علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

التسامح وأسباب غيابه في المجتمعات

وفق إحصائيات أخيرة ازدادت معدلات العنف في كثير من المجتمعات، لا سيما في بعض دول منطقة الشرق الأوسط، ربما بسبب كثرة المشكلات الاقتصادية والبيئة والاجتماعية والسياسية…

الأمر الذي يفرض على كثيرٍ من المؤسسات الحكومية، وبخاصة الدينية والتعليمية والثقافية، تكثيف جهودها الرامية إلى توعية المواطنين بأهمية ثقافة التسامح والمحبة، بمقتضى قول الله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”، “ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ”. وأحاديث رسول الله (ﷺ) المتكررة عن أهمية الرفق واللين في التعاملات الحياتية، وأن المسلم ينال باللين ما لا يتوفر له بالشدة والغلظة: “ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار، على كل قريب هين لين سهل”، وقوله صلى الله عليه وسلم “رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى”.

غير أن طبيعة العصر الحالي وشيوع المادية أثّرا على الجوانب الروحية للإنسان، وذلك لأسباب يضيق المقام بذكرها، ما أدى إلى انتشار ظواهر سلبية مثل العزلة وكثير من المشاكل السلوكية والأخلاقية ومن أهمها العنف.

انتبه العالم إلى خطورة هذه الظاهرة، وقررت الأمم المتحدة تخصيص يوم الـ(16) من نوفمبر للاحتفال سنويًا بقيم التسامح وقبول الآخر، ونبذ كل مظاهر وأشكال التعصب والتمييز والكراهية. والحقيقة أن المسؤولية لا تقتصر على الحكومات والمؤسسات الدولية فقط، وإنما يتعين على كل فرد تعزيز ونشر ثقافة التعامل الحضاري، والصبر على المكاره، واحترام الآخر المختلف فكريًا وثقافيًا. علمًا بأن تعزيز ثقافة التسامح في المجتمع يضمن القدرة على تنمية الثقافة الدينية والاجتماعية وتقوية العلاقات الإيجابية بين الأفراد، بما فيها تعزيز القدرة على نبذ التعصب والتشدد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً: التعصب والتسامح في مرآة الممارسات التطبيقية

أسباب العنف المجتمعي

السؤال الذي يطرح نفسه: ما أسباب بروز مظاهر العنف في المجتمعات، بالتوازي مع غياب قيم التسامح وقبول الآخر أو تجاهلها؟ نرى أن الإجابة عن هذا السؤال يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

عدم الاهتمام بتربية النشء:

وهنا نتحدث عن دور الأسرة وأهميته، إذ يتناسى بعض أولياء الأمور تحت الضغوط اليومية والحياتية، الاهتمام بتربية أبنائهم، ويتركونهم فريسة لوسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها من القنوات التي ربما تفتقر إلى الرقابة على ما تقدمه من محتوى، يبحثون فيها عما يدور بخلدهم، أو يقضون عليها أوقات انشغال الأبوين عنهم.

هنا يُترك الطفل ليتربى على قيمٍ مختلفة عن القيم التي تربى عليها والداه، بل ربما تتناقض مع قيم مجتمعه وخصوصيته الثقافية، وبالتالي تتقطع الصلات المعنوية بين الأطفال والأبوين، ويصبح الأطفال منعزلين في عوالمهم الافتراضية، التي يحث جزء كبير منها على العنف وعدم التسامح وعدم أخذ الحقوق بالوسائل القانونية المشروعة.

الدور الإعلامي:

تروج أحيانًا بعض الأعمال الدرامية والبرامج التليفزيونية للعنف وممارسيه –عن عمدٍ أو بحسن نية– باعتباره بطولة ومغامرة، وأن على البطل أن يجيد حمل الأسلحة، والتعامل معها باحترافية، وتبرر له الاعتداء على الآخرين، وعدم احترام القانون، بل وتصيغ بعض الأعمال الدرامية مصطلحات العنف في شكل مقولات وقوالب مسجوعة يسهل حفظها، ويرددها الأطفال لبعضهم في الشوارع والنوادي والمدارس… فتُرسخ في عقول الشباب، وتحل محل المهارات المعرفية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قد ربطت بعض الدراسات الأكاديمية بين الأعمال الدرامية التي تؤسس للعنف كونه أداة للتعامل مع مشاكل ومتطلبات الحياة اليومية، وبين سوء تصرف الأطفال والشباب، مؤكدة أن العنف الإعلامي قد يسبب خسائر نفسية وجسدية لا يمكن إصلاحها، خاصة للأطفال دون سن الثامنة، لأنهم لا يستطيعون بسهولة إدراك الفرق بين العالم الحقيقي والعالم الخيالي([1]). ويتكون لديهم اعتقاد بأن العالم عنيف ويجب الخوف منه([2])، ويتوقع الأطفال الذين يشاهدون البرامج العنيفة، سلوكًا عنيفًا من الآخرين ويرون العالم مكانًا خطيرًا.([3])

الضغوط الاقتصادية والسياسية:

تعاني بعض الفئات والطبقات الاجتماعية –وخصوصًا في مناطق النزاع– أوضاعًا اقتصادية سيئة واتساع الفجوة المادية بين الطبقات. الأمر الذي قد ينعكس على اهتمام الأفراد بتلبية الاحتياجات اليومية على حساب المسؤوليات الأخلاقية والتربوية.

وفق بعض الباحثين فإننا نعيش في عصر تكثر فيه الضغوط والأزمات الاقتصادية والسياسية والمعرفية والتكنولوجية، إذ ازدادت الحياة تعقيدًا، مما يفرض على الأفراد استخدام استراتيجيات وأساليب تناسب التعامل مع هذه الضغوط للتخفيف من حدتها. ووفق ليبو مرسكي، وسوسا، وديكرهوفا، يتعرض جميع الأفراد إلى ضغوط كبيرة ومتنوعة، وكلما فكر الفرد تفكيرًا إيجابيًا وأدرك الضغوط إدراكًا لا يحملها تهديدًا لحياته، شعر بالرضا وزاد مستوى الصحة النفسية لديه.([4])

تراجع مؤشرات التوعية الدينية:

لا شك أن لعلماء الدين مكانة مهمة وتأثيرًا عظيمًا في المجتمعات كافة، لا سيما في مجتمعاتنا الشرقية، وأن قواعدهم الجماهيرية تشمل جميع الفئات ولا تقتصر فقط على رواد المساجد، لذلك ينبغي أن تصل دعوتهم إلى الجميع.

هنا ينبغي أن نذكر أن نجاح رجل الدين في القيام بدوره ليس مقصورًا عليه وحده، بل ينبغي على مؤسسات المجتمع مساعدته لأداء رسالته، عن طريق خلق منابر دعوية يستطيعُ منها إيصال رسالته إلى فئات المجتمع المختلفة. فيمكن للقنوات التلفزيونية استضافة علماء الدين الثقات في برامجها المختلفة، كذلك يمكن للمدارس الاستعانة برجال الدين لتأصيل القيم الإنسانية لدى الأطفال، أيضًا مراكز الشباب وقصور الثقافة ومعسكرات الكشافة وغيرها من التجمعات الشبابية يمكن لها استضافة رجال الدين للقاء الشباب والحديث معهم عن قيم التسامح والتنوع والاختلاف وقبول الآخر وغيرها من القيم الإنسانية والأخلاقية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المشاكل الأسرية:

عادةً ما يتعرض بعض الأطفال إلى صدمات واضطرابات نفسية قد تستغرق وقتًا طويلًا للقضاء عليها والتخلص من تداعياتها السلبية، نتيجة انفصال الوالدين أو عنف أحدهما تجاه باقي أفراد الأسرة. ويؤثر العنف المنزلي عمومًا على كيفية تطور الطفل عاطفيًا واجتماعيًا وسلوكيًا وكذلك إدراكيًا ومعرفيًا. ويكون هؤلاء الأطفال أكثر ميلًا للانتقام من المجتمع وأكثر عرضة وسهولة للاستقطاب.

على أحسن الأحوال يؤثر العنف والخلافات الأسرية على تفكك شخصية الأطفال، بحيث تكون أكثر استعدادًا لتقبل الثقافات السلبية، ومن ثم اعتزال المجتمع والاغتراب عن واقعه الاجتماعي والديني والثقافي.

اقرأ أيضاً: العنف المقدس

طرق القضاء على العنف المجتمعي

cXi3RyEnn2 - التسامح وأسباب غيابه في المجتمعات

هذا بخلاف كثير من الأسباب الأخرى التي لا يتسع المقال لذكرها. لكن خطورة هذه الظاهرة تستدعي بذل كثير من الجهود الرامية إلى ترسيخ ثقافة التسامح بين أبناء المجتمعات ومنها:

اضغط على الاعلان لو أعجبك
  • نبذ التعصب والدعوة إلى قبول الآخر والتعايش السلمي مع المختلفين في الفكر أو العقيدة.
  • ترسيخ قيم حرية ممارسة الشعائر الدينية والحوار والمواطنة والتنوع والاختلاف في إطار من التسامح.
  • التوعية بأهمية تربية الأبناء وتأهيل المقبلين على الزواج.
  • التعاون المجتمعي للتخفيف من وطأة الأعباء الاقتصادية والسياسية، ومعالجة المشكلات المجتمعية.
  • توجيه الإعلام للاهتمام بتعزيز ثقافة التسامح في المجتمع، وإعادة النظر في طريقة تدريس مادة التربية الدينية في المدارس، وتدريب مدرسيها على كيفية الرد على من يجتزئ النصوص الدينية ويخرجها من سياقاتها، ويمكن الاستعانة في ذلك بمؤسسة الأزهر الشريف وخصوصًا هيئاته المستحدثة من مرصدٍ ومركزٍ عالمي للفتوى، فالتطرف الآن مرض العصر، وأهم سبب للفكر المتطرف الفهم الخاطئ للنصوص الدينية، والتفسير المريض للأحداث التاريخية.

المصادر:

-1 نزار شافعي، نظرية العنف الإعلامي، ص 24

[2] – رضا فاضل، العلاقة بين سلوك الوالدين والوضع الاجتماعي والاقتصادي مع مشاهدة العنف التلفزيوني والموافقة عليه واللجوء إليه عند الأطفال”، المجلة الفصلية للبحوث والتقييم، المجلد 54، ص 148.

[3] – فيليب نيومان، آثار التليفزيون على نمو الطفل، ص 45.

[4]– Lyubomirsky, Sousa&Dickerhoof, 2006

تعرف على: أسباب العنف ضد المرأة في المجتمع العربي وكيفيه علاجه

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

 

 

د. حسني متولي محمد

مشرف اللغة الفارسية – مرصد الأزهر الشريف

باحث متخصص في اللغة الفارسية وفي الشأن الإيراني الأفغاني

مقالات ذات صلة