علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

نادي لاعقي الأحذية!

هل شاركت يومًا في اجتماع عملٍ واقترح فيه رئيس الجلسة شيئًا تراه تافهًا أو غير مهني أو مفتقرًا إلى العقلانية، لكنك فوجئت بموافقة ومُباركة بعض الحضور على الفور، بل وربما مبالغتهم في الثناء على حكمة الرئيس ورؤيته الثاقبة ومهاراته التحليلية، ما أصابك بحالةٍ من الاشمئزاز والرغبة في التقيؤ؟

هل رأيت يومًا حفنة من زملائك في الشركة أو المؤسسة التي تعمل فيها يلتفون حول مديرهم أو رئيسهم كأذيالٍ له، ويجعلون مكتبه قِبلةً لهم ومعبدًا يؤدون فيه فروض الولاء والطاعة، ويطوفون خلفه داخل البناية مُهللين لهيبته، ويصطفون خلفه خاشعين في كل لقطة كإمامٍ معصومٍ لهم؟

هل وجدت ذا منصب تعرفه ينشر شيئًا تافهًا في فضاء التواصل الاجتماعي فإذا بأيقونات الإعجاب ومبادرات المشاركة تنهال على منشوره وكأنه قد أمسك بلآلئ الحكمة الغائبة؟!

إن كنت قد شاركت ورأيت ووعيت فأنت على دراية بهم مشوبةٍ باليأس واللا مبالاة، وإن كانت الدهشة ما زالت تصيبك فأهلًا بك في جولة داخل “نادي لاعقي الأحذية”، المعروف أيضًا باسم “حزب المتملقين”، أو “جمعية ماسحي الأجواخ”!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ما هو النفاق الاجتماعي؟

يمكن تعريف لعق الحذاء (Boot Licking) ببساطة أنه سلوكٌ ممقوت من جانب شخصٍ ما يهدف إلى جعل شخص آخر –عادة ما يكون رئيسه أو مديره أو أستاذه، أو صاحب مالٍ أو منصبٍ لا يمت له بصلة– يشعر بالرضا، وذلك لخدمة مصالح شخصية قد تكون غير مُستحقة، وغالبًا ما يكون هذا السلوك وقتيًا أو مرحليًا، بمعنى أن انتفاء المصلحة يعني توقف هذا السلوك، بل وربما انقلابه إلى النقيض.

أنماط النفاق الاجتماعي

كلمات عن نفاق الناس - نادي لاعقي الأحذية!تتنوع أنماط هذا السلوك، بدايةً من المدح والإطراء المبالغ فيه، ومرورًا بتقديم الهدايا، والتذلل والخضوع، والوشاية بالآخرين، وإنجاز الخدمات الأسرية والترفيهية، إلخ، ووصولًا إلى الضحك على النكات والدعابات حتى حين لا تكون مثيرة للضحك!

بعبارة أخرى، يُرادف لعق الحذاء ممارسات التملق والنفاق، وهي ممارسات تستلزم مهارات خاصة يُجيدها اليوم كثرةٌ من الناس، لعل أهمها سرعة البديهة، واللباقة في التحدث، والدبلوماسية في التعامل، ورحابة الخيال، والقدرة على القيام بمهامٍ تتجاوز إطار العمل والتخصص، والاستعداد التام لهدر الكرامة والكبرياء وعزة النفس تحت أقدام السادة.

في معية هذه المهارات تغدو ازدواجية المعايير منهاجًا أصيلًا للحياة؛ الكذب يمكن أن يكون سلوكًا مُشينًا، ويمكن أن يكون تقيةً مطلوبةً وفقًا للمصلحة.

المكر والاحتيال يمكن أن يندرجا في عداد الخُبث المذموم، ويمكن أن يكونا نوعًا من أنواع الذكاء والفطنة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الفساد والرشوة وإهدار المال العام أمورٌ تحتمل الخيانة وتحتمل البراعة والقدرة على تطويع نصوص القانون، وأي امرئ يمكن أن يكون بطلًا ويمكن أن يكون إرهابيًا كارهًا لنجاحات الوطن!

أمثلة على النفاق الاجتماعي

بقدر ما تثير هذه الممارسات من قبل لاعقي الأحذية اشمئزازًا وكراهية لدى الشرفاء وأصحاب الكفاءات المُهدرة، بقدر ما هي راسخة وأصيلة في النظم السياسية والمؤسسات والبنى الاجتماعية على تنوعها، بل وتضرب بجذورها في عمق التاريخ، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة.

الفيلسوف أريستبوس

كان فيلسوف المُتعة اليوناني أريستبوس (Aristippus) –تلميذ سقراط وأول طلابه جمعًا للمال من تدريس الفلسفة– أحد هؤلاء الذين اتخذوا من التملق ولعق الحذاء وسيلة للصعود السريع،

حيث خدم في بلاط الطاغية ديونيسيوس الأول من سيراكيوز (Dionysius I of Syracuse) –من 432 إلى 367 قبل الميلاد تقريبًا– أو ربما ابنه ديونيسيوس الأصغر (Dionysius the Younger) –من 397 إلى 343 قبل الميلاد تقريبًا، وكان يتقاضى أجرًا عاليًا مقابل تعليمه.

عندما وصل إلى القصر لأول مرة، سأله ديونيسيوس عما كان يفعله من قبل، فردَّ قائلًا: “عندما أردت الحكمة ذهبت إلى سقراط، لكني الآن أريد المال، ولذا جئت إليك!”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ذات مرة، وبينما كان الفيلسوف اليوناني ديوجين (Diogenes) يغسل العدس ليُعد منه حساءه، رآه أريستبوس، وكان قد وصل إلى درجة صارخة من حياة الترف والراحة بفضل تودده للحاكم، فقال له بسخرية: “لو تعلمت كيف تتملق الحاكم لما كان عليك أن تقتات على غذاءٍ تافه مثل العدس!”، فأجابه ديوجين بازدراء: “ولو أنك تعلمت أن تعيش على غذاء مثل العدس لما احتجت قط إلى تملق الحاكم!”.

أبرز أبيات النفاق للشاعر محمد بن عاصم الموقفي

كذلك يحفل تاريخنا العربي بأمثلة لا حصر لها لممارسات التملق والنفاق ولعق الأحذية، لا سيما من قبل الشعراء الذين نظموا قصائد عصماء –تُعد من عيون الشعر العربي– في مدح الساسة والحكام.

من أبرز أبيات النفاق الطريفة بيتٌ شعري –نُسب خطأً للمتنبي– قاله الشاعر محمد بن عاصم الموقفي في مدح كافور الإخشيدي (905 – 968 م)، بعد حدوثِ زلزال في مصر إبان فترة حُكمه، إذ راح ينشد:

ما زُلزلت مِصرُ من كَيدٍ ألمَّ بها              بل رقصت من عَدلِكم طَرَبا

اقرأ أيضاً: النفاق من المسرح إلى الحياة العامة

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تعرف على: أخلاق الفرسان

اقرأ أيضاً: النميمة وفراغنا

مدح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله

بل وصل الحالُ ببعضِ الشعراءِ إلى حد انتهاك المقدسات، كما فعل الشاعر ابن هانئ الأندلسي (المتوفي سنة 973 م)، وهو يمدح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله (931 – 975 م)، فأنشد قائلًا:

ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ                 فاحكُم فأنت الواحد القهّار

وكأنما أنت النبيُ محمدٌ                      وكأنما أنصارك الأنصار

أنت الذي كانتْ تُبشرنا به                   في كُتبها الأحبارُ والأخبارُ

هذا إمامُ المتقين ومن به                    قد دُوِخ الطُغيانُ والكُفار

هذا الذي ترجى النجاةُ بحبه                وبه يحطُ الإصرُ والأوزار

هذا الذي تُجدي شفاعته غدًا              وتفجرت وتدفقت أنهار

الشيخ بهاء الدين أبو حامد أحمد بن علي بن محمد السبكي

من طرائف النفاق أيضًا في الأدب العربي ما حدث مع السلطان الملك الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون (1334 – 1361 م) صاحب الأثر العظيم المعروف مسجد السلطان حسن، حيث شرع السلطان في بناء أربع مآذن للمسجد، وتم بالفعل بناء ثلاثٍ منها.

إلا أن إحدى هذه المآذن قد سقطت وانهارت، وكان من سوء الحظ أنها وقعت عند الباب، فهلك تحتها ثلاثمائة نفس من الأيتام، وستة من غير الأيتام، فأبطل السلطان بناءها، وقد تطير بها، وتأخر هناك منارتان، هما قائمتان إلى اليوم،

ولما سقطت المئذنة المذكورة، لهج عامة مصر والقاهرة، بأن ذلك مُنذرٌ بزوال الدولة، فقال الشيخ بهاء الدين أبو حامد أحمد بن علي بن محمد السبكي (1319 – 1372 م) في سقوطها –وهو ما سجله عبد الغني إسماعيل النابلسي في كتابه «الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز»، ص 216–:

أبشر فسعدُك يا سُلطان مصر                 أتى بشيرهُ بمقالٍ سار كالمثلِ

إن المنارة لم تسقط لمنقصةٍ          لكن لسرٍ خفيٍ قد تبين لي

من تحتها قُرئ القرآن فاستمعت             فالوُجد في الحال أداها إلى الميلِ

لو أنزل الله قرآنًا على جبلٍ                      تصدعت والله من شدة الوجلِ

تلك الحجارة لم تنقض بل هبطت             من خشيةِ الله لا للضعفِ والخللِ

وغاب سُلطانها فاستوحشت ورمت         بنفسها لجوى في القلبِ مشتعل

فالحمد لله حظ العين زال بما          قد كان قدّره الرحمن في الأزلِ

لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسةً            شيدتَ بنيانها للعلم والعمل

ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأت             علمًا فليس بمصر غير مشتغل

مظاهر النفاق الاجتماعي

sttat11cover001 - نادي لاعقي الأحذية!من جهة أخرى، لطالما كان لعق الحذاء موضوعًا خصبًا للثقافة العامة وأدبيات رجل الشارع، فقيل في الأمثال الشعبية: “تمسكن لتتمكن”، و”تملق لتتسلق”، و”لو كان لك عند الكلب حاجةً قل له يا سيدي”.

أيضًا تتنوع مظاهر وممارسات لعق الحذاء في حياتنا اليومية المعاصرة، وعلى اختلاف البيئات والدرجات الاجتماعية والتعليمية والوظيفية. ومن أشهر هذه المظاهر والممارسات:

مداهنة المسؤول:

والطريقة المُثلى لذلك هي اغتنام الفرصة للتأكد من أن كل نزوات ورغبات المسؤول تتحقق. ويمكن أن يكون هذا من خلال تقديم أطعمة ومشروبات المسؤول والحرص عليها في مواعيدها، إلى المبادرة بإشعال سجائره إن كان يُدخن، إلى التطوع بحمل حقيبته، إلخ.

الإطراء المبالغ فيه:

ويتمثل في مدح المسؤول وكل ما يتعلق به، بدايةً من نمط ارتداء ملابسه ،وصولًا إلى الفريق الذي يُشجعه ويحرص على متابعته.

تقديم الهدايا:

وهذه طريقة مفضلة لدى الطرفين، ويمكن أن تمتد إلى زوجة وأبناء المسؤول. وكلما ازدادت تكلفة الهدية، كان ذلك دليلًا على قوة التبعية وشدة الالتصاق بالحذاء.

تزييف الحقيقة:

بمعنى نقل الأخبار السارة فقط إلى –وعن– المسؤول، فالهدف النهائي لمن يلعق الحذاء هو إرضاء رئيسه فقط، ومن ثم يعمد غالبًا إلى إنكار أية جوانب نقص فيما يقوم به ويقع تحت مسؤوليته مباشرةً، وهو ما يُرحب به المسؤول أيضًا كمسوغ للبقاء في منصبه.

إدمان لعق الأحذية

أخيرًا، لعل المشكلة الرئيسة في ظاهرة لعق الحذاء هو تأثيرها البالغ على كفاءة وفعالية الدولة أو المؤسسة أو المنظومة، لأنها ببساطة تشوه عملية صنع القرار، حيث تُطوع القرارات لخدمة المصالح الشخصية لبعض الأفراد بدلًا من المصالح العامة المُلحة.

الأهم والأخطر من ذلك هو وجود أفراد في مناصب مهمة، ليس لأنهم جيدون في عملهم، ولكن لأنهم ماهرون في فن لعق الحذاء، وما أكثر هؤلاء في دولة النفاق، أو كما قال عثمان أمين:

إذا كنت في دولة النفاق                     فاعدل بساق ومل بساق

ولا تُحقق ولا تُدقق                            وانسب شامًا إلى عراق

ولا تُخاصم ولا تُصادق                         وقابل الكل بالعناق

فأي شيء كأي شيء                       بلا اختلاف ولا اتفاق!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة