قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الواحد والعشرون

المدرسة المشَّائية: (19) ابن سينا: الشيخ الرئيس وكتابه الشفاء

فلسفة الوجود السينوية: (9) وجود المعاد: البعث الجسماني والروحاني.

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشات السابقة (ج 18) عن وجود النبوة: كيفية دعوة النبي إلى الله. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة الوجود السينوية: وجود المعاد.

رابعًا: وجود المعاد

أ. المعادُ الجسماني: مَفْرُوغٌ منه في الشرع

لا ينكر ابن سينا، في كتابه الشفاء، المعادَ الجسماني ويكل أمره إلى الشريعة. وإذا أنتَ سألت: إذا فارقتِ الأنفسُ الإنسانيةُ أبدانَها، فإلى أية حالٍ ستصير؟ يجيبك ابن سينا: “يجب أن يعلم أنَّ المعادَ منه ما هو منقولٌ من الشرع ولا سبيلَ إلى إثباته إلا من طريقِ الشريعة وتصديقِ خبرِ النبوةِ وهو: الذي للبدن عند البعث، وخيراتُ البدنِ وشرورُه معلومةٌ لا يحتاج إلى أن تعلم، وقد بسطتِ الشريعةُ الحقةُ التي أتانا بها نبينُا وسيدُنا ومولانا محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله حالَ السعادةِ والشقاوةِ التي بحسب البدن“.

إن المعاد الجسماني أمر متروك للشريعة والنبي، وعلى الذين يقولون إن ابن سينا ينكر البعثَ الجسماني معاودةَ قراءة النص آنف الذكر مرة أخرى. وعند الشيخ الرئيس: ليستِ الفلسفةُ مختصةً ببيان حال المعاد الجسماني، لأنه غيرُ مُدْرَكٍ بالعقل والقياس البرهاني الفلسفي، أما المُدْرَكُ بالقياس البرهاني، والذي تختص به الفلسفةُ، هو المعاد الرُوحاني للنفوس.

ب. المعادُ الرُوحاني: السعادةُ في مقاربة الحق الأول تعالى

المعاد عند الشيخ الرئيس ابن سينايرى ابن سينا أنَّ الحكيمَ الإلهي –أي الفيلسوف– همهُ الأكبرُ هو سعادة النفس، وأن الحكماء الإلهيين –أي الفلاسفة– لا يلتفتون إلى السعادة البدنية، وأن رغبتهم ومطلبهم ومسعاهم الأصيل: السعادةُ الرُوحية ومقاربةُ الحق الأول تعالى، وفي ذلك يقول: “ومنه –أي المعاد– ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوةُ، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس. وإن كانتِ الأوهامُ ههنا تقصرُ عن تصورهما الآن، لما نوضح من العلل، والحكماءُ الإلهيونَ رغبتُهم في إصابة هذه السعادة أعظمَ من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يلتفتون إلى تلك، وإن أُعطوها، ولا يعظمونها في جَنْبةِ هذه السعادة التي هي مقاربةُ الحقِ الأول، فلنعرف حالَ هذه السعادة، والشقاوة المضادة لها فإن البدنيةَ مفروغ منها في الشرع”.

هنا يوضح ابن سينا أن هدف الفلاسفة والحكماء الإلهيين: السعادة الرُوحانية التي تقربهم من الله تعالى، وليس سعادة الأبدان، فالأمر يعود إلى التفضيل والأولويات ولا يعود إلى الإنكار الصريح للبعث الجسماني. وكل رأي آخر لابن سينا في هذه المسألة خصوصًا ما ورد في كتابه “رسالة أضحوية في أمر المعاد”، (وهي الرسالة الوحيدة تقريبًا التي قد نفهم منها –كما فهمَ الإمامُ الغزالي– أن ابن سينا ينكر المعاد الجسماني) فيجب تأويلُهُ، وردُهُ إلى رأيه الصريح في كتبه “الشفاء”، و”النجاة”، و”الإشارات”، إذ صرح الشيخُ الرئيسُ تصريحًا، كما رأينا، بإثبات المعاد الجسماني في كتاب الشفاء، لا تكفيره كما فعلَ الإمامُ الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة”، الذي قصر اتهامه لابن سينا بأنه ينكر البعث الجسماني، على هذه الرسالة، وأغفل ما أثبته في كتبه وموسوعاته الكبرى: الشفاء والنجاة والإشارات والتنبيهات!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تأويلي المُقْتَرَحُ يقول: إن ابن سينا لمْ ينكرْ المعادَ الجسماني صراحة في هذه الرسالة، وإنما ينكر إمكانَ البرهنةِ عليه عقليًا، ويفوض أمرَ ذلك إلى الشرع، كما قال ذلك صراحَة فيما أثبتناه آنفًا من نصوص يصرح فيها تصريحًا لا يحتمل التأويل: إن البعث الجسماني حق، مع التأكيد على أن سعادة النفوس هي السعادة التي يسعى إليها الحكيمُ الإلهيُ، لا سعادةَ الأبدان.

ج. مراتب سعادة النفس وشقاوتها

1. سعادةُ النفسِ تحصيلُ الكمالِ: صيرورةُ النفسِ عالمًا عقليًا

يقول ابن سينا: “إن النفسَ الناطقةَ كمالُها الخاصُ بها أنْ تصيرَ عالمًا عقليًا مرتسمًا فيها صورةُ الكلِ (صورة العالم)، والنظامُ المعقولُ في الكل (نظام الكون)، والخيرُ الفائضُ في الكل (التدبير الإلهي)، مبتدئةً من مبدأ الكل (الحق الأول، الله تعالى، واجب الوجود)، سالكةً إلى الجواهرَ الشريفةِ الرُوحانيةِ المطلقةِ (العقول المفارقة)، ثم الروحانيةِ المتعلقةِ نوعًا بالأبدان، ثم الأجسامِ العُلويةِ بهيئاتها وقواها (العقول المدبرة للكون)، ثم كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئةَ الوجودِ كلِه (صورة الوجود وحقيقته)، فتنقلب عالمًا معقولًا موازيًا للعالم الموجود كله (تصبحُ صورةً عقليةً لهذا العالم)، مشاهدةً لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال المطلق (الحق الأول تعالى)”. إن العالم العقلي الخالص –عند ابن سينا وكل الفلاسفة– هو جنة الحكيم الإلهي وفردوسه الأعلى.

2. شقاوة النفس عدم تحصيل الكمال: الانغماس في البدن المادي

الشقاوة هي عكس ذلك كله، وفي ذلك يقول ابن سينا: “وأما إذا انفصلنا عن البدن، وكانتِ النفسُ منا تنبهتْ في البدن لكمالها الذي هو معشوقها ولم تحصله، فيكون ذلك هو الشقاوة والعقوبة”.

د. مصير النفوس: السعادة أو الشقاوة

المعاد عند الشيخ الرئيس ابن سينا وعلى ذلك يكون مصير النفس، عند الشيخ الرئيس:

– “إذا فارقتِ النفسُ البدنَ وحصَّلتْ كمالَها وبلغته بأن صارتْ عالمًا عقليًا، فتلك هي السعادة”.

– “فأما النفوسُ والقوى السَاذَجةُ الصرفةُ فكأنها هيولى (مادة) موضوعة لمْ تكتسبْ البتةَ هذا الشوق (فلم تكن عالمًا عقليًا) وقعتْ في هذا النوع من الشقاء الأبدي.. وهؤلاء إما مقصرون عن السعي في كسب الكمال الإنسي، وإما معاندون جاحدون متعصبون لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية (عن الوجود وواجبه) وهؤلاء الجاحدون أسوأ حالًا لما كسبوا من هيئات مضادة للكمال”.

هـ. العقوبات السماوية: مصيرُ المدنِ الفاسدة والأشخاص الظالمة

ولا ينسى ابن سينا أن يحدثنا عن العقوبات الإلهية سواء تلك التي تنزل بالمدن الفاسدة، أم تلك التي تنزل بالأشخاص الظالمين، وينتصر لرأي مَنْ يعتقدُ في هذه العقوبات من العامة والجمهور فيساندهم الفيلسوف: الشيخ الرئيس، بل ويرى أن من ينكر ذلك ليس فيلسوفًا، بل متشبهًا بالفلاسفة (ولو علم ابن سينا ما أكثر المتشبهين بالفلاسفة في عصرنا ربما رثى لحالنا!).

وفي ذلك يقول الشيخُ الرئيسُ ابن سينا: “واعلم أن أكثر ما يقرُ به الجمهورُ ويفزعُ إليه، ويقولُ به، فهو حقٌ، وإنما يدفعه هؤلاءُ المتشبهةُ بالفلاسفة جهلًا منهم بعلله وأسبابه، وقد عملنا في هذا الباب كتابَ “البر والإثم”، فتأملْ شرحَ هذه الأمور من هناك وصدقْ بما يُحكى من العقوبات الإلهية النازلة على مدن فاسدة، وأشخاص ظالمة، وانظر أنَّ الحقَ كيفَ يُنصرُ“.

خلاصة تأويلية لوجود المعاد عند ابن سينا

إنَّ غايةَ الحكمةِ الفلسفيةِ عند ابن سينا، إنما تكمنُ في تحقيق السعادة الأخروية للنفس الإنسانية: تحصيلُ الكمالِ: صيرورةُ النفسِ عالمًا عقليًا. والحكيم الإلهي يطلبُ المعادَ الروحاني، ليتحققَ كمالُه الإنسانيُ، ويتفنن الشيخُ الرئيسُ في وصف ذلك العالم، ويرى وجوبَ التسليم بالمعاد الجسماني، كما جاءتْ به الشريعةُ، وكما بينه النبيُ صلى الله عليه وآله.

ولكي تصلَ النفسُ الإنسانيةُ إلى سعادتها الأخروية، وتحقق كمالها الإنساني المطلوب، فعلى الإنسان –في الدنيا– أن يقوم بتزكية النفس بالعبادات والأخلاق الإلهية. وهذا هو موضوعُ دردشتنا القادمة –بإذن الله– وبه نختمُ رحلتَنا التأويليةَ مع فلسفة الوجود السينوية: العبادات والأخلاق في الوجود.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول ، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس

الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر

الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر

الجزء الرابع عشر ، الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر

الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر، الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج