إن وقوع العنف داخل المجال الديني، يطرح منذ الوهلة الأولى سؤالًا ملحًا ومحرجًا: كيف يكون العنف دينيًا، والدين قد جاء لانتزاع مقدماته المتمثلة في حب التسلط ورغبة المنازعة عند الإنسان؟ بعبارة أكثر إيجازًا: كيف تصير الممارسات الدينية سبيلًا لصفات ذميمة قد جاء الدين لمداواتها أصلًا، وهي التسلط والمنازعة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضينا خطوتين حتى نمسك بجذر الداء من جهة، ومدخل الفساد إلى الممارسات الدينية عند بعض الطائعين من جهة أخرى.
أما الخطوة الأولى التي تتغيا الإمساك بجذر الداء فلا سبيل إليها إلا بمعرفة مقومات التسلط، ذلك الذي يمثل منبع العنف الأول والأكبر كما سنعرف.
وأما الخطوة الثانية فهي التي تتغيا معرفة مداخل هذا التسلط للعمل الشرعي، أي: كيف أن العمل الشرعي إذا ما أصابه خلل معين قوّى هذا الخلل حب التسلط داخل النفس الإنسانية، فأفضى بصاحبه إلى ممارسة العنف في الأقوال والأفعال دون أن يعرف أو يعي صاحب هذا العمل الشرعي ذلك، وهذا هو التفصيل.
الخطوة الأولى: مقومات التسلط
إن العنف بوصفه إيذاءً للآخر، هو عرض طارئ ينشأ عن مرض في النفس الإنسانية هو حب التسلط عند الإنسان، وهذا المرض هو الذي سنكثف عليه الضوء، فالارتباط بين العنف والتسلط قوي بصورة تجعلنا نقول: كلما ازداد الإنسان تسلطًا ازداد عنفًا، الأمر الذي يحتم علينا وضع هذا التسلط تحت عدسة المجهر لنعرف مقوماته التي يقوى وينهض عليها العنف في نفس الإنسان، فنجد أن التحديق في التسلط ينتهي بنا إلى أن هذا التسلط ما كان له أن يستبد بالإنسان لولا وجود شرطين يعدان أساسًا له، ألا وهما: التملك والتميز، فالإنسان لا يتسلط بشيء إلا إذا تملكه تملكًا تامًا، كما لا يتسلط على أحد إلا إذا تيقن من تميزه عليه تميزًا كاملًا.
التملك والتميز
بموجب ازدياد “التملك” و”التميز” داخل النفس، يزداد العنف داخل الأفعال والأقوال والتصورات عند الإنسان، ذلك العنف الذي يأخذ صورًا عدة، بداية بـالاستعلاء بالشيء الذي يملكه العنيف أولًا، ثم لا يلبث هذا الاستعلاء مع انضمام الإحساس بـالتميز إليه عند العنيف، أن يتحول إلى احتقار للآخر ثانيًا، ثم إذا ما تحصل العنيف على أي صورة من صور القوة؛ المادية أو الرمزية، فإن هذا الاستعلاء وقرينه الاحتقار يتطوران إلى إقصاء للآخر ثالثًا، وصولًا إلى أقسى صور الإيذاء وأقصاها وهي: التعذيب والقتل للآخر.
هكذا دواليك يتحرك العنيف بين باطن ملؤه جهل التملك والتميز، وظاهر ملؤه ظلم الاستعلاء والاحتقار والإقصاء والتعذيب والقتل للآخر، لنخلص من ذلك إلى معادلة معرفية تقول: “إن العنيف كلما استبد به جهل الباطن المتمثل في التملك والتميز، انغمس أكثر في ظلم الظاهر المتجلي في صور العنف”.
إن ما انتهينا إليه من مركزية التملك والتميز في تطوير صور العنف عند العنيف، يطرح على كلامي سؤالًا ينقلنا إلى الخطوة الثانية المذكورة آنفًا: كيف يطرق هذان الداءان “التملك” و”التميز” طاعات الطائعين، فيحولانها من سبيل للشفاء إلى سبب في الداء، فتصير الطاعات مدخلًا للعنف وقد كانت دواءً لمقدماته؟!
الخطوة الثانية: مداخل العنف إلى العمل الشرعي
بدايةً وتحديدًا لموضع الخلل المروم رصده لا بد أن نفرق بين الدين والتدين، فالدين هو المُنزَّل من عند الله في صورة أحكام وتعاليم وأخلاق، أما التدين فهو ممارستنا نحن البشر لهذا الدين المنزل من قِبَل الله، فالخلل المروم الإمساك به واقع في دائرة التدين التي تخص ممارسات بعض العاملين بالدين، وليس في دائرة الدين التي تخص الله عز وجل.
وعليه، أقول: أن يكون العنف وصفًا ثابتًا للقائم بالعمل الشرعي، إنما يعني أن هذا القائم بالعمل الشرعي يعاني مشكلتين ثانيتهما نتيجة لأولاهما، أما الأولى: فهي سذاجة تصوره للعمل الشرعي، وأما الثانية: فهي غفلة وعيه عن مسالك الآفات –التي سبق أن حددناها وهما التملك والتميز– إلى العمل الشرعي أثناء القيام به، فتخرج هاتان المشكلتان بآثار العمل الشرعي عن اللطف الواجب تحققه للقائم بالعمل الشرعي، إلى العنف المصيب له بسبب هاتين المشكلتين.
هل يسبب الدين العنف؟
الأمر الذي يتطلب أمرين تجاوزًا منا لهاتين المشكلتين، الأول: أن نضع العمل الشرعي تحت المجهر بغية وعيه وعيًا حقيقيًا، نستطيع من خلاله أن نكشف ما نسبناه إلى العنيف من سذاجة تصوره للعمل الشرعي.
الثاني: كشف مسالك هاتين الآفتين التملك والتميز، اللتين تعرضان للعامل أثناء قيامه بالعمل الشرعي فتخرج بآثار العمل عن اللطف المفترض دينًا إلى العنف المتحقق في نفس العنيف تدينًا.
سنقف في نهاية هذا العرض على أن ثمة تساوقًا أو تناغمًا بين فهم العنيف للعمل الشرعي من جهة وبين عدم وعيه بمسالك هذه الآفات إلى عمله الشرعي من جهة ثانية، الأمر الذي يدعم الفرضية التي قام عليها كلامي هنا، ألا وهي: أن مدخل العنف إلى الممارسات الشرعية إنما يتحقق من جهة سذاجة تصور أصحاب هذه الممارسات للعمل الشرعي، وهو ما يوقعهم في الغفلة عن مسالك دقيق الآفات التي تعرض لهم في ممارستهم لهذا العمل الشرعي، فيخرج بهم كل ذلك من لطف الدين إلى عنف تدينهم.
أولًا: العمل الشرعي تحت المجهر
إن للعمل الشرعي جوانب تشكل مقوماته وأهدافًا توضح مراتبه، وستكون وقفتنا مع هذه وتلك لاستجلاء طبيعته وتعمق حقيقته.
(1) جوانب العمل الشرعي
إن جوانب العمل الشرعي تنبع من مفهوم الدين، فإذا كان الدين أحكامًا وتعاليم تتغيا سلوكًا وأخلاقًا، فإن العمل الشرعي هو المترجم الأمين له، من خلال اشتمال العمل الشرعي على جانبين:
(أ) جانب الأفعال، وهو ذو شقين: الأول: أفعال اعتقادية محلها القلب، والثاني: أفعال اشتغالية محلها الجوارح.
(ب) جانب الآثار الأخلاقية التي تتركها الأفعال في سلوك القائم بها، وهي آثار سلوكية متفاوتة في ظهورها ما بين جلية وخفية، وقد وضع لهذه الآثار لفظ الأخلاق للدلالة عليها، ومن ثم فالأخلاق في ديننا ليست كمالات أو فضائل، بما تفيده كلمة فضيلة من فضل أو زيادة عن الحاجة، بل إن التخلق السلوكي بقيم المعتقدات القلبية والأفعال الاشتغالية ومعانيهما من ضرورات ديننا وليس من كمالاته، فالخلق في ديننا مُقوِّم أصيل للإنسان مثل الخلقة وإلا صار المرء بافتقاد الخُلُق كالأنعام، ألم يقل الله عمن فقد الخلق وحصَّل الخِلقة: “إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا”، [سورة الفرقان، 44].
(2) أهداف العمل الشرعي
إن أهداف العمل الشرعي التي تكشف مراتبه، هدفان:
الأول: ظاهر قريب يتغيا حماية العامل من الانحراف المتمثل في ترك العمل، وإدراك هذا الهدف يتحقق بمجرد الدخول في العمل.
الثاني: باطن بعيد يتغيا الوصول إلى الله، وهذا الوصول لا يكفيه مجرد الدخول في العمل، لكنه يحتاج فوق ذلك إلى التنزل في مراتب العمل الشرعي.
العلاقة بين الدين والأخلاق
هل للعمل الشرعي مراتب؟ الإجابة: نعم، إذ إن العمل الشرعي بجانبيه وما يتضمنه أولهما من شقين، ليس مرتبتين تدوران ما بين الفعل والترك، لكنه –على التحقيق بعد الفعل له– مراتب متفاوتة ومتعددة، وسر هذا التفاوت في مراتبه ينبع من طبيعة العلاقة بين جانبيه، الأفعال الاعتقادية والاشتغالية من جهة، وما ينتج عنها من آثار سلوكية أخلاقية من جهة أخرى.
بيان أمر هذا التفاوت في مراتب العمل الشرعي، يتضح بمعرفة تلك العلاقة التفاعلية بين قسمي الأفعال الشرعية؛ الاعتقادات والاشتغالات، إذ إن العلاقة بين هذين القسمين وما يترتب عليهما من آثار أخلاقية ليست منفكة، بل إنها على التحقيق “تفاعلية”، بمعنى أن كل طرف من الأطراف الثلاث: الاعتقادي والاشتغالي والأخلاقي، يتبادل طرفي الفعل والانفعال مع الطرف الآخر، فيصير كل واحد منها مؤثرًا في الآخر بعد ما كان متأثرًا به، فـالاعتقاد كما أنه محرك لـلاشتغال وموجه له، فكذلك الاشتغال مُجوِّد لـلاعتقاد ومُرَقٍّ له.
بيان ذلك أن العامل كلما اشتغل بمقتضى اعتقاده ارتقى هذا الاعتقاد درجة عند صاحبه، ولهذا الارتقاء في الاعتقاد علامات نظرية وعلامات اشتغالية وعلامات أخلاقية، تظهر على الشخص العامل في نظره تأصيلًا وعمقًا وفي اشتغاله زيادة وفي أخلاقه تجويدًا، الأمر الذي يعني أن الاعتقاد القلبي محرك لاشتغال الجوارح ولـتزكية الأخلاق، وأن اشتغال الجوارح بالطاعات يعود فينعكس على اعتقاد القلب ترقية وعلى الأخلاق تزكية، فتعود هذه الترقية القلبية والتزكية الخلقية بالانعكاس على الجوارح تجويدًا في وظيفتها وزيادة في اشتغالها.
من الخوف إلى الهيبة
بيّن الله هذه الرحلة الإلهية في صورة تبسيطية تشير إلى هذه التفاعلية بين جوانب العمل الشرعي حينما قال في الحديث القدسي: “وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها”، فيصير للعامل على مستوى النظر: بصر وبصيرة، وعلى مستوى السمع له: إصغاء ووعي، وعلى مستوى العقل له: تمييز وفهم.
على سبيل المثال للإيضاح: “الخوف” وهو أمر قلبي يترقى إلى “خشية” من خلال اشتغال الجوارح بـالطاعة والتعلم، إذ إن الخشية خوف على معرفة، “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ”، [فاطر:28]، ثم إن هذه الترقية القلبية (الخشية) تدفع العامل إلى مزيد اشتغال يورِثه محبة الله، وبانضمام المحبة إلى المعرفة يرتقي العامل من الخشية إلى “الهيبة”، وهي درجة خاصة بالمحبين، وهذا ما قصدته بأن العلاقة بين القلبي والاشتغالي علاقة تفاعلية.
المحصلة بعد هذا التفصيل نستطيع أن نلخصها في قاعدة كلية تركز لنا جوانب العمل الشرعي كاشفة مراتبه المتفاوتة، وهي: أن ثمة علاقة طردية بين الأفعال الشرعية بشقيها اعتقادات واشتغالات وبين الآثار الأخلاقية الناتجة عنها.
بيان هذه العلاقة: كلما حسن الخلق والسلوك كان ذلك دليلًا على حسن الأداء للأفعال الشرعية عند العامل، ومن ثم يتدرج العاملون ويتفاوتون في مراتب العمل الشرعي وفي الآثار الأخلاقية المترتبة عليه.
يتبع.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا