مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

إن أردت كذبًا، فالساحة مملوءة يا صديقي

ربما نمر أحيانًا بأيام ثقيلة، الرؤية ضبابية فلا نبصر فيها جيدًا، تهبط الهمم وتُذل الأقدام وتتنهد الصدور لتخرج الهواء وكأنها وسيلة للتعبير عن عدم احتمال الهواء، مجرد الهواء. تزوغ الأعين وتظلم الوجوه، تسمع الأذن فلا تستجيب لشئ إلا لصراخات متتالية نابعة من الداخل. تفكر حينها في عمل أي شئ، ولكنها مجرد فكرة سرعان ما تتلاشى، فالمكان حولك مظلم برغم قوة النور، وملئ بالضوضاء برغم شدة هدوءه، فتقرر أن تهرب فلا تجد مهربًا، فتغص غصة في الصدر من فرط الضيق الذي تشعر به، فتجد نفسك محاصرًا!

تصل إلى نقطة تظن فيها أن الأمل لا وجود له فعلا، ثم تتذكر تلك الأيام النضرة التي مررت بها، وقتها كنت تشعر أنك جالس في بستان تستمع إلى صوت العصافير بهدوء عميق يسكنك برغم الضوضاء وسوء الأحوال وتتابع العقبات!

لا يمكن أن يكون مجرد وهم، فقد كنت تتذكر حينها أنك ربما ستغرق في جياهب نفسك لاحقًا، فكتبت في سطور ذاكرتك كلمات بقلم اليقين لتتذكرها في مثل هذا الحال، نعم كانت كلمات حقيقية صادقة، تقسم لك أن اليأس الذي ستصل له ليس بحقيقة، وأن الضيق والحصار النفسي والضجر هي حالات وهمية تعبر عن سوء أحوال نفسك أنت، لكنها لا تعبر عن الحقيقة.

أنت الآن فريسة لنفسك، تناطحك كي تستسلم لها وتتخلى عما يزعجها، وهل هناك ما يزعجها أكثر من انكشافها؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حيل النفس

للنفس حيل شتى، لكي توهمك أنك برئ وأن أي أحد غيرك هو المذنب، وإن ظهر الخطأ جلي والتهمة منسوبة إليك لا محالة، لا مشكلة فهي على أتم الاستعداد للتبرير!

ستسرد إليك مواقف نسجتها بنفسها على هواها، ومشاهد من إخراجها، وتفسيرات من تأليفها محبوكة الصورة، فهي تعرفك جيدًا وتعرف ما هي الحبكة المفضلة لديك، وإن استجبت لها استمرت وأنتجت لك فيلمًا دراميًا بطله أنت وضحيته كذلك أنت.

إن شاهدت هذا الفيلم وأبديت إعجابك به، ستقوم بتسليتك أكثر!

ستنتج العديد من الأفلام لأناس آخرين مشابهين لك، فتفسر أخطائهم أنها غير مقصودة دائماً حتى وإن رأيت عكس ذلك، فتحدث ألفة نفسية واعتياد وشعور بالمزيد من الاطمئنان الكاذب أنك على ما يرام، ولا مشكلة لديك ولا لديهم.

النفس يا صديقي ولا شئ سواها، هي الأقرب إليك، تعي جيدًا ما تحب وما تكره، تمجدك لتخفي عيوبك وأخطائك وذلاتك، وتبرر لك ما قد تقترفه من سوء، لتشعرك أنك البطل والآخرين هم المذنبون.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

النفس هي أعدى أعداءك!

إن لم تعِ ألاعيبها وتتوقف عن الاستجابة لها، ستقطع أنفاسك الحية وتسوقك كالأعمى نحو مصالحها ونزواتها، وستقضي على كل خير كان فيك.

بالطبع تسهل مهمتها مع أصحاب السوء الذين تتشابه مصالحهم وسبلهم مع أغراضها، فتقربك منهم لتسمع أكثر وأكثر، فيزداد الحجاب بينك وبين الصواب، كلما سمعت واستجبت ووثقت، غرقت في جياهب السوء أكثر فأكثر، لأنك تُثقل مهاراتها بهم وبخبراتهم السيئة في أرجاء الظلمات.

هل تشعر بالراحة حينها؟

صف لي شعورك وأنت في قاع الظلمات، بطل القصة وضحيتها، لا تملك من أمرك شئ، تبرر كل سوء تفعله، وتلوم كل آخر على أخطائك، حتى فقدت القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ من فرط الحجب التي بنيتها، أو بمعنى أدق التي تركت نفسك تبنيها وكنت تصفق لها على ذلك.

أما آن الحين لتصحو من غفلتك المزعومة؟

ألم يحن الوقت لتتصدى لنفسك قبل أن تصل إلى مراحل من الغرق يستحيل فيها النجاة؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ألم يأن لك أن تنفض عنك نجاسة الكذب والخداع وتصدق أن بك عيوب وترتكب أخطاء؟

ألم يكفي هذا الوقت الذي مر عليك وأنت تستمتع بمشاهدة الأفلام التي أنتجتها نفسك لتبرئك وتهمس في أذنك أنك لا تخطئ، وأن نيتك دوما صالحة ولكن الآخرين هم الوقحون المذنبون؟

كلما ازداد عداد عمرك صعب عليك الأمر، فما تعيه الآن ستنساه غدًا، وما تقوى عليه اليوم ستتركه رغماً عنك بعد غد.

هذا العجوز الذي شاهدته يومًا في الشارع يسب ويلعن الآخرين ويتفوه بأقذر الألفاظ ويتعدى على المارة، ألم يحرك فيك الخوف أن تكون مثله إن لم تضبط نفسك؟

وهذا العجوز راضي النفس الجالس في الحديقة متأمل في هدوء روعة المنظر، حوله أحفاده يعطف عليهم ويحميهم، ألم يحفزك أن تكون صالحًا لتنعم بشيخوخة طاهرة؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تلك الروح الثائرة على ظلم أصابها أو أصاب غيرها، وضحت بكل ما لديها حتى وافتها المنية وهي تطالب بالحق، ألم تغبطها على قوتها وصلابتها الرائعة وغنى نفسها؟

انتبه للفخ

لقد قامت تلك الحياة بأسرها من أجل تهذيب تلك النفس، فإن تقوى عليها أو تقوى هي عليك.

طالما تقرأ تلك الكلمات فأنت مازلت حيًا، لربما ساقك القدر لتنتبه لخطورة الأمر، فأرجوك لا تضيعه وانتبه لنفسك ولا تستسلم لها أبدًا.

حارب أهوائها كمحاربة العدو، ولا تظن فيها خيرًا فذاك باب كبير للمفسدة.

وضع صلب عينك عيوبك ولا تستجب لها عندما تحاول إخفائهم أو لفت نظرك إلى محاسنك وإثارة إعجابك بهم، فهذا فخ!

وعليك بأصحاب الخير ذوي الضمائر الحية، لكي يخوضوا الحرب معك ولا يسمحوا لنفسك بأن تخدعك.

انتبه من نفسك.

اقرأ أيضا:

هواجس النفس وسمومها

 تربية النفس وسبيل الخروج

احذر أن تُدمّر نفسك!

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة

مقالات ذات صلة