلم والغطرسة والفساد الإداري والمالي لتلك الإقطاعيات استبداد الإقطاعيين بإيرادات تلك الإقطاعيات مع عدم وجود قانون واضح ينظم توزيع الأرباح على العمال وعدالة الأجور وتعادلها مع المجهود في العمل والحمل الاجتماعي والأسري للأفراد. فازداد الأغنياء غنى على حساب وبجهد الفقراء الذين ازدادوا فقرا ومعاناة. وقد سيطر الإنجليز بتعاون الإقطاعيين ومباركتهم على ثروات مصر ونهبوها لينعم بها بلدهم الغاصب. فحتى القطن المصري يصنع في إنجلترا بعد أن بيع لها برخص التراب ثم يعاد إلى مصر كمنتج بأغلى الأثمان. والويل لمن يرفض البيع فكرباج الباشا وشومة العمدة ومخالب الغوغاء والفتوات جاهزة لتعذب وتدمر وتذل كل من يعترض رغبة الأرستقراطية الغاشمة.

الوضع الاجتماعي: يدرك المتخصص في علم الاجتماع العلاقة الوطيدة بين الاقتصاد والاجتماع. فتدهور الوضع الاقتصادي من حيث الظلم وعدم التكافؤ في توزيع الثروة في المجتمع قد أدى إلى انقسام المجتمع إلى طبقة أرستقراطية تتميز بها كل المجتمعات الإقطاعية وطبقة فقيرة (طبقة الدنيا) تعيش تحت خط الأدنى للكرامة أو الهناء بكثير. أما الطبقة الوسطى (البرجوازية والموظفين المتوسطين) فتم عصرها وقهرها لتختار إما أن تمتزج في الطبقة الأرستقراطية وتنسى المبادئ الأخلاقية والإنسانية في التعامل مع الطبقة الفقيرة التي جاءت منها أو أن تهلك وتسحق مع بقية الفقراء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الوضع السياسي: تعددت الأحزاب بعد نضال سياسي طويل وتكاثرت و انقسمت على نفسها وتلونت بكافة الألوان ونادت بكافة الشعارات “خادم الفلاح” “الماركسية هي الحل” “الإسلام هو الحل” “عاش الملك مات الملك” “إنجلترا هي الحل”. وكل مناد بندائه و كل انتهازي بفرصته و قل المخلصون أو ندروا بالأصح وانتشر الدجالون واستغلوا جهل الناس وعاطفتهم وطيبة منبتهم وحسن خلقهم وموروثهم (ما أشبه اليوم بالأمس) أو فقرهم وبؤسهم لتعظيم قاعدتهم الشعبية. وهي قاعدة الغوغاء المبنية على الجهل والفقر فلا تتوقع منها أي انتاج سياسي مؤثر نحو التقدم. وكل أمل الضعيف والفقير في لقمة العيش الحلال الكريمة والبيت الآمن والحياة المطمئنة المستقرة ولكن هيهات ما لهذا من سبيل. وحتى ولو ظهر هذا البطل المغوار الحقيقي الذي لطالما اشتاق له الناس وجف له ريقهم فالقلم السياسي والاعتقال والتعذيب والتهجير والنفي والإعدام والاغتيال في انتظاره لو ارتكب حماقة أو نادى بصوت أعلى من المسموح به.

الغاية المأمولة: نظر الفلاح والعامل والموظف المصري للسماء المظلمة طالبين الغوث وأن يشرق فجر العدل والكرامة عليهم. لقد مر عليهم الكثير من القامات والنخب التي نادت هنا بالحرية وهناك بالعدالة الاجتماعية ولكن تبخروا كالوهم والسراب لما لاحت أمامهم فرص المصلحة الشخصية وإغراءات الحكومة والإنجليز. هذه النخب العفنة هي نخب “فالسو” كما يقول التعبير العامي. كل ما يحرصون عليه هو ترفهم الشخصي فلا إيمان لديهم بالقضية الإنسانية بتاتا إلا بالقدر الذي يضمن لهم الظهور الإعلامي و الزخم الشعبي الكافي ليتم شراؤه ودفع ثمن سكوته وخيانته للوطن. وكما يقول المثل الإنجليزي “لكل رجل ثمنه”.

ماذا يريد المواطن المصري؟ الإجابة بسيطة.. دولة العدل. من حق كل إنسان خلقه الله على هذه البسيطة أن يعيش في عدل حقيقي فيفكر بحرية ويعاقب بقانون واضح وعادل ويجازى ويكافأ وفق تعادل وتوازن مع جهد العمل والعبء الاجتماعي. وترعاه الدولة في وقت محنته فلا يجد نفسه بعد فيضان أو سيل ملقى في الشارع لا يجد قوت يومه أو بيتا يأويه. وتدافع عنه وعن ذاتيات حضارته بالغالي والرخيص وتحميه من الذل والهوان على أيدي الأعداء.

حلل بعض المصريين اليائسين – من الأوضاع التي أوضحناها – الحالة التي وصلوا لها وتوصلوا لأخطر فكرة ممكن ترد على عقل من تملك اليأس والقنوط من عقله وقلبه. “سنقبل بأي حل يخلصنا من دولة الظلم ولو أن هذا الحل سيدمرنا مع دولة الظلم أيضا” إنها مقولة شمشون المشهورة “علي وعلى أعدائي”. وما أسرع ابتلاءات القدر فقد تجسد هذا الحل سريعا بهذا الطارق الغريب القادم من الغرب على سيور الدبابات والمصفحات. تمثل هذا الحل في رومل ثعلب الصحراء، هرقل الألمان. جاء رومل بأوامر هتلر مباشرة ليطرد الإنجليز من مصر ويقطع عليهم خط الإمداد الاقتصادي والاستراتيجي من الهند والصين وأستراليا. ووجد في رومل المصريون الحل السحري لكل مشاكلهم.

ماذا لو دخل رومل القاهرة؟ إن الهدف الخفي لغزو مصر يختلف عن الظاهري. في الظاهر فإن الرسالة هي رسالة التحرير وفك الأسر والاحتلال. في الباطن… لا يختلف دخول رومل القاهرة عن دخول أي مستعمر آخر بما فيهم الإنجليز. لنحلل وننظر للأسباب وراء ذلك. الوضع الحالي لألمانيا والرايخ النازي هو وضع حرب واستنزاف ثروات. نتوقع إذن وصول ألماني لمصر كما يحل الضيف العطشان على النبع المنحسر. سيضطر المستضيف أن يشارك الضيف المفروض عليه في واقع الأمر جزءا من الماء خلال إقامته. هذا الضيف يحمل عبء آخر. فله جيوش منتشرة في جميع أنحاء البسيطة تحارب وتناوش وهي أيضا أصابها العطش. العطش للماء والقطن والقمح والمرور الاستراتيجي من قناة السويس.. وهلم جرة. إذا سواءً شاء أم أبى فإن الثعبان الذي لجأ لصدر الفلاح الطيب ليتدفأ سيضطر لأن يلدغ الفلاح بعد أن ضمن بقاءه ويسلم الفلاح جثة هامدة لأبناء الرايخ الجرماني الجائعين. فسواءً كان مغرضا أو جاهلا بما يحمله المستقبل من محتوم فإن الغازي الألماني لا يختلف عن المحتل الإنجليزي بل سيكون أثر شراهة في امتصاص دماء مصر التي مازالت تعاني من ويلات مصاص الدماء الإنجليزي ولم تتعافى منه بعد. والتهم جاهزة…فلو عارضت فأنت لست من الجنس الآري ولا تؤمن بالاشتراكية القومية ولا تستحق الحياة تحت سماء الرايخ النازي. وهو فكر في الأصل لا تنتمي له وفرض عليك في ظروف قهرية لم تكن لتسلم له في ظروف حياة عادية، والآن تحاسب لعدم إيمانك الكافي به! تماما كما تحاكم الآن لعدم إيمانك بإمبراطورية غاشمة لا تغيب عنها الشمس.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هل تحقق الهدف؟! وفي نهاية هذه المحاكاة لما كان سيحدث لو دخل الألمان نقارن الغاية التي وصلنا لها بالغاية التي انطلقنا من أجلها. والمقارنة واضحة. لم يحدث إلا استبدال لظالم بظالم ومستعمر بمستعمر ومرض بمرض. لا يهتم إلا باطعام جسيماته وجراثيمة من جسدك المستغل المستنفذ ولتذهب أنت للجحيم. وكلها بمبررات مادية تطورية فنحن في قانون الغابة والبقاء للأقوى لحين إشعار آخر. وفي النتيجة أين مطالب العدل والمساواة التي بدأنا منها؟ تبخرت واختفت في وسط جدلي وسفسطة عقيمة بين نخب توالي هذا الطرف وأخرى تدعم الجانب الآخر حتى تنسحق الجموع والحشود البريئة التي لم ترد يوما سوى الحياة. وعليه فإن الإنسان يجب أن يعدل من تفكيره في وقت الراحة ويطور من المفاهيم لديه لكي لا يجد نفسه محصورا في بدائل أحلاها مر في وقت الشدة وينهار.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة