الحضرة
لقد بدأ يتذكر كل شيء رويدا رويدا، استيقظ من نومه مذعورا، لا يكاد يلوي على شيء، ما هذا الذي رأى، لم يستدع الأمر سوى بضع هنيهات ليحتسي فيها قدح الشاي، وما إن ارتشف رشفة حتى تداعت كل التفاصيل كأنه يراها رأي العين، وها هو يسرد ما حدث له في هذا المنام العجيب.
المنام العجيب
مريضا يفيق من غيبوبته
بدا كما لو كان مريضا يفيق من غيبوبة طويلة بعد عملية جراحية أخذ فيها مخدرا كاملا، ثم بدأ يستعيد كل التفاصيل التي حدثت له قبيل حقنه بالمخدر، إنه هو، نعم، إنه هو، وهل يمكن أن ينكر ذاته؟!
هو بشحمه ولحمه كما يقولون، يرتدي ملابسه الرسمية التي يذهب بها إلى وظيفته، وإن تراءى له عدم ارتدائه معطفه، أو جاكته الذي لم يكن يفارقه، يبدو أن السر في ذلك أن الجو صيف، بدليل أن القميص كان شفافا، وبنصف كم،
لكن ما هي تلك الوظيفة؟! لا يدري الآن كنهها تماما، لكنه فجأة يرى نفسه قريبا من مجرى ماء، لا يبدو أن هذا الماء نيل أو بحر كبير، ربما تبدت ترعة صغيرة، لكنها كانت رائعة، ظهر ذلك من نقاء الماء، وأثر صورته على صفحتها.
انفض الجمع من حوله، والذين لا يكاد يتذكر صورة أحد منهم، وإن تراءى له بعض أشباح، فهل هم من زملاء العمل، أم كانوا من عابري السبيل الذين تحلقوا على هذا الجدول المائي الجميل؟!
لا يدري، لكنهم في النهاية انصرفوا وتركوه، كان يتجهز للمسير معهم، فما الذي أخره عنهم؟! ألم يكن من الأجدى أن يسير في ركابهم، لماذا فضل أن يتأخر عنهم، ويعود بمفرده، لا يدري بالضبط، أو أنه لا يتذكر الآن!
محاولات للعثور على القلم
هَمّ أن يتحرك مستعدا للقفول ومغادرة المكان، لكن عينه وقعت في حافة هذا المجرى على شيء ثمين، نعم، إنه قلم، وقد وضع في علبة جميلة، لا يبدو عليه أنه من النوع الغالي، لكنه لا يتمالك نفسه أمام الأقلام، إنه يعشقها،
وإن لم يبد له الآن لماذا كان يعشقها؟! فهل لذلك علاقة بوظيفته، أو مهنته، أو بهواية له، لا يدري الآن، لأنه باختصار لا يتذكر الوظيفة التي يعمل بها، أمر جيد، إنه قلم، حدث نفسه، إذن لا بد أن يلتقطه، حاول أن ينتشله بيديه، لم يستطع،
مال بجسمه قليلا، ربما يحركه من مكانه، لا سيما وأن الماء لم يكن عميقا، لكن محاولاته لم تفلح، لم يكن أمامه إذن إلا أن يخوض في الماء كي يحصل على بغيته، شيئا فشيئا غرقت رجله في بعض الماء، عبثا حاول أن يرفع رجله بسرعة، لم يستطع، وصل الماء إلى نصف بنطاله، لكنه سرعان ما أخرجها لكن بعد أن أغرق الماء ملابسه، ومن ثم غاصت رجله وحذاؤه في الماء.
هيئة لا تليق بشخصية صاحبها
وبعد هذا العناء التقط القلم، لكن بعد أن وقعت الواقعة، فغرقت نصف ساقه، وتبدلت هيئته، وها هو يسير وقد بدا في صورة لا تليق بشخصية مثله، حاول أن يسير تعثرت قدمه، التفت يمنة ويسرة فلم يجد أحدا، فاطمأن، خطا أولى خطواته،
لكنه لاحظ شيئا غريبا أن حذاءه الأيمن قد تهرأ نوعا ما، ما هذا إن الأمر يزداد سوءا، وفي كل خطوة يخطوها يتهرؤ الحذاء شيئا فشيئا، حتى إنه لم يعد يصلح للسير، إذن فماذا يفعل؟ حاول عبثا أن يعالج الأمر، ويكمل مشيه وسيره، لكن ذلك لم يُجْدِ شيئا،
ولكن ماذا يفعل؟ وعلى كل لا يهم، فلا أحد يراه، سيحاول قدر الإمكان أن يجتاز الطريق بسرعة حتى يصل إلى حيث يريد، ما هذا؟ إن الطريق ليس هو الذي اعتاد السير فيه، لم يفكر في الأمر كثيرا، فالذي كان يهمه هو أن الطريق خالٍ وأن أحدا لا يرى هيئته المبتذلة.
الأصوات الشجية
استكمل السير، بيد أنه كلما مشى تعثر، فكر أن يخلع الفردة اليسرى، ثم يمشي حافيا، لكنه فجأة وعند مفترق طرق سمع أصواتا شجية كأنها تخرج من حناجر ذهبية وأرواح سرمدية، وتمتمات لإيقاعات صوفية، اعتقد للوهلة الأولى أنه ربما يكون ذلك قرآن المغرب، تمهيدا لأذانه،
لكنه سرعان ما نفى هذا الاحتمال، فشمس الأصيل لا زالت ساطعة وإن قاربت على المغيب، إذن ما الأمر؟! ثمة شيء غريب، تجاوز المكان الذي كان فيه، فإذا به وكأنه في عالم آخر، وبيئة أخرى، وتبين له حينئذ سر هذه الأصوات الشجية وتلكم الهمهمات الروحية.
السرداق الضخم
اقترب أكثر فأكثر، سرادق ضخم، ولجه، ما هذا؟! سيمترية رائعة، اصطف الناس فيه بطريقة عجيبة، بدا كما لو أن هناك فريق عمل هو الذي وضعهم بهذه الصورة الرائعة، الأطفال، الشباب، الشيوخ، النساء، كل في مكانه لا يريمه،
دخل هذا السرادق العجيب، الذي تنبعث منه روائح زكية، ونكهات عنبرية، متناغمة مع تلكم الأصوات الملائكية، لم يلتفت إليه أحد، وكأنه لم يمر من بينهم، فكل مشغول بحالته، وكل في فلك يسبحون، رآهم وهم يتمايلون مع هذه الحالة، وتلك الأصوات،
في انجذاب عجيب، يتمايلون في كل اتجاه، يسرة ويمنة وشمالا وجنوبا، قد تاهوا في ملكوتهم، وراحوا في دنيا أخرى، تتقافز القلوب قبل الأجساد، تترنم الصدور، ومن ثم فلم يره من أحد مع أن السرادق كان فيه آلاف البشر نساء ورجالا، شبابا وشيوخا.
تمنى لو انتظر لكن خوفه على هيئته لم يسمح له
ود لو وقف هنيهة في محاولة منه أن يجلو أحزانه، ويشنف آذانه، بيد أنه لم يستطع، لقد تذكر أن عليه أن يعبر هذا السرادق بسرعة نظرا لتهرؤ حذائه الأيمن، حمد الله أن أحدا من الحاضرين لم يعرفه، أو ربما كما أخبر بأنهم كانوا في ملكوت آخر بسبب سحر الانتشاء الذي أصابهم، والفناء الذي أحاط بهم،
لقد بدأ يتذكر الآن، نعم لقد كان هذا السرادق أقرب ما يكون من الحضرة الصوفية، وما كانت تلك الأصوات وتلكم الهمهمات إلا مدائح نبوية، وفناء في الذات العلية، تحسَّر كثيرا أنه لم يقف حتى يقضي حق روح قد صدأت، ونفس قد احترقت، وذنوب قد ملأت.
لكنه خاف أن ينتبه إليه أحد، لا يدري هل سار متعثرا في حذائه الأيمن؟ أم أنه حمله بيديه، ومشى منتعلا اليسرى فقط؟ لا يدري بالضبط ماذا حدث.
مغادرة السرداق الضخم
المهم أنه وبلمح البصر، تجاوز السرادق، والأصوات تتلاشى شيئا فشيئا، وقبيل مغادرة السرادق رأى مجموعة من الأشخاص وقد ارتدوا جلابيبا، يبدو أنهم من المستقبلين للزائرين، أو المنظمين، لا، إنهم من المودعين، والغريب أن مدخل السرادق لم يكن عليه أشخاص ينظمون عملية الدخول، نعم، لا يتذكر أن أحدا قد أوقفه وسأله عن هويته، أو سبب دخوله،
مع أنه كان ذا هيئة لافتة للنظر، وربما قد حدث وهو لا يدري، لا، لا، لم يحدث، حيث إنه قد وجد نفسه فجأة وقد انتقل من عالم إلى عالم آخر، وتبادر إلى ذهنه السؤال، لماذا يوجد رجال عند الخروج والوداع، ولا يوجد مثلهم عند المدخل، وهو أولى؟!
مطاردة لإيقافه
لم يشغل باله كثيرا، حيث إنه فوجئ بهؤلاء الرجال وقد تراصوا، يبدو أنهم كانوا خمسة أو ستة رجال، لا يدري بالضبط، حاول ألا ينظر في أعينهم، كان يروم الاختباء حتى يمر الأمر بسلام، ولا يراه من أحد أو يشعر بهيئته الرثة غير اللائقة، فمنظره غريب، وبخاصة هذا الحذاء المتهرئ،
وبمجرد أن اقترب أكثر، استوقفوه، حاولوا أن يستعلموا عن هويته، وعن سبب دخوله وخروجه المبكر من السرادق، لم يعطهم فرصة، أخفى وجهه بيديه، كلمهم، أسرع الخروج، ما هذا؟! لقد هرولوا وراءه، أسرع أكثر، لقد كانوا مصرين على كشف حالته،
لم يرد أن يقف مهما كان الأمر، حمد الله أنهم لم ينظروا إلى مواضع قدميه وإلى حذائه الممزق، أسرع أكثر، اندفعوا خلفه، رمقه أحدهم، فوقعت عينه على عينه، إنه هو، ما هذا؟
إنه يعرفه جيدا، وإن كانت العلاقة بينهما قد ساءت في الفترة الأخيرة، حتى كادت بلا سلام ولا كلام، أطرق الرجل بعد أن تبين شخصيته، ثم تقهقر بينما انصرف صاحبنا إلى حيث يريد، ولم ينبس كلاهما ببنت شفة!
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا