إصداراتمقالات

الكبر الخفى

يروى عن ماري انطوانيت الملكة الفرنسية أنها يومًا ما عندما سألت مسؤولا رسميا عن سبب غضب الباريسيين وأجاب بأنهم لا يجدون الخبز، كان ردها إذًن فليأكلوا الكعك! لست متأكدة من صحة الرواية ولكني أوردتها كمثال لتوضيح مدى التغلغل في الأبراج العاجية الذي ينتج عنه انفصالًا عن الواقع لا يمكن تصديق أنه حقيقي لا محض مزحة.

تلك الأبراج العاجية ليست فقط من نصيب أصحاب المال أو أصحاب السلطة، هم فقط الأشهر، هناك نوع من الأبراج العاجية قد تصدر ممن يطلق عليهم الطبقة المتعلمة أو المثقفة، هذا النوع قد بنى لنفسه برجًا علميًا أو ثقافيًا ليصبح كل منهم بما لديهم فرحين.

الأبراج العاجية لا تعني فقط الانفصال عن الواقع، فهناك نوع من الاتصال المستكبر على الواقع، ينشأ هذا النوع عند متابعي الأحداث ومترصدي الأخبار والحالة العامة، سواء كان هؤلاء من العاملين في محاولات تحسين المجتمع وتغييره أم لا، المشترك بينهم أنهم يتهمون من دونهم بالجهل وأنهم السبب الرئيسي لكل مصائب المجتمع ومنحدراته.

الجهل الذي يقصدونه ليس جهلًا بالقراءة والكتابة بل جهلًا بالصواب أو الحقيقة أو المنطق، جهلًا يمكن محوه ببساطة بتوعية هؤلاء بتلك الحقائق وبراهينها. لا أقول بالطبع إنّ هذا هو الحل الوحيد فهناك من يمنعهم العند أو الكبر أو المصلحة الشخصية من تقبل الحقائق أو الاعتراف بها، ولكن هناك من هم في استعداد لسماع الحقيقة والعمل على أساسها ولكن من يفترض بهم توعيتهم أو نقل الحقيقة لهم مشغولون في تحديث صفحاتهم بالكتابة عن الجهل كسبب للأزمات دون محاولة إصلاح الواقع ولو بمحاولة نقل الحقيقة التي أدركوها بعبقريتهم لشخص واحد من هؤلاء الجهلة في نظرهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد يختلف تصميم البرج وإن كان المحتوى واحد، فيستكبر العقلاء والمثقفون على بعضهم البعض في اختلافات رؤاهم وأيدولوجياتهم وبالطبع سلوكياتهم، فترى كل طائفة أنها وحدها تملك الحق ومن دونها محيد عنه لا محالة، ولا يجد من ساء حاله وتفاقم وضعه في الكبر غضاضة في وضع معايير الحق مفصلةً على هواه، ولن يتجنب اتهام المنطق أو الدين أو العلم كمرجع أولي لمعاييره التي صاغها كما يهوى، وهم من ذنبه أبرياء، وقد يصل سوء الوضع إلى عمى المتكبر عن كبره ونكرانه له ورفض أي نصيحة بإزالة الشوائب قبل الحكم زاعمًا بأنه لا يمكنه إزالة ما هو غير موجود في الأصل. فهنيئًا له ببداية النهاية، فكما قال رسولنا الكريم عن الكبر: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر”، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا، فقال: “إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطَر الحق وغمط الناس” رواه مسلم. بطر الحق أي رده ورفض الانصياع إليه على حساب النفس، وغمط الناس أي التقليل من شأنهم في مقابل الذات المتعالية، وما سبق بالطبع ينطبق على العقلاء والمثقفين لا مدّعي التعقل والتثقف. فالفئة الأولى هي الأمل الوحيد في إصلاح المجتمع، أما الفئة الثانية فما قرأته من قصاصات كتب لن يفرقها كثيرًا عمن تتهمه بالجهل إلا باستعمالهم لبعض المصطلحات المعقدة التي يجهلون فحوى أغلبها.

وهناك نوع من الأبراج يثير حنقي بشكل شخصي، وهي أبراج التخصصات، فتجد كل ذا علم فرحا بما آتاه الله ويستعمله للسخرية والتكبر على خلقه، الأطباء كمثال، حتى أصبح شائعًا جدًا أن يتحول كل طبيب حديث العهد إلي كوميديان يحول لجوء الناس إليه طلبًا للمشورة إلى مادة للسخرية، ويحول جهلهم بالمصطلحات الطبية إلى مدعاة للضحك، وكأنه من الطبيعي أن يكون لديهم ما لديك من تعليم أخذ من عمرك ما لا يقل عن سبع سنوات لم تفتأ تشتكي من صعوبتهم، لا أعمم هذا على أي طبيب يحاول أن يهوّن على نفسه بالسخرية من واقعه، ولكن أخص بحديثي من يكشف في كتاباته أسرارًا خاصة بالمريض وحالته بدون إذن منه وبالسخرية الجارحة له.

هناك خط رفيع بين انتقاد المجتمع أملًا في إصلاحه وبين التكبر على شعبه وفئاته رغبة في التعالي، وهناك خط رفيع بين السخرية الحميدة التي تستعمل كوسيلة نفسية دفاعية للتخفيف عن النفس والسخرية الخبيثة التي تؤذي الغير لإعلاء النفس، وعلى كل انسان أن يعلم أن ما آتاه الله من علم أو ثقافة رُزق بهما من غير حول منه ولا قوة، فحتى قدرة الاجتهاد في الطلب والتحصيل رزقٌ من خالقه، رُزق بها ليستعملها في الخير وتحقيق الكمال لفرده ولمجتمعه، هذا الرزق هو عبء على حامله يدفع أجره بالعمل به لا منحة مجانية تدفعه لخطيئة إبليس، وعدل الله يقتضي أن يحاسب كل على علمه وكيف استخدمه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه”.

آية سعيد

طالبة بكلية الطب _ جامعة المنصورة

عضوة ومحاضرة في فريق مشروعنا بالعقل نبدأ المنصورة

مقالات ذات صلة