مقالات

الشيخ طه الفشني .. تنويعات على مقامات الإبداع

قبل رحيل الشيخ طه الفشني (1900- 1971م) بنحو عشرين عامًا عانى من احتباس صوته، دون علةٍ أو مرض، فقد وجد أنَّ صوته لا يخرج من حنجرته، كانت معضلة كبيرة، هل يصمت الصوت الذي صدح في كل مكان، وانطلق عبر موجات الإذاعة المصرية مُوشِحًا ومُقرئًا؟ كان الشيخ الفشني –رحمه الله– ثالثَ مُقرئ يدخل الإذاعة بعد الشيخين محمد رفعت وعبد الفتاح الشعشاعي.

انحباس الصوت كان الخطر الداهم الذي عانى منه كثير من المقرئين، يُحكى أن الشيخ محمد رفعت عانى من مرض أصابَ حنجرته، كان علامةً على ذهاب الشيخ إلى الصمت الدائم، وانقطاع صوته مدى الحياة، اشتدَّ الأمر عليه، أخذت نفسه تذهب رويدًا رويدًا حتى وافته المنية عام 1950م، في تلك المدة نفسها التي بدأ فيها صوت الشيخ الفشني في الانحباس، وهو في ريعان قوته، وازدهار صيته الذي تجاوز العامة ومحبي القرآن وعاشقي التلاوات العذبة إلى الملوك والرؤساء.

كان لدى الشيخ الفشني اعتقادٌ راسخ أن شفاءه كامنٌ في ماء زمزم، سافر إلى مكة، ارتوى منه حتى شبع، ومع جريان الماء في جوفه خرج الصوتُ من حنجرته صادحًا، عاد كما كان وأعذب.

من هو الشيخ طه الفشني؟

46385 الشيخ طه الفشنى 3 - الشيخ طه الفشني .. تنويعات على مقامات الإبداع

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الصورة الأشهر للشيخ الفشني، صورة بالأبيض والأسود، تجمعه بالملك فاروق آخر ملوك مصر قبل قيام ثورة 1952م، يجلس الملك فاروق مطأطئًا رأسه في خشوع، مُمسكًا مسبحته، في حين يضع الشيخ كفه اليُسرى على جبهته وتحيط أصابعه بأذنه.

كانت بداية الشيخ في مسجد الحسين بصحبة أستاذه الشيخ علي محمود بحضور سعيد لطفي بك مدير الإذاعة المصرية، الذي ما إن سمع الشيخ الفشني حتى دعاه ليقرأ في الإذاعة، ليشتهر مُوشحًا أكثر منه قارئًا.

من بطانة الشيخ علي محمود خرج الشيخ الفشني، من العباءة نفسها، فقد كان الشيخُ علي صاحبَ مدرسة في التلاوة والإنشاد، وقد اكتشف الشيخ محمد رفعت والشيخ كامل يوسف البهتيمي والشيخ محمد الفيومي، ومن الأحداث المهمة التي التقى فيها الشيخان علي محمود والفشني مرض الأول، إذ لم يتمكن من الذهاب للتلاوة في الحسين، فناب عنه الشيخ الفشني، ليجلس الشيخ علي في منزله مستمعًا إلى تلميذه وصوته ينساب إلى أذنه متسربًا إلى قلبه، كانت عيون الشيخ علي تهطل دمعًا غزيرًا، بعد انتهاء التسجيل زار الشيخ الفشني أستاذه، انحنى وقبل يديه، اطمئن الشيخ علي أن مدرسة التلاوة والتوشيح التي أسسها بخير ما دام صوتٌ يصدح مثل صوت تلميذه النجيب هذا.

“كروان الإذاعة” الشيخ طه الفشني

كانت التسجيلات في ذلك الوقت المبكر قليلةً ونادرةً وليست بالجودة المتاحة الآن، لم يبق من تراث الشيخ علي محمود سوى بعض سور القرآن والموشحات، في حين أن الشيخ الفشني عاش مجد الإذاعة وعزها، بقيت تسجيلاته القرآنية والتواشيح حتى الآن وبجودة مقبولة.

اُحتفظ بتسجيل للشيخ الفشني في برنامج مع الموسيقار سعد عبد الوهاب في مايو 1952م، وقت أن كان مذيعًا في الإذاعة المصرية، قدَّم الشيخ وبطانته قصيدة “يوم أغرُّ.. وليلةٌ وغراء”، من تأليف جاد المولى سليمان، وتلحين محمد هاشم أحد أشهر عازفي العود في ذلك الزمن، والتي مطلعها:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يومٌ أغرُّ وليلةٌ غراءُ يا ليلةً عزتْ بها السمحاءُ

يا خيرَ ساعٍ والملائكُ حوله والله أيَّده فعز لواءُ

يقول الموسيقار عمَّار الشريعي في بَرنامجه “غوَّاص في بحر النغم” مُحللًا صوت الشيخ وبطانته، شارحًا التمكن والاقتدار في ذلك الفن:

“يبتدئ الشيخ طه القصيدة من مقام البياتي، ثم يمر على أغلب المقامات الموسيقية في تسلسلٍ وسلاسة ما بين حجاز وسيكا وراحة أرواح ونهاوند، حتى وصل به الأمر أن يقول جملة يمر فيها على أكثر من مقام بل ثلاثة مقامات في الجملة نفسها، تُهيئ له البطانةُ البيت الأول “يومٌ أغرُّ وليلةٌ غراءُ يا ليلةً عزت بها السمحاءُ”، يتشبث الشيخ بمقطع “يا ليلةً” ويبدأ صوته في عرض إمكاناته وتنقله السلس من مقام إلى مقام”.

إبداع الشيخ طه الفشني

257 - الشيخ طه الفشني .. تنويعات على مقامات الإبداع

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كأن الشيخ الفشني يبحث عما يمدُّ له البساط لكي يعبِّر عن إبداعه الصوتي والموسيقي، فيلتقط بمهارة جملةً يُكررها منشرحًا صوته، يساعده في ذلك تمتعه بالنَفَس الطويل منطلقًا لالتقاط بقية أبيات القصيدة، في مواقع تبادلية مع بطانته.

في قصيدة أُخرى بعنوان “ترنَّم يا شجي الطير” يفعل الشيخ الفشني ما يفعله دائمًا في تواشيحه، إذ يتنقل بين المقامات، ويسلم البطانة/الكورال المقامَ ويستلمه منهم، يقول عمَّار الشريعي عن ذلك المُوشَّح: “إن الشيخ طه يزرع سُلم مقام الراست ذهابًا وإيابًا، صعودًا وهبوطًا”، وفعلًا يتضح ذلك في كلمة “نبي”، يقف على حرف النون ويترنم بالراست، ثم ينطلق منه إلى السيكا، وصولًا إلى المقام الأحبِّ إلى قلب وحنجرة الشيخ.. مقام الصَّبا، يغوص الصوت في نبرة شجن، تتسامى وترق حتى تحينَ لحظة مغادرة اليمام بهديله ووداعته إلى حيث بدأ وانطلق، فيعود إلى الراست مرة أخرى، في حلقة دائرية ينتقل.

يحتاج إدراك الصوت، وسبر أغواره، وملاحظة تغير النبرة مع كل مقام إلى صبرٍ وحُسنِ إنصاتٍ، وطولِ مداومة للسَّماع، فربما يكون وقع الكلمات مؤثرًا لكن لا بُد من تخطِّي مرحلة التأثر بالكلمة والانتقال إلى مرحلة الاندماج مع الصوت، وكتم الأنفاس للوصول إلى كنه العظمة المخبوءة في كل حرف ينطق به الشيخ الفشني، فحرف النون في “نبي” وحده يحتاج إلى وقفاتٍ عِدة، كلمة “يا ليلة” أيضًا تحتاج لتأنٍ وإعادة سماع مرات، على مستوى الحرف، وعلى مستوى الجملة، تنويعات عدة لجمال صوت يندر أن يتكرر، نبرة مُميّزة عن بقية الأصوات، تتعرف عليها الأذن ما إن تسمعها.

رحيل الشيخ طه الفشني

كان الشيخ طه الفشني امتدادًا لصوت أستاذه وشيخه الشيخ علي محمود، أخذ عنه ذلك التمكن والتنوع في الأداء، لكن بطابع وسمة تُعرف به. في عام 1946م ودَّع الشيخ الفشني أستاذه الشيخ علي محمود، ومعه كثيرٌ من القراء في ذلك الوقت، وُري جسده التراب، لكن لم تغب ذكراه قط عن تلميذه الذي ظل ذاكرًا له فضله طيلة حياته حتى وافته المنية عام 1971م، ليظل ذكرُه حتى يومنا هذا صدَّاحًا في سماوات التلاوة والتوشيح التي لا تنضب غيوثها ولا تغيض.

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مشايخنا وحُجة الصوت المرتفع!

شيخ العرب همام ومشروع استقلال منسي

لغة المذيع

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د./ أحمد جاد الكريم

كاتب وروائي دكتوراة في النقد والأدب

مقالات ذات صلة