علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

العقوق الأكاديمي

لا غرو أن المجتمع الأكاديمي وأساتذة الجامعات –شئنا أم أبينا– هم خلاصة المجتمع, وعلى قمة هرمه, يتسنمون رفعته؛ فهم الذين يناط بهم, ويوكل إليهم تنشئة الجيل الجديد من الكوادر العلمية التي ستقود قاطرة التقدم في شتى مناحي الحياة وكل مجالاتها, وهو بحكم تكوينه يتألف من فئات حازت على أعلى الدرجات العلمية باجتهادها, وتفوقها, وقدرتها على الدرس والبحث والتفتيش والتنقيب.

والمجتمع الأكاديمي مثله مثل أي مجتمع من المجتمعات الأخرى, ليس شيئا واحدا, إنما هو مزيج من أخلاط شتى, وأشائب متغايرة, انحدروا من طبقات اجتماعية متنوعة, لها ثقافات متباينة, وفق تربية معينة, وخلفيات مختلفة, الأمر الذي يجعله يخضع لقانون أي مجتمع, وناموس أي حياة أخرى, ومن ثم فهو ليس مجتمعا يوتوبيا خالصا, حصل على صكِّ المثالية, أو جائزة الكمال, بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ذلك أنه يتألف من بشر,

ولذلك يجري ما يجري عليهم من الأخلاق الفاضلة والذميمة, من صدق وكذب, وعدل وظلم, وأمانة وخيانة, وعفاف وعهر, وبر وعقوق, ومن البديهي أن تقل الخصال السيئة عن غيره من المجمعات؛ نظرا لوصوله إلى درجة معينة من الترقي العلمي الذي –من البدهي– يؤدي إلى ترقٍّ أخلاقي قدر الإمكان!

بيد أن أكبر آفة من آفات هذا المجتمع هي (العقوق) نعم العقوق بكل أشكاله, وكافة أنواعه, وجل صوره, بحيث يمكن أن يعفي على ما عداه من عيوب ومثالب أخرى, وهذا يعني أن العقوق لا يتعلق فقط بعقوق الابن بوالديه أو بأقاربه, ونسيانه تنشئتهم له, وتربيتهم إياه, ولعل هذا من أكبر الكبائر التي نهى عنها الشرع الحنيف,

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولذلك قال تعالى: ( وبالوالدين إحسانا), ومن ثم فقد قرن الإحسان بالوالدين والبر بهما بعبادة الله تعالى: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)؛ لعظم مكانتهما ورفعة شأنهما, حتى وإن كانا كافرين, بل نهى عن إغلاظ القول لهما، ناهيك عن سيء الفعل: فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما, واخفض لهما جناح الذل من الرحمة, وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)!

وبالمعلمين والأساتذة إحسانا

ووفقا لذلك يمكن أن ينسحب لك على أب قام على تعليمك وتنشئتك, حتى وإن لم تربطك به رابطة الدم أو النسب, فالآية يمكن أن يستشف منها ما هو أكثر من ذلك, نعم, ولذلك يمكن أن نقول مطمئنين غير مبالغين, قياسا على الآية السابقة:( وبالمعلمين وبالأساتذة إحسانا, ولا تقل لهم أف, ولا تنهرهم, وقل لهم قولا كريما, واخفض لهم جناح الذل من الرحمة والتوقير والتبجيل), خاصة إذا بلغوا من الكبر عتيا, وانحنى منهم الظهر مقوسا محنيا, عندئذ وجب البر بهم, والعطف لهم؛

إذ إنهم يكونون في أمس الحاجة إلى أن يروا أثر غرسهم في طلابهم وتلاميذهم, الذين أفنوا أعمارهم, وما أبقوا لهم ثمالة علمهم, بل وأسقوهم سؤر جهدهم, خالصا سائغا للشاربين, دونما بخل بما عندهم, ولا كتمان بما لديهم, فعلوا كل ذلك لوجه الله, وفي سبيل العلم, لا يرومون جزاء ولا شكورا!

لكننا وللأسف الشديد وجدنا هذا المجتمع يجأر من تفشي هذي الآفة, بل ويشكو مر الشكوى –وليس راء كمن سمع, ولا ينبئك مثل خبير– ؛ حيث شاع العقوق بين جنبات هذا المجتمع, حتى كاد أن ينقض من أساسه بفعل هذا الأمر الشنيع الذي عم وطم, حتى غدا التلميذ يعق أساتذته, وينكر فضل من قدم له كل غال ونفيس, نعم منحوهم أغلى ما لديهم, وأثمن ما يملكون من وقت وجهد وعلم؛ حتى يرتفع شأنهم, وتعظم مكانتهم, ويكون لهم شأن في مجتمعه, يشار إليه بالبنان, حاصلا على أعلى الدرجات,

يفعل ذلك أيضا حتى يكون امتدادا له كما هو الشأن في الوالد وولده, نعم, فكم جلس معه, واستقطع من وقته بالساعات, والأيام, والشهور, بل والأعوام, حتى يقوم تفكيره, ويعدل من أسلوبه, ويخطط له بحثه, ويراجع له أدواته, ويقيم له إجراءاته, ويطمئن على سير رسالته, ومن حوصلة نتائجه, وما توصل إليه, ولا يهدأ, من غير ما كلل أو ملل حتى يحصل على الدرجة العلمية, فحينها يكون الفرح بما غرس وبذر, فبه يبأى, وبه يفتخر, يفعل كل ذلك لا يريد جزاء ولا شكورا, إلا وجه الله والعلم!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عقوق الطلاب

نجد ذلك جليا في عقوق الطالب مع أساتذته الذين درس لهم, وتخرج على أيديهم, واستقى العلم من معينهم, وكانوا سببا فيما حصل من علم وخبرة ودرس, لكننا –وللأسف– نجد أمرا مبكيا, وإن شئت مخزيا, حينما تجد أحد هؤلاء الطلاب وقد قابل أحد أساتذته في مكان ما, فيغض الطرف عنه, فينكره, ولا يأبه بوجوده, ولا يهتم بحاله,

وقد حكي بعض الأصدقاء من الأساتذة قصصا مبكية أن أحد طلابه رآه فلم يلق عليه السلام, وآخر قابله فنظر إليه شذرا, وثالث وقد عامله بما لا يليق, ورابع وخامس, مما تدمع له العين, وينفطر له القلب؛ حزنا وكمدا, ورحم الله زمنا كنا نرى فيه مدرسينا فلا نستطيع أن نسير في طريقهم احتراما وإعزازا وتبجيلا وخشية, فإذا ما صادفناهم فجأة وقعنا على أيديهم تقبيلا وتبجيلا!!

والأمر الأنكى من ذلك مما يحدث بين التلميذ وأستاذه الذي أشرف على رسالته للماجستير والدكتوراه؛ إذ نجد هذا التلميذ بمجرد حصوله على الدكتوراه, إذا به يرى نفسه قي منزلة أستاذه الذي علمه ورباه على يديه, وصنعه على عينيه, في الوقت الذي لم يكن يعرف أبجديات البحث العلمي, فإذا به ينتفش على أستاذه ويجعل رأسه برأسه, بل يمكن أن يسيء إليه, فلا يحترمه, ولا يبجله, ولا يضعه في مكانه اللائق به,

وينسى أو يتناسى ما فعله هذا الأستاذ من أجله, ناهيك عن ذلك فلربما هذا الأستاذ قد وقف مع هذا التلميذ في أموره الحياتية, حينما كان يحبو أولى درجات السلم, فإذا به لا يكافئه إلا بالجحود والنكران, بل إننا قد سمعنا أن أحد الطلاب قد طالب بإحالة أستاذه إلى التقاعد وحرمانه من جدوله الدراسي, وقد سمعت حكايات يندى لها الجبين, مما يبكي لها القلب, قبل العين!

والأنكى من هذا وذاك وذياك أن يأتي أحد هؤلاء الذين حصلوا على درجة الدكتوراه, ثم يشاء الله ويترقى إلى درجة الأستاذية, بينما تحول حوائل معينة تمنع أستاذه من الترقية فإذا به يتعالى على أستاذه, ويفتخر!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فإنا لله وإنا إليه راجعون, وقد جاءني بعض هؤلاء باكيا مما فعله معه تلميذه, بل إهانته له أمام الطلاب, حيما أخبر الطلاب أنه وصل إلى درجة الأستاذية, بينما لم يحصل عليها أستاذكم فلان, مشيرا إليه, بل لقد لفظها, وقال له ذات صباح أسود في مجلس القسم: “أنا رقيت إلى درجة الأستاذية, وأنت ما زلت مدرسا”!!

إلى غير ذلك من صور العقوق, مما يندى له الجبين, بل إنني أنادي هنا وفي هذا الشان ومن باب البر والتأدب مع الأساتذة أن يخاطبه دائما ب(أستاذنا), ولذلك أرى أنه من قلة الأدب والاحترام أن يقول له (يا دكتور), هكذا

فهل نسعى جاهدين إلى إعادة القيم والأعراف والأخلاق…؟

اقرأ أيضاً:

المعلمون والتنمية المهنية في بلادنا العربية

لماذا التعليم؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تنشئة الأجيال الجديدة

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب

مقالات ذات صلة