مقالات

المادية هلاك للإنسانية – الجزء الثالث

ضعف الفهم الفلسفي

يعتبر القصور في الفهم الفلسفي أو المفاهيم الفلسفية وعدم قدرة مفكري أوروبا على حسم الكثير من تلك المفاهيم هو  السبب الثاني في تبني أوروبا الفلسفة المادية المُهلكة التي ترى كما ذكرنا في المقالات السابقة أن الوجود له بعد واحد فقط وهو البعد المادي، ما بين منكر لوجود الخالق أو مستبدل له بالعلم.

ما بين هذا الاعتقاد وذلك الفهم  يدور اعتقاد علماء هذا الفكر المادي في وجود خالق للكون من عدمه ومدى تأثيره إن وُجد على الوجود من حولنا، كذلك نظرتهم لكل ما هو غير مادي ويمكن تفصيل ذلك بالرجوع للمقالات السابقة لسلسلة ( المادية هلاك للإنسانية ).

في حقيقة الأمر أن أوروبا والغرب عمومًا متأخر جدًا لدرجة يمكن أن تصل لحد التخلف في الفلسفة ذات التوجه العقلاني، وقد يستغرب البعض هذا الكلام  باعتبار الغرب يرفع دائما شعار العقل والعقلانية، وهنا خلط كبير يجب توضيحه أولًا قبل الخوض في الفهم الأوروبي القاصر للكثير من المفاهيم الفلسفية التي  أدت بالدفع بالمجتمع الأوروبي والحضارة الغربية عمومًا نحو النزوع نحو الفكر المادي وتبنيه في كل مستويات الحياة تقريبا؛

بل تخطَّى الأمر أكثر من ذلك بحيث سعت تلك الحضارة المادية الغربية لفرض سيطرتها وهيمنتها على العالم وفرض هذا النمط الفكري  سواء بالوسائل العسكرية التقليدية أو أدوات ووسائل الحرب الناعمة والغزو الثقافي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عقول التجريبيون في حواسهم

وهذا الفكر يعتمد على الحس والتجربة فقط كأداة في كشف الواقع ومعرفة الظواهر الكونية، مع إقصاء واستبعاد كل مالا يمكن مشاهدته بالحس أو إخضاعه للتجربة، فلا يرى إلا الموجودات والظواهر المادية.

والمقصود بالحس هو الإدراك الأول والمباشر للموجودات المادية، ويتم بالحواس الخمسة التي تشترك جميعًا في كونها لا تدرك إلا الكيفيات المادية (الكيف المحسوس)، بحيث لا تدرك الأشياء التي لا كيفيات مادية لها، من قبيل الكيفيات النفسانية كالحزن والفرح.

بتلك الطريقة جعل التجريبيون عقولهم في حواسهم فضيقوا أفق العقل ووضعوا حدودا مادية لفساحته، وأسموا أنفسهم بالعقلانيين أو الواقعيين، وأطلقوا على الفلاسفة المؤمنين بما وراء الطبيعة  لقب ” المثاليين ” ظنا منهم بابتعاد المؤمنين بما وراء الطبيعة عن العقل.

والجدير بالذكر أنه لا يمكن للقياس التجريبي أن يتخطى حدود المحسوسات، وإنّما يجري في المحسوسات فقط، ولا يصح إعمالها في كشف ما وراء الطبيعة، بل إنّ التجريبيين لا يمكنهم الوصول بواسطة التجربة إلى كشف حقيقة الطبيعة نفسها، وإنّما يعرفون بها ظواهر الطبيعة فقط، المعبر عنها بـ (الكيفيات المحسوسة) المنعكسة على الحواس الخمس.

لذلك انطلق التجريبيون من استنباط حدود الحس والتجربة الخاصة بإدراك العالم المادي فقط إلى تعميمها على حدود المعرفة ذاتها، فأنكروا وجود عالم ما وراء المادة أو الطبيعة من مبتدأ حكرهم مراتب الإدراك على الإدراك الحسي دون العقلي، والمعرفة على التجربة دون العقل أو باقي الأدوات المعرفية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لذلك يجب أن ننبه أن شعارهم المرفوع باسم العقل والعقلانية المقصود به منهجهم التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة والمشاهدة.

الخلل المعرفي والفلسفي في فكر التجربيين

وهذه الرؤية تختلف كليا عن المنظور الحقيقي للعقلانية التي نقصدها والتي نعنى بها الرؤية التي تعتمد على العقل المعرفي وهو قوة النفس التي بها تدرك المعاني الكلية، وهو أحد الأدوات المعرفية التي بها يحصل ” الإدراك العقلي ” الذى يعتبر المرتبة العليا من مراتب الإدراك، وراء الحس والخيال والوهم.

إن المنهج العقلي قادر على اكتشاف عالم الطبيعة وإدراك عالم ما وراء الطبيعة؛ لأن الإدراك العقلي أعلى من الإدراك الحسي وبالتالي فحدود العقل تفوق حدود الحس والتجارب التي لا يمكنها بأي حال من الأحوال تجاوز حد الواقع المادي ” عالم الطبيعة “.

وهنا نوضح الخلل المعرفي في هذا الفكر، ومن ثَمَّ ننتقل إلي الخلل الفلسفي على مستوى المفاهيم والذي يمكن أن نعتبره؛ أي ” خلل المفاهيم ” هو نتاج طبيعي لخلل الفكر أو المنهج الفكري المتبع ” للمدرسة المادية  “لرؤية الواقع وتفسيره.

إن التجربة لم تأخذ مشروعيتها المنطقية سوى من البديهيات العقلية الضرورية، فمثلا: عندما يضع الباحث مادة كيميائية علي مادة ما ويحدث ذلك دخانًا أو فورانًا  أو أي أمر ما، سرعان ما يبحث المُجرب عن أسباب صعود الدخان عملا بمبدأ أصل العلية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ومثلا: لو أحضر الباحث ورقتي عباد شمس وأراد أن يكشف عن سوائل معينة أيُها قلوي وأيُها حامضي؟! فإذا ازرقت الورقة (أي أن السائل هذا قلوي) لا يمكن أن يكون حامضيًا في نفس الوقت عملا بمبدأ عدم اجتماع النقيضين.

هذه البديهيات العقلية هي غير محسوسة وينطلق منها الباحث للاستدلال على حقائق مادية؛ لذلك لا عجب من استخدام تلك المنطلقات “والتي ثبت نجاح قيام التجارب على أساسها ” في البرهان العقلي المدرك لما وراء الطبيعة والمحسوسات.

مشكلة العلة الأولى

لذلك فإنكار التجربة لدور العقل في إدراك الماورائيات لا يقع؛ فلا يحيط الجزء بالكل، فالأولى أن يحدث العكس فيضع العقل حدودا للتجربة وينكر تعديها، فالعقل لا يسمح بأي وجه للتجربة الحسِّية التي اكتسبت مشروعيتها وحُجيتها العلمية منه، أن تتعدى حدودها إلى عالم ما وراء الطبيعة أو تستنتج أحكامًا حسية وهمية مخالفة لأحكامه العقلية القطعية، كما يفعل ذلك بعض التجريبيين الغربيين المصابين بالغرور العلمي عندما يبحثون عن بداية نشأة الكون ونهايته بالتجربة الحسية.

وبالرجوع للخلل الفلسفي نبدأ بمشكلة ( العلة الأولى ) والتي تُعد مفصل هام فيما وصلت إليه المادية من إنكار لما وراء الطبيعة ووصولها لهذا التوحش على المستوي الاجتماعي والثقافي والقيمي.

حيث نجد ” هيجل ” أحد الفلاسفة الكبار المعروفين ،وإنصافًا لم ننكر أن في أفكاره كثير من الأمور الصحيحة، يقول عن مبدأ ” أصل العلية ” والتي تعني ببساطة أن لكل موجود واجد ولكل سبب مُسبب له.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يقول “هيجل” عن هذا المبدأ

( يجب أن – لا- نبحث عن العلة الفاعلية عندما نريد حل لغز علم الخلق، وذلك لأن الذهن من جهة لا يرضى بالمتسلسل؛ فيُلجئنا للقبول بالعلة الأولي، ومن جهة أخرى فإنا لو لاحظنا العلة الأولي؛ فإن اللغز لم ينحل بعد، ولم يقتنع الطبع بذلك. إذن المشكلة باقية والتساؤل باقٍ على حاله، فلماذا كانت العلة أولي؟

ولأجل أن ينحل اللغز والمشكلة يجب أن نعرف غاية الوجود أو وجهه أو دليله؛ فإننا لو عرفنا لماذا وجد وبعبارة أخرى؛ فإننا لو علمنا بأن الوجود أمر معقول، اقتنع بالطبع ولم يعد يبحث عن علة أخرى وطبيعي أن كل شيء يحتاج إلى توجيه وتبرير لازم ، أما التوجيه والتبرير نفسه فلا يحتاج إلي توجيه).

ويمكن تفسير ذلك أنه يقبل العلة الأولى إجبار وليس اقتناع ” يجب أن نقبل وجود خالق بصورة أمر يقع مصدرًا وموردًا للذهن مباشرة، لا بشكل أمر يجبر الذهن على قبوله.

فهناك فرق كبير بين أمر يدركه الذهن لوجود دليل عليه؛ فيكون هذا القبول طبيعيًا، وبين أمر آخر يقبل الذهن على قبوله لبطلان نقيضه ويقصد هنا قبول الذهن ببطلان ” التسلسل “.

ونجد هذا الكلام أيضًا عند كلا من ” كانت ” و ” سبنسر ” إذ يقول سبنسر ( إن المشكلة تكمن في أن عقل الإنسان من طرف يتطلب العلة لكل أمر، ومن طرف آخر لا يمكنه أن يقبل الدور والتسلسل، كما أنه لا يجد العلة التي لا علة لها ولا يفهمها أيضا، تماما كما يقول القسيس للطفل إن الله خالق العلم، فيعود ليسأله: (من خلق الله؟).

كذلك نجد كلام شبيه بهذا الكلام عند ” جان بول سارتر ” والذي قال في هذا الصدد كما ينقله عنه ” بول فولكييه ” ( إن من التناقض أن يكون وجود ما “علة لنفسه “) ثم يعقب “فولكييه” على قول “سارتر” بنوع من التوضيح فيقول ( إن البرهان المذكور الذي لم يفصله “سارتر” يعرض عادة على النحو التالي؛

( إن ادّعينا أننا بأنفسنا أبدعنا وصنعنا أنفسنا؛ فإنه يجب التصديق بأننا كنا موجودين قبل وجودنا، وهذا هو التناقض الواضح الذي يبدو في هذا الادعاء ).

الرد على الشبهات

بعد كل هذا الكلام يجب أن نوضح أن كثيرًا من هذا الخلل الفكري والمنهجي ليس وليد اللحظة بل هو مشترك ما بين الخلل الفكري والفلسفي والسلوكي وكذلك النفسي؛ وذلك للتحلل من كل قيد من شأنه أن يلزم الإنسان باتباع طريق معين بسب ما عَانه المجتمع الأوربي سابقا ، فهرب الإنسان من هذا الإلزام بمبررات عدة ليقع بوعي أو دون وعي تحت إلزام الرغبة والشهوة والهوى.

وأصبح لزامًا علينا أن نوضح الخلل في فهم الغرب حول مفهوم ( العلة الأولي ) بنوع من التبسيط.  وننتقل إلى مقالات أخرى لنرصد من خلالها باقي  الأسباب لهذا النزوع نحو هذا الفكر المُعتل.

هناك براهين متعددة للاستدلال بها على ضرورة وجود إله ومدبر لهذا الكون الفسيح، وعند فتح الباب لاستعراض بعضًا من تلك الأدلة، يلاحظ المُتلقي مدى التفاوت في المستوى بين كل برهان والآخر بما يتلاءم مع ذهنية الشخص المتسائل في قرارة نفسه “هل للكون إله ؟!”؛

فالإنسان الذي يملك ذهنية بسيطة، يمكنه التعرف على ربه من خلال القياسات الاستدلالية البسيطة، ثم يأخذ في عبادته وطاعته، أما الذي يحمل في ذهنه الكثير من الشبهات، فينبغي أن يتجرد ويصفى ذهنه لاستقبال برهان أقوى وأصعب على مستوى الفهم والاستيعاب وهكذا.

وهنا الحديث يجب للرد على هذا الفكر يجب أن يقوم أولًا على رد شبهتهم في التسلسل وبعدها التناقض وغيرها من المفاهيم التي قاموا بطرحها؛

فالكلام عن كل شيء له علة والإشكال عليه بأنه إذن العلة تحتاج إلي علة عملًا بمبدأ كل شيء له علة، وصحيح الأمر أن قول( كل شيء أو كل موجود يحتاج للعلة) أمر غير صحيح بل هو خطأ، فالتعبير الصحيح هو أن (كل ناقص يحتاج إلى علة) ولما كانت  العلة الأولي هي الواجبة للوجود الكاملة من كل جانب،

لا يوجد منشأ للحاجة والنقص والاحتياج؛ وبالتالي ما ينطبق على الكامل لا ينطبق على الناقص من احتياج الناقص لعلة. وأما سؤال لماذا العلة الأولي هي أولي وليست ثانية؛ فهو سؤال ساذج كأنك تسأل لماذا الواحد لم يكن اثنين؟!

فالعلة الأولي هي الواجدة لهذا الوجود والذي يحتاج وجوده لمؤثر خارجي لإيجاده وهذا المؤثر لا يؤثر فيه شيء.

بطلان التسلسل:

ومعنى التسلسل؛ فرض أن المخلوقات كلها متوالدة عن بعضها إلى ما لا نهاية، بحيث يكون كل واحد منها معلولاً لما قبله وعلة لما بعده دون أن تنبع هذه السلسلة أخيرًا من علة واجبة الوجود التي تُضفي التأثير المتوالد على سائر تلك الحلقات. فهذا الفرض باطل يحكم العقل باستحالته بالضرورة.

اشتُهر عن “الفارابي” قوله ( لو تسلسلت العلل ، لما وُجد المعلول )، ويفسر الدكتور “البوطي” ذلك قائلا (لو وقفت أدَّعي أمامك حقيقة علمية استيقنها، ولما سألتني عن الدليل ذكرت لك برهانًا هو نفسه دعوى مجهولة تتوقف على برهان، ولما سألتني عن برهان هذا البرهان، جئتك ببرهان مثله في التوقف على برهان آخر … وهكذا إلى ما لا نهاية،

أي دون أن تنتهي هذه البراهين كلها أخيرًا إلى حقيقة ضرورية معروفة بالبداهة؛ فإنك تكذبني في دعوى اليقين بهذه الحقيقة، بل تكذبني في وجودها أصلاً، إذا لم يقم عليها أي برهان بعد، وكل البراهين المتسلسلة التي فرضنا أن لا نهاية لها ليست إلا ظلالاً تنتظر أصلها الأول، فإن لم يوجد ذلك الأصل فهذه الظلال نفسها غير موجودة، ومن ثم فإن الحقيقة المدعاة أيضًا تكون غير موجودة).

أمثلة توضيحية

ورغم أن بطلان التسلسل قاعدة بديهية لا تحتاج إلى برهان، ولكن لا مانع من إيراد بعض الأمثلة التوضيحية كي تساعد ذهن المتلقي على استيعاب مدى بداهة تلك القضية.

1- لو فرضنا أن هناك فريقًا لسباق الركض، قد وقف أعضاؤه جميعًا على خط الانطلاق، متأهبين للركض، ولكن كل واحد قد قرر في نفسه أن لا يبدأ بالركض إلا إذا بدأ صاحبُه، فلو كان هذا القرار شاملاً للجميع، فسوف لن يبدأ أي منهم بالركض، ولن يتحقق الركض إطلاقًا! وكذلك إذا كان وجود كل موجود مشروطًا بتحقق الموجود الآخر؛ فسوف لن يوجد أي موجود أبدًا. إذن فتحقق وجود الموجودات الخارجية دليل على وجود موجود غير محتاج وغير مشروط.

2- إذا رأيت رقمًا حسابيًا طويلاً يتراص فيه عدد كبير من الأصفار، فإنك تسرع لتنظر قبل كل شيء إلى الرقم الذاتي الأول الذي رصفت الأصفار عن يمينه. وما لم تقع عينك على ذلك الرقم فإنك لا تعطي تلك الأصفار أي قيمة حسابية. فلماذا؟

ذلك لأن تعلم أن الصفر وحده لا يحوي أي قيمة عددية بحد ذاته، و إنما يستمد القيمة من الصفر الذي إلى يساره، وهو أيضًا إنما يستمد القيمة العددية من الصفر الثالث فالرابع فالخامس … إلى أن تنتهي الأصفار برقم عددي كالواحد فما فوق.

فهذا الرقم هو الذي يملك قيمة ذاتية في داخله، وهو الذي يُضفي الحياة والقيمة على الأصفار المتسلسلة التي عن يمينه. فلو فرضنا أن سلسلة الأصفار لم تنته إلى رقم عددي يملك قيمة ذاتية، فهي أصفار خالية عن أي قيمة بل عن أي معنى من معاني الوجود. وافتراض التسلسل اللانهائي فيها لا يُغير من طبيعة الحال ولا يجعل لها أي قيمة.

3- أبصرت في دار صديقك نباتًا ذا زهر جميل ورائحة زكية، ولما سألته من أين وقع على هذه الزهرة الجميلة، قال إنها فرع أخذه من أصل عند دار جاره، ولما سألت الجار أجابك هو الآخر بأن الذي عنده ليس إلا فسخًا أيضًا حصل عليه من بيت أحد أصدقائه، ثم أجابك الثالث أيضًا بمثل جواب الثاني،

وهكذا أجاب الرابع فالخامس فالسادس. ونفرض أن السلسلة استمرت على هذه الشاكلة؛ كل منهم يجيبك بأن الذي عنده ليس إلا فسخاً من غيره، وعبثًا رحت تسير مع هذه السلسلة لتبحث عن أصل هذا النبات ومولده الذي أعطاه الظهور والتكوين وقابلية التفرع بادئ ذي بدء، إذ قيل لك إن سلسلة هذا التفرع والتناسخ ماضية إلى غير نهاية؛ فما الذي يحكم به عقلك على هذا الكلام عند أدنى تفكير؟

لاريب أنه يحكم بكذب هذا الكلام. ذلك لأن التفرع مهما توالد وتكاثر؛ فإنه لا يكون إلا نتيجة وجود أصل ثابت بنفسه يمد تلك الفروع بالوجود أو الحياة، وإذ قيل إنه لا يوجد له أصل وفرضنا أن القائل صادق، فمعنى ذلك أنه لم يولد بعد، وإذن فلا وجود لشيء من هذه التفرعات المزعومة أيضًا، أما إذا كنت تجد فروع النبات بعينك فمعنى ذلك أن له أصلاً ذاتيًا  أمد هذه الفروع كلها بالوجود مهما كان هذا الأصل بعيدًا ومهما كنت لا تتذكره أو تقف عليه.

بطلان الدور:

افترض أنك  توجهت لإحدى المصالح الحكومية مثلا كي تستخرج تصريحًا للسفر فاشترط الموظف (س) أن يؤشر على الورقة قبله الموظف (ص) كي يختم هو الورقة ختمها النهائي، ولما ذهبت إلى الموظف (ص) اشترط أن يؤشر على الورقة الموظف (ع) أولًا، ولما ذهبت إلى الموظف (ع) اشترط كي يؤشر على نفس الورقة أن يختمها الموظف (س) !

وهكذا ستظل تدور بين الثلاثة موظفين دون أن تحصل على مبتغاك. فـ”الدور” هو أن يتوقف الشيء في وجوده أو تحققه على شيء آخر هو أيضًا متوقف على الشيء السابق في تحققه أو هو متوقف على شيء ثالث يعود في توقفه على الشيء الأول ” كما في المثال السابق ” .

وقد أوضح الدكتور “سعيد البوطي” مثالا آخر لتبيين استحالة الدور فقال (لو قلنا إن وجود البيض متوقف على وجود الدجاج، ثم تقول إن وجود الدجاج نفسه متوقف على البيض وفرضنا أن لا وسيلة إلى وجود هذا أو ذاك إلا عن هذا الطريق،

فإن من البديهي أن كلا الأمرين يظلان معدومين حتى يأتي مؤثر خارجي يفك طوق ذلك الدور ) ، هذا البطلان البديهي للدور ربما لم يطرق أذهان القائلين بأن علة إيجاد الكون هي التفاعل الذاتي للنواة والذرات وهى النظرية التي مفادها أن الذرة وجدت أولا في جوف العدم فأصبحت بعدها علة لإيجاد نفسها !

وقد وضعه الطبيعيون وعلى رأسهم “أرسطو” ، في الإشارة إلى طبيعة الأجسام من حيث سكونها وحركتها، حيث اعتبر “أرسطو” الأجسام الطبيعية متحركة جميعها، وحتى في حال سكونها فهي تعتبر أيضا متحركة بالقوة، أي لديها استعداد وقابلية للحركة التي تتمثل في صور مثل النمو والتغير،

وانتهى بأرسطو الاعتقاد أن كل متحرك يحتاج إلى محرك كي يُحركه، وهكذا يتسلسل الأمر، وبالنظر إلى البديهيات التي أشرنا إليها تنتهي سلسلة المتحركات بالحتمية العقلية إلى المحرك الذى لا يتحرك” سواء بالقوة أو الفعل” وفى نفس الأمر له القدرة على تحريك غيره، وإلا حصل التسلسل أو الدور وهما محالان كما أوضحنا.

في الختام؛ قد يجد البعض في هذا المقال بعض الصعوبة حول بعض المفاهيم وهذا وارد جدا وإن كان البحث والتعلم وسؤال المتخصصين سوف يُقلل من هذه الصعوبة كذلك يمكن الرجوع لصفحة الأكاديمية للسؤال وزيادة الفهم.

اقرأ أيضا:

الجزء الأول من المقال 

الجزء الثاني من المقال

هل نشأ العالم من قبيل الصدفة؟

مقالات ذات صلة