إصداراتمقالات

الناي السحري

الناي السحري

رقد الجسد الهامد على الفراش الرث يتقلب في الألم. ونظر چون إلى نفسه بحسرة. فجسده المغطى بالقرح والبقع السوداء يبعث على الحزن والأسف. أين هذا الجسد مما كان عليه من الصحة والجمال والنقاء والشباب؟ لم يتبقَ منه بعد أن تفشى الطاعون في البلاد وأصاب الناس إلا هذه الجيفة المرقعة البالية التي تنفر كل بصر وتبعد كل قريب. مرت البارحة دورية الحجر الصحي التابعة للبلدية ووضعت علامة اللعنة (X) على باب داره لتنبه الناس من أن سكان هذا الدار ملعونون من السماء كما وصفتهم السلطة الدينية. فلا يجب التعامل معهم إلا بحذر وحرص حتى لا تنتقل لهم اللعنة. “هكذا تنظر لنا سلطة البابا” قال چون لنفسه ” أننا وباء، ماذا فعلنا للبابا ليتخلى عنا ويعزلنا عن المجتمع كأننا جراثيم غير مرغوب فيها، أين كانت هذه القسوة حين كان يجمعون منا الذهب في مقابل صكوك غفرانهم؟ التي وعدونا أن تكون لنا خلاصا من العذاب وضمانا بالجنة؟ هل هذا هو الخلاص الذي وعدونا به أن نموت صبرا كالحشرات بالأمراض والأوبئة التي عجزوا عن معالجتها؟”.

ثم تذكر چون زيارة القسيس لهم ليعالجه من هذا المرض اللعين. دخل عليه القسيس وهو مشمئز وخائف يكاد لا يستطيع الحركة تحت وطأة وزنه الهائل وقال چون لنفسه ساخرا “الآن عرفت أين تذهب أموال صكوك الغفران”. وكل همه ألا يصيبه المرض ثم تمتم ببعض التعاويذ المبهمة ومسح عليه ببعض الزيوت. ثم أحل عليه البركة وانصرف ليتكلم مع أهله الذين ينتظرون شفاءه بفارغ الصبر. فالعمل معطل والأطفال جياع والحالة مزرية. ولقد كانوا ينتظرون زيارة القسيس ليعالج چون بفارغ الصبر. فالكنيسة هي الراعي والبابا كلمة الله وإذا باركتهم كلمة الله فالشفاء مضمون. وسرعان ما يقوم چون سليما معافيا وتعود السعادة والضحكة للمنزل الذي أصبح كالقبر لا يعرف الضحكة ولا الضيوف. ولكن سرعان ما تبخرت تلك الأحلام في الهواء وتلاشت. فالقسيس لم يلبث في الغرفة إلا بضع دقائق ثم خرج نافرا من الغرفة يطلب بعض الخمر الكحولي ليطهر به يده إثر ملامسة المريض. ثم جعل يصرخ فيهم كنذير الموت. وقال لهم أن ما أصاب چون لعنة من الله وغضب نتيجة لذنوبه وتهاونه في حق الرب. وأن الشفاء لا يكون إلا إذا حضر أعضاء أسرته القداس في الأحد وتقربوا لله وصلوا وتضرعوا وتبرعوا للكنيسة بالصدقات وطلبوا الخلاص والمغفرة.

تعجبت زوجته فهم دائما ما يحضرون للكنيسة يوم الأحد ويتبرعون وكثيرا ما اشتروا صكوك الغفران التي قالت سلطة البابا أنها خلاصا لهم من المعاناة. لقد صار الوضع مفضوحا. فسلطة البابا لا تهتم بالمرضى ولا الضعفاء ولا الفقراء ولا بمعاناة المستضعفين. فبينما الناس تقاسي ويلات الأمراض البدنية والاجتماعية يتقاسم رجال الدين مع رجال الملك كل ما لذ وطاب من الطعام والشراب وسبل الراحة والرفاهية. ومن أين تأتيهم هذه الرفاهية إنها من عرق جبين الفقراء والمستضغفين. فهؤلاء الغيلان الذين يمتصون دماء الفقراء وأرزاقهم. فيأخذون كل شيء ولا يشاركون بشيء. بينما الفقير والعامل لا يأخذ شيئا وهو الذي يقوم بكل المجهود. إن في القلب لغصة وفي الحلق لمرارة من هذا الظلم والطغيان علينا. أي إله هذا الذي يسلط علينا هذه القسوة واللاإنسانية؟ أليس الله رحيم؟ فلماذا كلمته على الأرض (البابا) قاسي؟ أليس الله عادل؟ فلم ظله على الأرض (الملك) ظالم؟ إن في العقل لشك مرير في هذا النظام برمته. هذا الشك يزلزل لنا أفكارنا وعقائدنا التي ورثناها فأورثتنا كل هم وغم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن هذه الحالة من اليأس والعجز التي وصل لها المجتمع الأوروبي كانت التربة الخصبة والمناخ المناسب الذي كانت تحتاج له السفسطائية الحديثة. فلطالما اصطدمت مدرسة الكهنوت السلفية بالصعاب والمصائب ولكن القدر شاء لهذه المدرسة البالية أن تتحمل هذا العناء وتخرج من تلك الأزمات ببعض من القوة والسلطة. ولكن الاستفحال في الفساد المتمثل في صكوك الغفران مع جشع ورفاهية القيادات الدينية. مضافا إلى ذلك سقوط الرؤية الكونية للكنيسة بعد اكتشافات جاليليو والذي سدد الضربة القاضية لنظرية أن الأرض مركز الكون والكنيسة مركز الأرض وأن البابا هو فم الله فإذا تكلم تكلم الله من خلاله ليطرح نظرية النظام الشمسي الذي زلزل وهدم عرش الكنيسة. وأما على صعيد العلوم التطبيقية فإن انخراط القيادات الدينية في اصطناع التقشف والزهد مع التمسك بقصر تفسير الكتاب المقدس على الكنيسة واتجاههم للخزعبلات والأوهام التي وصفوها بهتانا بالتصوف والإشراق. ولم يعطوا للرهبنة والتصوف حقه وقدره فاستغلوه كساتر ومبرر لأفعالهم المشينة. فانتشرت في روما المومسات اللاتي تخصصن في إرضاء رغبات وشهوات رجال الدين. كل هذا الفساد تحت عين البابا وبراعيته. وقد تعاونت القيادات الدينية مع طواغيت الحكم الملكي لتبرير الضرائب العالية على الرعية ومحاكم التفتيش والإقطاعية الظالمة. فأضفت على الملوك صفة ظل الله. و نشرت العقائد الجبرية العقيمة التي تقتل الآمال في الحرية والعدل. بينما ظهرت قدرات علماء التطبيق فقدموا للناس المطابع والطواحين والمكابس والمطارق البخارية والهوائية التي حسنت من أوضاع الناس فزادت من انتاجيتهم وأرزاقهم. ولم يكَد الناس يفرحون بتلك الانفراجات والطفرات العلمية حتى سعت نفس القيادات الدينية والملكية للسيطرة عليها تارة بحجة السحر والشعوذة وتارة بالضرائب المجحفة والحجز على الممتلكات والإرهاب الأمني.

لقد كان علماء المدرسة التجريبية باخترعاتهم واكتشفاتهم هم تجسيد لفكرة عازف الناي السحري التي ذكرتها القصة المشهورة. إن هذه الرموز حاولت مرارا وتكرارا التصالح والتوفيق مع المدرسة اللاهوتية . ولكن لم يجدوا إلى ذلك من سبيل. ودام هذا الصراع لقرون كثيرة والنصر تارة في صالح هذه المدرسة وتارة لتلك. حتى انتهي الصراع في النهاية بالنصر الحاسم للمدرسة التجريبية. بعد أن صدقت المدرسة التجريبية في وعودها فقدمت للناس الوسائل الحديثة لتسهيل حياتهم وزيادة مكاسبهم في الدنيا. ولكن كان الثمن باهظا.

فلقد ولد هذا الصراع المرير لقرون عدة وهذا النصر الساحق للتجربية عقدة نفسية مريرة من كل ما هو لاهوتي أو إلهي. إن الخطأ حينما يصدر من التجريبي لا يرجع للتجريبيين و مدرستهم ككل. بل للتجربة أو الشخص بذاته. ولكن الهالة القدسية التي يفرضها الواقع على المدرسة الدينية لا يسمح للناس أن تسامح في حالة صدور خطأ طفيف ممن يمثل المدرسة اللاهوتية. فتوصم المدرسة كلها بالخطأ ولا تعامله على أنه حالة فردية. ولهذا فإن كل الأنبياء والرسل و الأوصياء في كل الرسل السماوية كانوا يحثون أتباعهم وحواريهم وصحابتهم على الالتزام وأن يكونوا للمدرسة والرسالة التي يمثلونها شيما ومثالا كريما ولا يكونوا عليها عارا ووبالا. لأن الناس البسيطة سيهملون الرسالة بما فيها بعقلية التعميم فيقولون بما أن بعض الرجال من حملة هذه الرسالة فشلوا في التطبيق إذا كل المدرسة فاشلة. ومن الوارد كما حدث في أوروبا أن يغريهم عازف الناي السحري بالدنيا والمادة فيتجهوا بالثنائية للعكس باعتباره النقيض. فيقولوا: لما كانت الروحانية والتدين مفسدة وأضحوكة وألم ومعاناة إذا فالمادية والحيوانية المطلقة منفعة ونعيم حقيقي. وهذه هي حقيقة وواقع المأساة في النظام الغربي الرأسمالي الذي انطلق بنظرة مادية سطحية غير متأنية للحياة ليعبد ويقدس كل مادة وجسد وأقصت ورفضت كل ما هو لا مادي على أنه هوس وخيال وعاطفة لا قيمة له مطلقا. وكان هذا عندا ومناطحة للمدرسة اللاهوتية السلفية المتحجرة التي كانت تفعل العكس تماما.

وكانت وعود الديمقراطية الرأسمالية بنظرتها المادية أنه يستحيل أن نعود للوراء. فالحريات الأربعة الشخصية والفكرية والاقتصادية والسياسية وحدها دون أي قيد أو شرط أخلاقي أو لا مادي كفيلة بحفظ المجتمع وتحقيق العدالية فيه. فلا ظلم ولا جور ولا طغيان ولا طاعون ولا ضرائب ولا طبقة إقطاعية ظالمة تسرق قوت الناس. وكانت هذه الوعود خاوية تحمل الدجل والمغالطات. فإطلاق النفس الشهوية والغضبية بلا واعز ديني أو أخلاقي خلق وحش الرأسمالية الاجتماعي الكاسر الغاصب الذي ما لبث أن أفرز من جديد طبقة رجال الأعمال الأرستقراطية المتوحشة التي جرعت المجتمع نفس الكأس المر من قلة الرزق ومرارة العيش والكدح الشاق في العمل مقابل القليل. وعليه كانت الرأسمالية بديمقراطيتها السياسية إعادة إنتاج للنظام الإقطاعي الغاشم ولكن بستار الانتخاب. أي أن الشعب الذي ثار على الإقطاعية عاد لها و لكن باختياره وصندوق الانتخاب. وكأن شعور الإنسان بأنه ينتخب ويؤثر سياسيا في تقرير مصيره سيخفف من مرارة هذا المصير الذي ماهو إلا نفس السم الزعاف الذي ثار عليه آباؤه و أجداده.

وصندوق الاقتراع وما أدراك ما صندوق الاقتراع؟ له حملات انتخابية لا يستطيع على تمويلها إلا نفس القيادات الرأسمالية المتوحشة الفاحشة الثراء. والتي بالتأكيد لن تمول أي قدوة أو قيادة سياسية لها ميل أو فكر يعارض مصالحها وسلطتها. فكل من يسعى لأن يحطم الناي السحري المتمثل في المادية والديمقراطية مصيره الهلاك حتى وإن كان رئيس البلاد. وأما عن الحرية السياسية المزعومة المتمثلة في حرية المواطن في التصويت، فهذه الأضحوكة تتلاشى مع الفقر والجهل. فطالما أن القنوات الإعلامية تخاطب في الناس الخوف والجهل المتفشي فيهم لتردي التعليم وأن ورقات البنكنوت تخاطب معدة الفقير الجائعة التي لا تنال من القوت إلا القليل فلا تتوقع من العوام إلا الغوغائية والسير في القطيع خلف رائحة الكلأ الزائفة التي صورها لهم إعلام زائف وأثرياء جشعون. فلا حرية سياسية مع هذا النظام. إلا حرية اختيار طريقة الأسر والقهر. فهل تفضل أن يفصل لك أصفاد من حديد أم من فولاذ. كما تنبأ لها سقراط منذ أكثر من 2000 عام!!!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وفي النهاية كاد الشعب أن يثور. و لكن كان في جعبة نافخ الناي السحري لحن آخر ليعزفه. فنوه ماركس أن الخطأ في الرأسمالية ليس في المادية فلا تعودوا للروحانية بل إن المادية مفهوم صحيح. وإنما الخطأ في تعظيم شخصية الإنسان الفردية وتقزيم شخصية الإنسان الاجتماعية. فسخرت الجموع لخدمة الفرد. فسار طاغوتا. فنظر للعكس في اتجاه تعميمي ثنائي يكرر نفسه مرة أخرى. فإذا كانت من ظواهر الفساد في الرأسمالية تفشي الملكيات الخاصة المهولة عند الأرستقراطية وانعدامها عن العمال. إذا فالحل في نسف الملكية الخاصة تماما. ولنصل بالإنسان لحالة مثالية (خيالية) يكون فيها متناقضًا مع نفسه. فيدرك أن الكون ماديا وأن المنفعة المادية واللذة المادية هما كل الحياة وفي نفس الوقت لا يريد تملك هذه المادة بل ينفر منها ويبتعد عنها في مثالية مبدئية عجيبة. فلا يمتلك المادة كفرد إلا من خلالامتلاك المجتمع لها كآلة إجتماعية عملاقة. فالآلة الاجتماعية ومصلحتها العليا هي التي تحدد له ماذا وكم يملك ويأكل. افترض أن هذه الآلة ستصل في الحالة المثالية للقيادة الذاتية فلا تحتاج لعقل مدبر أو حكومة لتقودها. فيصل المجتمع لحالة لا طبقية مثالية توزع فيه الأرزاق وفق الحاجة والأعمال وفق القدرة. و لكن ظهرت مشكلة أن المجتمع لم يصل لتلك الحالة بعد. بل هو مدفون في حب الملكية الخاصة متعلق بها. فاقترح منظروا الماركسية ضرورة الحزب الشيوعي الحاكم الذي يكون من العمال بالضرورة وينقل له كل الملكيات الخاصة المأممة لينظم إدارتها وعملها. وافترضوا أن هذه القيادة مثالية بالقدر الكافي لكي تدير تلك الملكية الخاصة المهولة دون أن يفتتنوا بها ويعشقوها. وسيمرون بنفس الرحلة العلاجية مع المجتمع ليخرجوا منها وقد انتزعوا كل حب للملكية الخاصة من قلوبهم. ويتنازلوا عن السلطة التي انتهى دورها دون عناء أو صعوبة ليمتزجوا مع المجتمع اللاطبقي المثالي الجديد. وحدث المحظور فاستفردت تلك القيادات الشرهة للحكم بالملكيات وأفسدوا فيها وسرقوها ونهبوها. فأعاد المجتمع الشيوعي فوز طبقة الأرستقراطين والإقطاعيين التي حاربت الإنسانية ضدها بمرارة.

إن نافخ الناي السحري في القصة الحقيقية انتهي إلى أنه فشل في التوفيق بين أسلوبه التجريبي التطبيقي في علاج الطاعون وبين العقليات اللاهوتية والإقطاعية المتمثلة في الجيل القديم في المجتمع. ورفضوا أن يكافؤوه على مساعدته لهم و دفع أجره. فانطلق نافخ الناي  السحري لينتقم. فعزف على الناي لحنا جديدا استدرج كل الشباب والأطفال وهم مستقبل البلد وساروا خلفه بتعميم وثنائية لافظين نهج الآباء والأجداد اللاهوتي الإقطاعي. فانتهي بهم في عزفه وسيره إلى بحر السفسطائية والنسبية وجذبهم إليه وهم لا “يفقهون” العوم في بحار الفلسفة فغرقوا وهلكوا. وهكذا هو حال البشر منذ ذلك العهد المشؤوم. نسير وراء كل صاحب نعرة ولحن جديد بالتنويم المغناطيسي وعذب المقال والجهل والخوف والشهوة في المال والثروة. وعندما نفيق نجد أنفسنا والأمواج تلاطمنا ونهلك في بحر الأفكار الفاسدة والنسبية والعدمية المادية.

ما من رسول خلا إلا ونبه قومه من عازف الناي السفسطائي والذي بعد أن أنهك الغرب ودمره ينظر للشرق ويكشر له عن أنيابه. ما من دين خلا إلا ونبه الناس أن خذوا من الدنيا مقدار حاجتكم وتحكموا فيها ولكن لا تعبدوها وتسجدوا لها. ولا تنسوا أن الدنيا رحلة ومرحلة واختبار وإعداد لمرحلة تليها فيها إما العذاب الأبدي أو النعيم الأبدي. ولم يعد الإنسان بالخرافات والأوهام. بل ترك له العقل وسيلة للاستدلال في منظومة بديعة قل لها نظير. منظومة لا يتعداها في عظمتها إلا عظمة ناظمها القادر المدبر. فالعقل مشرف والحس والتجربة والأخبار السالفة والإشراق والتصوف أدوات تعمل بإشرافه وداخل أطر وقواعد العقل المنطقية. ولكن أكثر الناس لا يعقلون!!!

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة