قضايا شبابية - مقالاتمقالات

اللقطة التجميلية الزائفة!

مشهد اللقطة التجميلية المزيفة

مشهدٌ اعتدنا عليه، ويمكن أن تراه في كثرة من المناسبات والفعاليات: من لقاءات الأقرباء والأصدقاء إلى الندوات والمؤتمرات، ومن حفلات الزفاف وأعياد الميلاد إلى اجتماعات وأنشطة العمل، ومن افتتاحات المشروعات (حقيقية كانت أو وهمية) إلى مواسم الانتخابات، بل وحتى في أوقات الفراغ، إلخ.

إنه مشهد «اللقطة» Snapshot (أو الصورة الفوتوغرافية التي يتم التقاطها تلقائيًا وبشكلٍ سريع)، فما أن تبدأ الفعالية (أو اللا فعالية) حتى تكون «اللقطة» هي سيدة الموقف، وتغدو قيمتها أكبر وأهم من الفعالية ذاتها ومردودها!

يُمارس أحدهم عمله الطبيعي فيعمد إلى تسجيل اللحظة وبثها للناس كإنجازٍ غير مسبوق، ويستيقظ أحدهم من نومه يؤرقه إحساسٌ بالفراغ والوحدة، فيمسك بهاتفه ويُلقي التحية على أصدقائه وغيرهم مُرفقةً بصورته، ويذهب أحدهم للإدلاء بصوته الانتخابي مسلحًا بهاتفه المحمول،

وما أن يُدلي بصوته حتى يلتقط لنفسه صورة داخل اللجنة أو أمامها قبل أن يجف الحبر الفوسفوري أو ينمحي أثره من على إصبعه، ثم لا يلبث أن يرفع الصورة على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي مُزينة بشعارٍ من تلك التي تلوكها الألسنة وفقًا لطبيعة المرحلة!

هوس التصوير

ما هو تفسير اللقطة التجميلية المزيفة؟

حاولت جاهدًا أن أجد تفسيرًا منطقيًا مقبولًا لهذا المشهد المتكرر في كل «احتفالية مزعومة» –إن صح التعبير– لكن محاولاتي باءت بالفشل، مثلما هو الحال إزاء السؤال عن مغزى ربط المصريين بين الانتخابات والرقص أمام اللجان!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سألت أحدهم فأجاب وقد أخذته العزة بالتفاهة والمظهرية الكاذبة: “هو إثبات موقف!”، قلت: “لمن؟ إن كنت تُثبت موقفًا لنفسك ففكرك وعملك يكفيان، وقبل ذلك ثقتك بذاتك، وإن كنت تُثبت موقفًا لآخرين فهذا يتوقف على تحديد ماهيتهم، إن كانوا من الأصدقاء فهم يعرفونك جيدًا، ولست في حاجة إلى أن تُثبت لهم موقفًا، أو تؤسس لهم سلوكًا تدفعهم إلى الاقتداء به!

وإن كانوا من غير الأصدقاء أو ممن يُخالفونك الرأي فلن يُجدي نفعًا أن ترفع لهم صورتك، بل عليك بالحوار المنطقي الجاد معهم! وإن كانوا يتبعون جهة بعينها تتملقها أو تخشى بطشها فأنت مُصابٌ بمسٍ من النفاق أو الخوف، وربما كنت في حاجة إلى رُقية علمية نفسية وإنسانية عاجلة!”.

اقرأ أيضاً:

الكذب والدونية

متى يكف الجهل عن ثرثرته؟!

ثقافة اللقطة

قصة طريفة عن «الجاحظ»

تحضرني في هذا المقام قصة طريفة عن «الجاحظ»، إذ حضر إليه قومٌ ذات يومٍ فخرج إليهم غلامه، فسألوه عن سيده فأجابهم: “إنه في الدار”، فقالوا له: “ماذا يصنع؟”، فقال: “إنه يمارس الكذب!”، فقالوا له: “كيف ذلك؟”، فقال: “إنه ينظر في المرآة مليًا ثم يقول: أحمدك ربي لأنك صورتني جميلًا!”.

لعل «الجاحظ» لم يكن كاذبًا بقدر ما كان مصدقًا لنفسه، وهو في ذلك لا يؤذي أحدًا، ولا يشوه واقعًا، ولا يفرض على الناس أن يهيموا إعجابًا بالجمال الزائف لصورته، لكن المشكلة الحقيقية فيمن يظنون أنهم أصحاب عقول راجحة تثمر أفكارًا مبدعة، ويصدقون أنفسهم، فيخرجون علينا عبر وسائل الإعلام بوجوه يكسوها الغباء والجهل!

يُعلنون عن أنفسهم كمثقفين، ومفكرين، ومحللين، وخبراء، ودعاة، إلخ. والمشكلة الأخطر أنهم يجدون من يصفق لهم ويُنزلهم ما لا يستحقونه من منازل، هم العدو فاحذرهم!

إني لا أكذب ولكني أتجمل

حين أتأمل ما ينشره هؤلاء، وبصفة خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، أدرك أن صالونات التجميل ليست أماكن مبتغاة من قبل النساء فقط، يقصدنها بهدف اكتشاف المزيد من جمالهن، أو إخفاء ما ظنن أنه ينتقص من هذا الجمال، لكنها ثقافة مجتمعية أثيرة في عالمنا العربي،

فإذا أعلن مسؤولٌ عن زيارة منطقة أو مؤسسة أو حتى مدرسة، نشطت صالونات التجميل الراكدة لإخفاء القبيح من المظهر والمشين من السلوكيات، وإذا تولى أحدهم موقع المسؤولية نشطت صالونات التجميل الدعائية لتعداد الإنجازات ومواراة السلبيات،

وإذا واجه المرء كاميرا التصوير نشط صالون التجميل الذاتي بداخله لإضفاء البسمة على وجهه ولو كانت كاذبة، وإذا طرق باب البيت ضيفٌ نشط صالون التجميل العائلي لتنظيم البيت وإخفاء ما قد يسيء من عوالق الحياة اليومية أو عبث الأطفال، إلخ.

لذا لا تروق لي تلك المقولة الشائعة التي وضعها إحسان عبد القدوس عنوانًا لإحدى رواياته: «إني لا أكذب ولكني أتجمل»، لأن العبرة بدافع التجمل وغايته، وليس بالتجمل في حد ذاته. ويبقى الحق جميلًا والزيف قبيحًا في كل الأحوال!

لا اكذب ولكني اتجمل

الفرار أمل صعب المنال

إذا رأيت صوت الباطل أعلى من صوت الحق، والخيار السائد ليس بين السيئ والأسوأ، بل بين الأسوأ والأكثر سوءًا، والغباء والفساد يمرحان في نشوة حيثما وليت وجهك، وحشود السكارى تتراقص عبثًا وألمًا في ساحات اللا معقول، وشيخوخة المكان تترنح بأنصاف الأحياء، والتفاؤل يغتال الحقائق في متاهات الوهم، والبقاء جمرة مشتعلة لا تخمد في العقل الحائر والقلب الحزين، والفرار أملٌ صعب المنال، فاعلم أنك في الوطن العربي!

وكلما تساقط قناع، أو تعرى عقلٌ أو قلبٌ أو ضميرٌ، أو تناقض المنطوق والمفعول أمامي، وكلما نطق لسان حال القوم بأن الماء لا يُحرث، وأن ريح الباطل عاتية، تملكتني الحيرة، ووجدتني ميَّالًا إلى العُزلة، قانعًا بالفرار إلى خلوتي،

لكنني كلما بدأت صلاتي منفردًا لأبث همي وحُزني إلى الله، وجدتني أقرأ بصيغة الجمع: «إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم»، ولا أدري، أهو جمعي: قلبي وعقلي وجوارحي، أم جمع الناس من حولي، وتتملكني الحيرة مرة أخرى!

قيمة المرء في فكره لا في اللقطة التجميلية المزيفة

حين قال «سقراط» لتلميذه الصامت المزهو بنفسه: «يا هذا: تكلم حتى أراك»، كان يعي جيدًا أن قيمة المرء وشخصيته في فكره، لا في مظهره أو فيما يحوزه من متاعٍ زائف، لم يقل له: يا هذا أرني وجهك أو صورتك أو أموالك أو متاع بيتك وعملك كي أعرفك، بل قال له: تكلم حتى أراك، حتى أعرف حقيقة ذاتك: أخاويةٌ هي أم عامرة!

ولا غرو، فالذوات صناديق مُغلقة، مفاتيحها الكلام، وبالكلام (منطوقًا ومكتوبًا) نستطيع أن نُدرك حجم المرء وقيمته ومقدار علمه ورُقي أو تفاهة فكره.

لقد أدرك «سقراط» بعبارته الجامعة المانعة أن ثمة أناسًا يخلعون القيمة بفكرهم وعملهم على ما يشغلونه من أماكن ووظائف ومناصب، وعلى ما يتدثرون به من ثياب أو ما يمتلكونه من متاع، وأن ثمة أناسًا يستمدون كل قيمتهم من الأماكن والوظائف والمناصب التي يشغلونها، ويعمدون إلى تحقيق ذواتهم بدثارٍ زائف أطول من قاماتهم، هؤلاء هم آفة مجتمعاتنا العربية،

قد يُدركون وقد يُدرك الناس، وقد لا يُدركون ولا يُدرك الناس، أنهم مُسطَّحون، مُنبطحون، جاهلون، أفَّاقون، فارغون، وتافهون، لكنهم إذا ما خلوا إلى أنفسهم الأمارة بالوهم خُيّل إليهم من تضخمها الكاذب أنهم أشباه آلهة! وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم، كأنهم خُشب مُسنَّدة، يحسبون كل صيحةٍ عليهم، هم العدو فاحذرهم!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية