إصداراتمقالات

الطوفان

تفننت السينما الغربية دائما في مشاهد دمار الحضارات، الجحيم الذي يبتلع كل شيء، أو الفضائيون الذين يقتلون الجميع، لكن أهم ما أثار خيالي دائما هو مشهد الطوفان ؛ الطوفان الذي يغرق كل شيء.

كثيرا ما أشعر بأننا فعلا نعيش في زمن الطوفان ، الجميع يغرق، والمدن تتلاشى، ولا ملجأ ولا مهرب. في وقت الطوفان يسعى الجميع للتشبث بأي شيء ولو كان تافها. إن صورة الموت في حالة الغرق في الطب الشرعي؛ من أهم مميزاتها هي انقباض عضلات اليد بشدة وتجبسها على أي شيء؛ ولو كان أعشاب الماء ورمال القاع؛ التي لن تغني عن الغريق شيئا بل ربما تسرع غرقه.

وفي زماننا هذا أشعر بوجود الطوفان حولي في كل مكان، زمن السيولة الطاغية. سيولة على الأرض، سيولة في الأحداث، وسيولة في الأفكار؛ نشك في كل شيء، في صحة الخبر، وفي نزاهة مصدره، وفي مصلحة ناقله. في صحة الفكرة، ويقينية الدليل. في وسط هذا يحاول الجميع أن يتشبث بأي شيء، ولو بأعشاب الماء! بالقبلية أو العنصرية أو الطائفية أو المنفعة الشخصية أو من يثق فيه أو..

ولكيلا نغرق في هذا الزمن نحتاج إلى التشبث بثوابت حقيقية، لما يمكن أن نطمئن إليه ونركن إليه. باليقينيات، بل أكثر من ذلك؛ أن نعود للبديهيات، والتي تعتبر أكثر الأشياء يقينية كما يقول علماء المنطق، فهي فطرة الإنسان وطريقة تفكيره.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فكيف يمكن أن تساعدنا البديهيات في هذه السيولة السياسية، والفتن القائمة على الأرض؟

تتصاعد اليوم بشكل غير مسبوق دعوات التقسيم، بل إن البعض ينادي بها بشكل مباشر أو غير مباشر وكأنها الحل لكل ما نحن فيه! بعض محاولات التقسيم نجحت بالفعل، وبعضها ما زال يحاول. متناسيين أول البديهيات؛وهي أن الكل أعظم من الجزء . فالثلاثة المجتمعين أعظم من الإثنين، وأعظم من الواحد، والشجرة الكاملة أعظم من الغصن المنفرد. بعبارات سياسية: التوحد دائما أفضل من الانقسام، التكتل أعظم من التشرذم، والوحدة هي ما نسعى إليه، وحدة البشر تحت قوانين العدالة، فإن صَعُبَت فوحدة أمتنا، فإن بَعُد طريقها، فوحدة بلادنا!

عند الاستماع لبعض الفضائيات وبعض النخب؛ تجد بعض القوالب العجيبة جاهزة دائما: إن شعوبنا متخلفة! شعوبنا جاهلة! شعوبنا لا تحب العمل! إن البديهية العقلية الثانية هي أن لكل معلول علة، إن الأشياء لا تحدث وحدها دون مقدمات او أسباب! لكل نتيجة أسبابها. إن اختزال مشكلاتنا بهذا الشكل هي إعلان عن عجزنا نحن وغياب رؤيتنا. إن الجهل لا يأتي وحده فجأة؛ فما أسباب هذا الجهل المتفشي في الشعوب؟ ما السياسات التي أدت إليه؟ والعوامل التي نشرته؟وبالضرورة فإن أفضل الحلول هي التي تبحث عن الأسباب أولا ثم تعالج هذه الأسباب، ولا تتوقف عند النتائج أو ظاهر الأمور.وربما أن هذه النخب -بطريقتهم هذه في التفكير-هي من أسباب هذا الجهل!

يقولون أن أصعب المشاكل يكون حلها دائما سهلا وبسيطا إلى أقصى درجة! كيف نحل مشكلة الجهل؟ صدق أو لا تصدق؛ بنشر العلم! فالنقيضان مستحيلا الاجتماع. تجلس النخب تنعي حظها أن رزقها الله بشعوب جاهلة! وكأن نشر التعليم أو التفكير السليم صعب للغاية! وكأن عمل حملات توعية شيء مستحيل، وكأن مجرد تفوههم بخطاب علمي ومنطقي لا يزيد من جهل الشعوب صعب عليهم! إذا أردت أن تعالج الجهل فانشر العلم، لا تنتظر أن تنصلح الأمور دون عمل، مرة أخرى لا نتيجة بدون أسباب، وللتخلص من النتائج السيئة وأسبابها علينا بالنقيض.

فاقد الشيء لا يعطيه، قانون عقلي أيضا! مرة أخرى صدق أو لا تصدق: العدو لن يعطينا سلاما! والنظام العالمي المبني على الرأسمالية والنفعية لن يعمل لإنقاذ فقرائنا! والشعوب التي لا تمتلك العلم لن تقدم تكنولوجيا أو تقدم في أي مجال! والنظام التعليمي الغير كفء لن يغير المجتمع! والساعون للتفرقة لن يوحدوا صفوفنا! كفانا وهما.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قانون منطقي آخر: الدليل الصحيح هو الدليل المبني على مقدمات يقينية. كيف تثق في أي خبر دون مصدر موثوق؟ كيف تصدق أشخاصا اعتادوا الكذب؟ كيف تحكم على مواقف بل شعوب بأكملها دون مقدمات يقينية ومعرفة حقيقية بالأحداث؟ كيف تصدق أي صورة مفبركة أو غير معلومة المكان والزمان والمصدر على أي موقع أو جريدة؟ أو أي تحليل لأي كاتب؟ إن الظن لا يغني من الحق شيئا يا سادة، فلا تصدقوا كل ما تقع عليه أعينكم، أو يقرع آذانكم؛ دون بحث أو تمحيص. لا تحركنكم العواطف، ولا يخدعنكم الظن، ولا تمزقنكم الشكوك، ولا تستميلنكم الخطب الرنانة، والكلام الأجوف، ابحثوا دوما عن الدليل اليقيني.

العقل هو أهم ما يميز الإنسان، وهو المفرق له عن الحيوان، والحاكم على كل ما دونه! هذه هي خلاصة البحث المعرفي: حاكمية العقل على باقي أدوات المعرفة. لا بد أن تقيم كل شيء بميزان العقل، لا بد أن نستخدم عقولنا وإلا أصبحنا في مرتبة الأنعام! أن يكون الحكم في أي قضية مبني على العقل وإلا فلن يسلم من الهوى، وأن يكون الحكم في أي قضية أو أي موضع للأكثر علما في هذا الموضع والأكثر حكمة، ولا بد أن نتبع هذا الأعلم. تخيل مستشفى يقوم فيها الممرضات بمهام الأطباء! لن يستقيم الأمر.

الحق هو المطابق للواقع؛ ليس الحق حق القوة ولا حق الأغلبية، وهذا قانون منطقي في غاية الأهمية. إن اتفاق كل سكان الأرض مثلا على أن القمر غير موجود لا يجعله يختفي! وإجبار شخص لنا على القول بأن القمر غير موجود لا يجعله أيضا يختفي! والحق أيضا ليس ما يطابق هوانا، ولا ما يقوله أهلنا أو آباؤنا وأجدادنا، ولا ما يعلنه أحباؤنا وأصدقاؤنا! الحق هو المطابق للواقع على ما هو عليه.

وأخيرا إن الإنسان يسعى في كل أفعاله نحو الكمال، وكمال الأمم في تطبيقها للعدل، وكمال الحكومات في إقامة هذا العدل، وهذا هو مقياس نجاحها وفشلها: إعطاء كل ذي حق حقه؛ أي العدل! كثيرا ما ننسى ذلك؛ فنعتقد أن وظيفة الحكومات هي تحقيق مصالح الحكام! أو نصر فئة على فئة! أو أن الهدف الأسمى هو الأمن، وأن الأمن لا يمكن أن يستقيم إلا إذا غاب العدل! والحقيقة أنه حيثما وجد العدل وجد الأمن.

أيها السادة، إن ما يجمعنا كثير، وما يفرقنا قليل، والحق بيّن واضح لا سبيل إليه إلا اليقين. لا تتبعوا الهوى، ولا يخدعنكم العدو، وتذكروا دائما أننا في وسط الطوفان نحتاج لأساسات راسخة نتمسك بها، عودوا إلى عقولكم، إلى البديهيات!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة