علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

العصفورة المُفترى عليها

في عام 2006 أسس أربعة أشخاص أمريكيون موقعًا للتواصل الاجتماعي، أطلقوا عليه اسم “تويتر”، واتخذوا له العصفور أزرق اللون شعارًا، ويسمح هذا الموقع لمستخدميه بنشر ما يشاؤون من أخبار، البعض منها صادق، ومنها غير ذلك. وعندما اشترى “إيلون ماسك” هذا الموقع، وصار له مالك، قام في شهر أبريل الماضي عام 2023، بتغيير شعار الموقع، من عصفور إلى كلب. واشتهر هذا الموقع بأنه مُتنفس بعض البشر، لمُمارسة هوايتهم، في نقل أخبارهم، هم أنفسهم، أو نقل أخبار الآخرين لآخرين.

قبل ابتكار مواقع التواصل الاجتماعي، ونقل أحاديث الناس وأخبارهم فيما بينهم، ابتكر البشر شخصية العصفورة، وكانوا يطلقونها على هؤلاء الأفراد الذين ارتضوا لأنفسهم تتبع السوءات ونقل الأخبار لآخرين. وصارت شخصية العصفورة معروفة للجميع، كونها رمزًا للتواصل الاجتماعي ونقل الأخبار، وهي التي ربما أوحت لمبتكري تويتر وضع شعار العصفورة على موقعهم.

الشخص العصفورة في الحضارة اليونانية

الشخص العصفورة موجود بين البشر، وفي كل مكان، وقديمًا، وفي الحضارة اليونانية القديمة، ابتُكِرت شخصية أسطورية، شبيهة كل الشبه بالشخص العصفورة الموجود في كل مؤسسة وفي كل شارع وحارة، وظيفته نقل الأخبار من هنا وهناك، ينزل بأخبار السماء، وأوامر سُكانها من الآلهة إلى الأرض وسُكانها. كما ينقل ردود أفعال البشر إلى الآلهة، وعُرِفَتْ هذه الشخصية الأسطورية باسم هيرميس.

جمع هيرميس بين صفات البشر والطيور، حتى يمكنه القيام بوظيفته، هذا فضلًا عن كونه أحد الآلهة اليونانية القديمة. جعل اليونانيون له شكلًا يماثل الطيور، فدائمًا ما ينتعل حذاء بجناحين، مما يساعده على الطيران، ووضعوا على رأسه خوذة ذهبية ذات جناحين، مُرتديًا عباءة، تطير من خلفه وهو يحلق في الهواء، فتمنحه شكل الطيور التي تفرد أجنحتها وهي تطير، وترتفع إلى عنان السماء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هكذا كان لهيرميس عند اليونانيين صورة بشرية، وإن كان إلهًا، ومن ثم فقد توافق في وظيفته، وإن تباين نوعه، مع الشخص العصفورة، فالعصفورة من فصيلة الطيور، في حين ينتمي هيرميس إلى فصيلة الآلهة الأسطورية اليونانية، وكلاهما يتحرك هنا وهناك لنقل الأخبار.

سبب اختيار البشر لطائر العصفورة

oe820 1024x652 - العصفورة المُفترى عليها

بالبحث عن سبب اختيار البشر لطائر العصفورة، دون غيره، حتى يقوم بتلك الوظيفة، فلم يكن هناك سبب، أو شبه سبب، يمكن الاعتماد عليه تفسيرًا لربط هذا الطائر صغير الحجم بنقل الأخبار. لكن عُثِر في القرآن الكريم، فيما ورد عن قصة النبي سليمان (عليه السلام) مع أحد الطيور، وهو طائر الهُدهُد، إذ جاء في سورة النمل (آيات 20-28)، قال تعالى: “وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ”، صدق الله العظيم.

لقد استرعى ما جاء في القرآن الكريم عن الهُدهُد انتباه البعض، وأخذوا يبحثون عن سبب اختيار الهُدهُد، دون غيره من الطيور، للقيام بهذه الوظيفة، وقد توصل البحث إلى أن الهُدهُد الطائر الأسرع، والأخف وزنًا في الطيران، هذا فضلًا عن عدم التزامه بالطيران في جماعات، مثل باقي الطيور، فهو يطير بمفرده، ما يمنحه سرعة الحركة وعدم الالتزام بآخرين.

ظلم البشر للعصفورة

إن الهُدهُد والعصفورة من الطيور، جاء ذكر الأول في القرآن، والثاني ابتكره البشر، وكلاهما ناقل للأخبار، وتناسى البشر الهُدهُد، وألصقوا وظيفته، التي وردت في القرآن الكريم، بالعصفورة، وإن كان بغرض الازدراء والتهكم، على مَن ارتضى على نفسه تتبع الآخرين ونقل أخبارهم، وذلك دون ذكر لسبب اختيارهم وربطهم بين العصفورة وناقل الأخبار، كما سبق وتناسوا أيضًا ما ابتكره اليونانيون من شخصية هيرميس الأسطورية، ناقل الأخبار، واكتفوا بالعصفورة ناقلًا للأخبار وافتروا عليها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة:

يومًا ما

لا تقتلوهم!! السماء تدمع عليهم

العصفور والقفص

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د صلاح السيد عبد الحي

أستاذ دكتور بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية بكلية الاداب جامعة سوهاج. ومدير مركز حضارات البحر المتوسط.

مقالات ذات صلة