إصداراتمقالات

الوعد الحق

أينما تكون الآن؛ فى هذا العالم الذى تنتمى إليه، لك فيه ما لك وعليك له ما عليك؛ فلا بد أنك ترى وتسمع ما يحدث فيه. شعوبًا تُبَاد وأطفالًا تُقتَل وتُحرَق، أُناسًا يموتون جوعًا، بينما يموت آخرون من التخمة. شعوبًا تناضل وتحارب من أجل الحصول على حقها فى الحياة، وشعوبًا أخرى تستغل ما أُوتيت من قوة لحرمان تلك الشعوب من حقها فى الحياة! فحيثما توجهت ببصرك وسمعك ترى شكلًا من أشكال الظلم! فأين العدل؟ وهل الأصل فى الخلقة الظلم؟ وهل نحن مطالبون بأن نتكيّف مع هذا الظلم وننتظر تحقيق العدل فى الحياة الأخرى؟
“العدل هو إعطاء كل ذى حق حقه” تعريف مشهور لفظيًا للعدل وعند محاولة فهمه واستنباط معانيه نجد أن العدل هو عكس الظلم والجور. العدل هو عكس سلب الحقوق؛ فالعدل هو ميزان تقاس على أساسه كل العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فالإنسان يمتلك بفطرته قابلية واستحقاقًا؛ هذه القابلية عبارة عن مجموع الاستعدادات والقدرات عند الإنسان؛ والتي تمنح الفرد إطارًا يتحرك على أساسه. فإذا انسجم الإنسان وقابليته تلك؛ امتلك حقوقًا على قدرها. وكلما اتسعت قابليته كلما تملك حقوقًا أكثر.

والعدل هو أن نعدل فى استخدام هذه القابلية والقدرات التى مَنحَها الله للإنسان ووَضَعَ لها الضوابط التي تُحدد إطار عملها، وبيّن وجه الاستفادة منها على ضوء مصلحة الفرد والمجتمع الإنساني لا على ضوء ما يشتهى الإنسان ضاربًا بمصلحة المجتمع عرض الحائط معتقدًا أنه بهذا ينفع نفسه. فمثلًا القوى الغضبية التى منحها الخالق للإنسان؛على الفرد أن يستخدمها بالعدل؛ فيستخدمها لحفظ نفسه ومنع الاعتداء عليه لا من أجل الظلم والتسلط والتعدى على الغير.
ويعتقد بعض الفلاسفة الماديين أن العدالة ليس لها وجود فى فطرة البشر وأنها غير واقعية بالمرة ويقولون بأن العدالة من اختراع الضعفاء والعاجزين؛ من أجل أن يواجهوا الأقوياء وأن يستميلوا عطفهم بأن العدالة شئ حسن ويقولون بأن الضعفاء ما إن يصيروا أقوياء حتى يفعلوا بالأضعف ما فعله بهم الأقوى!

إن العدل أمر واقعى لا يمكن إنكاره لأن العدل تابع للحق، والحق له واقعية يكتسبها من أصل الخلقة؛ فكما ذكرنا أن كل موجود يتمتع فى أصل خلقته ونشأته بقابلية واستحقاقات معينة بالإضافة إلى ما يكتسبه من استحقاقات. وليست العدالة بأكثر من أن يأخذ كل ذى حق حقه دون ظلم أو محاباة. فالعدل والحق لا ينفصلان ولا يمكن تخيل أحدهما دون الآخر. وأما من يقولون بأن الحق هو حق القوة وأنه لا شئ يسمى الحق المطلق فهؤلاء لا نملك أى أرضية مشتركة بيننا وبينهم لنحاورهم بشأن العدالة؛ فالحق عندهم مُشوَّه الأصل فمن أى نقطة ثابتة نبدأ معهم؟! وفكرتهم هذه هى ما يَجُر عالمنا اليوم إلى الدمار.
وأما بالنسبة إلى أن العدالة لا وجود لها فى فطرة البشر فهذا غير صحيح؛ فالإنسان بفطرته وتكوينه يحب أشياءًا فى الحياة ولا يملك دليلًا على ذلك سوى تركيبه النفسى والروحى كحب الإنسان للجمال، والعدالة من مصاديق الجمال؛ فهى من الجمال المعقول لا المحسوس فالعدل مرتكز فى فطرة البشر وإذا رُبِّىَ الإنسان بصورة صحيحة كما أمر الإله؛ فإنه حتمًا سيصل إلى المرحلة التى يصبح عندها طالبًا للعدالة بنفسه، ومحققًا لها على أرض الواقع. وسَيفضِّل العدالة الجماعية على مصلحته الشخصية؛ ذلك لأنه يصبح مدركًا أنَّ مصلحته تنطلق من العدل ومن مصلحة الجماعة. وأن التشريع الإلهي الذي يُحَقق العدالة الاجتماعية يؤكد على الاستعدادات والقابليات الفطرية عند الإنسان، ولا يهملها بأى شكل كان، بل هى وُضِعت فى البشر ليتكامل ولتتَحقق العدالة الجماعية.

وعند التفكير فى أن العدالة من اختراع الضعفاء وأن الأقوياء لا يأبهون بها؛ سرعان ما يرفض العقل هذه الفكرة؛ فهناك أفراد بين البشر أثبت التاريخ أنهم حققوا العدل وهم أقوياء، ودون أن يجبرهم أحد على ذلك. ودافعهم الوحيد كان حب العدل، وإدراكهم أن العدل من أصل الخلقة، وأن التفريط فيه يخل بميزان الحق والخير. ومن أبرز الأمثلة يوسف الصِّدِّيق الذى واجه الظلم صغيرًا من إخوته، وكبيرًا عندما دخل السجن بغير وجه حق. وعندما أتته القوة والنفوذ لم يسع للانتقام، ولم يطلب القصاص لنفسه؛ بل نشر العدل وأعطى كل فرد حقه كما ينبغى دون ظلم أو محاباة.
إذًا فالعدل أمر واقعى وقابل للتطبيق؛ لأنه يطابق فطرة الإنسان ويوافق قوانين الكون. ومخطئ من يعتقد أن العدل سيتحقق فقط فى الحياة الآخرة. فكيف هذا وقد وعدنا الإله بالعدل؟! بل على أساسه خُلق الكون والإنسان! فما الظلم إلا انعدام العدل. فالإله لا يُوجِد ما هو سيئ وضار بالبشرية؛ فهو لم يخلق شيئًا يُدعى ظلم، ولكن خلق العدل وما نراه الآن ليس إلا تغييبًا للعدل. فكيف نقنع بأنَّ الأصل هو العدم ونُنكر الموجود ونجعله الاستثناء؟! إنَّ الحياة لن تنتهى إلا بتحقيق العدل؛ فهو الغاية التى من أجلها وُجدت البشرية، وهو وعد الخالق وغاية الإنسان التى يجب أن يسعى إليها، وهو قادر على أن يحققها. فلا تجعل ما تراه حولك يُشوِّش عقلك ويُبدّل لك الواقع بالوهم! وإن سألوك عن العدل فقل لهم هو وعد على الإله حق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

دعاء محمود

طالبة بكلية الطب جامعة المنصورة

باحثة بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة

مقالات ذات صلة