مقالات

اللطائف…كيف نحافظ على النعم ؟

أثناء سيرى في أحد الشوارع التفت إلى منظر مؤلم لشاب متسول جالس على قارعة الطريق، يرتدى جلبابا رجاليا مكشوف الصدر ويتألم بشدة من جرح في الصدر يشبه الحرق أو السلخ، ومن الواضح أن الجرح حديث وأنه يعانى من شدة الألم.

جلس يستعطف المارة بآلامه ويستجديهم لمساعدته وهو من شدة الألم والجرح منحني لا يستطيع فرد قامته، وبسبب احتياجه يمد يده بالسؤال -هكذا سمعته يقول- وهو يئن من شدة الألم قلت في نفسى بحزن وأسى بعد أن تأثرت بشدة بالمشهد والكلمات:

“لماذا يترك الله مثل هؤلاء الناس يتألمون ويصلون إلى التسول هكذا ولا يحميهم ويكفيهم ويعطيهم وهو الغنى ؟

وإن كان ظلمهم لم يأت من الله وقد حل بهم من بشر مثلهم فما ذنبهم هم؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهل يعقل أن يكون كل هذا إدّعاءا؟

فإن كان هذا إدّعاءا فكيف يقدّم تحمله لهذا الألم على تحمله لبعض الألم أو التعب البسيط في كسب لقمة العيش بشرف وكرامه!

أنكر عقلي هذه المقاربة ورفض أن يقتنع بأنه يتاجر بآلامه، فمن يتحمل كل هذا الألم من أجل التسول !!!

أكملت طريقى إلى سوق صغير يبعد حوالي محطة ويبيع أجهزة المحمول، وأثناء تجّولي بالسوق إذ هالني ما وقعت عليه عيناي حيث رأيت ذلك الشاب المتسول يقف منحنيا من شدة الألم لكنه هذه المرة لم يكن يتسول، بل كان يحمل في يده لفه من الأوراق النقدية قدمها ليشتري جهاز (موبايل) حديثا ذا إمكانيات عالية!!!!

حضرنى الرد على تساؤلاتى على الفور وتذكرت (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)سورة النحل، فكيف لهذا الرجل أن يفرط فى نعمة عظيمة كالصحة ويستبدلها بالذى هو أدنى.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إننا كثيرا ما نرى فى الحياة تفاوتا بين بني البشر فى النعم، ولكننا فى الغالب لا نلتفت كم أنعم الله علينا بخير كثير رغم هذا التفاوت الظاهر بسبب انغماسنا فى النظر والطلب والتمني لما رُزق به الآخرون، غافلين عمّا فى أيدينا معتقدين بالخطأ بوجود نقص في بعض النعم فى حياتنا، بينما لو تدبرنا قليلا فيما نملكه لشعرنا بعظمة ما نملك.

لو تخيلنا للحظة كيف يكون شعورنا لو أننا فقدنا نعمة ما أو ضيعناها بجهل أو بعدم رضى وتبطر أو جحود !

إن شعور الفقد والسلب بعد العطاء لهو شعور مؤلم لا أتمناه لأحد أبدًا، ولكن ما يستحق الانتباه منا فعلا أنه كثيرا ما نضيع ما فى أيدينا من نعم ولا ندرك خسارتنا إلا بعد أن تحدث، وهذا مالا يجب أن يصدر من عاقل واعٍ مؤمن بعدل الرزاق الكريم.

فعلينا أن ندرك ما فى أيدينا قبل أن نخسره أو نضيعه، بل ونحاول أن نقوم بواجبنا تجاهه بل والعطاء من خلاله قدر المستطاع؛ فمحاولة العطاء منه أو من خلاله من المؤكد أعظم من مجرد الشكر والامتنان للرزاق، كما أنه من المؤكد أيضًا أن العطاء يزيد النعم ولا ينقص منها شيء، بل على العكس فكلما أعطيت منها تكاثرت وازدادت،

فمثلا من رُزق بنعمة العقل السليم والمعرفة فإنه إن قام بواجبه وسعى فى العطاء منها فيساهم بتعليم العلم النافع ونشر المعرفة والوعي، فإن أقل عائد سيعود عليه مع كثرة الإعادة لذلك العلم على مسامع الآخرين هو أن يترسخ هذا العلم فى الذهن، بل وينتج أكثر من ذلك، حيث إنه مع أسئلتهم قد يحتاج للبحث والازدياد فى التعلم والتعلق والانشغال بما هو غذاء ثمين ورزق وفير ألا وهو العلم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كما أن انتشار الوعي والمعرفة من حولة سيرتقى بمجتمعه، مما يعود عليه بمجتمع متقدم يتسم بالعلم والمعرفة ويحمل صفات الصلاح ومقومات النجاح والفلاح، وليس مجتمعا جاهلا فاسدا هداما، وهذه أبسط آثار العطاء.

فلو أكملنا التفكر فى آثار العطاء لأنهينا المقال دون أن ننتهي من حصر خيرات وبركات وفوائد العطاء، فما يُعطَى يعود أضعافا لا محالة، كما وأنه من الضرورى لصفات الرزاق ومما هو موافق لصفة الحكمة فى صفاته أن هناك حكمة من امتلاك بعضنا لنعم دون الآخرين، وأن التفاوت فى النعم له حكمة ما لو تفكرنا قليلا لاتضحت لنا وبزغت أمام أعيننا.

كما أنه لا شك أن علينا أدوار وواجبات قد نلتفت لها وقد لا نكون ملتفتين لها، والأخطر من ذلك والملفت للنظر أنه ليس الجميع يرى هذه النعم من الأساس بوضوح، أو ليست النعمة فى مرمى بصره بتاتا، فهو مشغول يبحث هنا وهناك عن نعم أخرى لا تعد ولا تحصى، وهذه الحالة تجعله أعمى عما هو قريب منه، أعمى عن رؤية نعمته وكذلك عن واجباته تجاهها، قد ضل عنها لأنه يبحث بعيدا. ففى اعتقاد البعض أنه كلما نظر بعيدا عنه ولهث بعيدا تحصل على نعم أكثر وأفضل !!

فمن ينظر إلى متعة غيره، ونعم غيره من الناس متحسرا على نفسه متمنيا ما فى أيديهم جاهلا بما يملك هو وجاهلا بما يترك خلفه وبما كان من نصيبه، فمثله كمن يملك كوبا مملوءا للنصف بماء عذب مثلج فى يوم شديد الحرارة، ويرى من بعيد أن الآخرين يمتلكون أكوابا مملوءة بنسبة أكبر منه، فيتمنى ما فى أيديهم غير ملتفت لما يملك هو، ثم يسعى ويسعى للحصول على أكواب الآخرين، أو مثل أكوابهم على الأقل، فيرمي ما يملكه من ماء عذب ليملأ كوبه مثلهم،

وحينما يتحصل عليه بجده ماءا مالحا أجاجا لا يرفع عنه العطش، بل يزيده عطشا فى يوم كهذا، فيندم ويتذكر ما كان يملك وما ضيعه بسوء تصرفه وما عمي عن إدراكه بسبب طمعه وتمنيه لما يملكه غيره من نعم. وهو للأسف ضيع ما كان يملكه ليطلب ما قد يكون ليس بحقه أو لا يناسبه على الأقل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أتسائل أحيانا إذا ما كانت تلك النعم تفيده من الأساس دون أن يعرف الهدف منها أو فائدتها أو الحكمة من وجودها، بل وأحيانا أفكر ما الذى يجعلنا نعتقد أنها نعمة لنا أيضا، فقد تكون ابتلاءنا وليست نعمتنا كما تمثل للآخرين، بل قد تكون فتنتهم أيضا وليست نعمتهم كما نعتقد. فما يدرينا بحقيقتها؟!

فعندما تتأمل عزيزي القارئ في كنه النعم؛ تجد أنها المنة والفضل والعطاء الذى نتنعم به، وبذلك تتوصل إلى المقصود بالنعمة ألا وهو ما يُتنعّم به، وأن أي عطاء أو خير لدينا إن لم نعلم كيف نتنعم أو نستفيد منه بفائدة حقيقية، فهو ليس نعمة بالنسبة لنا، أو لن يكون نعمة لنا بل قد نحوله إلى ابتلاء أو نقمة بسوء تصرفنا تجاهه، وبذلك نصل إلى بحث آخر فما الذى يعرفنا بالنعم؟ وكيف نحافظ عليها بل وكيف نتنعم بها لتكون نعمتنا فعلا؟ ولا نسيء استخدامها بجهل أو تقصير؟

وبالرغم من أن تحديد أو حصر عدد النعم من حولنا أو فى حياتنا يعد صعبا، إلا أننا لوقررنا جدلا و فرضا واستطعنا أن نعد بيانا بأسماء النعم التى نمتلكها ونرتبها من حيث الأهمية، بحيث يسهل علينا تمييزها ووضع كل واحدة منهن فى مكانها الصحيح فى جدول الاولويات.

فلو بدأنا القائمه بالعين مثلا …. سنجد أنها لم تكن موجودة لولا وجود الرأس الذي تلتصق به، وأن الرأس لم يكن موجودا لولا الجسد الذى يستند عليه، وأن الجسد يتكون من كثير من الأعضاء والنعم الداخلية والخارجية، والتي لايستطيع أحدها الحركة بدون القلب، فهو الرئيس عليهم وعلى الجسد كله،

فلو تراجعنا لأصل ما يتحكم فى الإرادة والحركة وكل ما فينا سنجد أنفسنا أمام ( العقل) الذى لولاة لما تفكرنا أو استطعنا التفكير فى النعم من الأساس، بل فى كل شيء من حولنا، بل ومن دونه لن يستطيع القلب أن يتخذ القرار بالحركة والنشاط البدني مهما فعل.

وهنا عند العقل نكون قد وصلنا الى رأس النعم بل وإلى أصل النعمة الأكثر فائدة، والتي بها نستطيع المعرفة والتمييز بين النعم وكيفية المحافظة عليها، بل واستغلالها بشكل سليم والعطاء منها دون أن تنقص أبدا، ولو تدبرنا قليلا فى ما فعلناه من تفكير لعلمنا أن عملية التفكير نفسها لهي نعمة عظيمة أيضا،

فترتيب المعلومات بشكل صحيح للوصول إلى نتائج صحيحة هي عملية تسمى بعملية (التفكير السليم) والذى يحدث بداخل (العقل) ويعتمد فى حدوثه بشكل سليم على سلامة العقل من أى أمراض أو تشوهات فكرية أومادية، وإنها لا شك نعمة عظيمة تلك التى علمتنا وتعلمنا الكثير عن كل شئ، وياحبذا لو استطعنا أن ننمّي ونرعى العقل الذى به يتميز ويتمايز بني البشر عن غيرهم من المخلوقات كافة،

وإن نعمة العقل المفكر الناضج والمثقف لهي أفضل ما يستطيع أن يحكم باقي النعم ويحافظ عليها ويحميها من مخاطر تلوث الفطرة، ويرتقي بالعقل حتى الوصول إلى رأس كل الخير ورأس كل النعم، والتى تجعل التفكير مثمرا بعد بنائه بشكل سليم معتمدا على العلم السليم، والتى بها نضع كل شيء فى موضعه دون زيادة أو نقصان ودون إفراط أو تفريط؛ ألا وهى نعمة (الحكمة) رزقنا الله وإياكم بها .

﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ [سورة البقرة الآية:269] الْحِكْمَةُ هِيَ الرَّأْسُ. فَاقْتَنِ الْحِكْمَةَ، وَبِكُلِّ مُقْتَنَاكَ اقْتَنِ الْفَهْمَ” (سفر الأمثال 4: 7)

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

رحيل محمد

عضوة بفريق بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة