إصداراتمقالات

السعي بين المثالية والجهد (1)

إننا إذا أردنا أن نؤسس فكريا لكليات السعي فعلينا أن نتناول السعي من أكثر من جهة تعمق من وجهة نظر الإنسان لرحلتة الدنيوية والهدف منها. فعلينا في البداية أن نتطرق لطبيعة السعي في حياة الإنسان من حيث كونه ضروريا ملازما أم عرضيا غير ملازم. فإننا إذا استنتجنا في هذا النقاش أنّ السعي أمر اختياري أو اتفاقي يعرض أحيانا وأحيانا أخرى لا يفرض نفسه على نمط حياتنا فإنّ تحليلنا لهذا السعي من حيث المقدمات والوسائل والغايات سينطلق بناءً على هذه النتيجة فلا نعيرها هذه الأهمية الكبيرة خلال نظرتنا الفلسفية. أما إذا ثبت لزومه وضرورة وجوده في حياتنا وعدم مفارقته لنا حتى في أبسط أنشتطنا اليومية فإنّ تحليلنا سيختلف تماما في هذه الحالة من حيث كونه جزءًا لا يتجزأ من حياتنا يؤثر فينا بشكل ملحوظ قد يمنعنا من تحقيق أهدافنا أو بلوغ مراتب السعادة المرجوة.

أما عن مفهوم السعي فإنّ السعي أو الحركة في مطلق معناها تتلازم مع النقص. فالكامل المطلق لا يوجد ما ينقصه وبالتالي فلن يطلبه ومن البديهي أن ينتفي السعي مع انتفاء النقص والحاجة. ولما كان الإنسان كائنا ناقصا محتاجا بالضرورة والذات محتاجة لما تتكامل به وتحصل به سعادتها فلزم من ذلك أنّ السعي لا يفارق حياة الإنسان طالما لم يتحقق كماله. وهذا الكمال له وجهان إمّا مادي يتحصل عليه بطلب الكمالات المادية أو روحاني مجرّد يتحقق بطلب الكمالات المجردة والملكات الأخلاقية. وقد لزم التفصيل على هذا النحو لنوضح أنّ حتى من لا يبالي بالكمالات المجردة فإنّ معرفته بالجسد والمادة وما ينطبق عليهما من التغيير والمحدودية والنقص والحركة الدائمة يلزمه أن يعترف بالنقص المادي والكمالات المادية وبالتالي فلا بدّ له من التسليم بالسعي على الوجه المادي على الأقل وهذا من باب الإلزام بالحجة.

إذًن ننطلق نحو الجهة الأخرى التي نود أن نتناول مفهوم السعي من خلالها وهي جهة المقدمات والوسيلة والغاية. فكل حركة في الكون تنطلق من مقدمات كون المتحرك ناقصًا يطلب بحركته الاقتراب من الكمال أو السعادة التي يشخصها وفق تفكيره وأفكاره عن الوجود. فقصر تعريف الوجود على الجانب المادي يؤدي للسعي المادي البراجماتي والغاية المادية النفعية. أما قصرها على الجانب المجرد فسيحصر السعي في الجانب المجرد (الزهد أو التقشف) وطلب الغايات العرفانية والروحانية المجردة. أما أهل النظر والحكمة من المتقدمين الإغريق والمتأخرين لا سيما علماء العصر الذهبي الإسلامي فقد اتفقوا على رؤية الوجبة المتزنة وشخّصوا الوجود بجانبيه وحددوا أنّ لكل جانب نقصه وكماله وسعادته المتحققه وبالتالي فله سعيه الذي يعين على تحقيق هذا الكمال أو السعادة.

ومنه يستنتج الفاحص والمتدبر فساد وقصور مقولة المنهج النفعي بأن الغاية تبرر الوسيلة والتي شخصت أنّ الغاية وحدها دون المقدمات كافية لتشخيص الوسيلة المطلوبة ولم تكترث بجانب المقدمات والذي له بالغ الأثر في تفضيل وسيلة عن أخرى أو إسقاط إحدى الوسائل من الاحتمالات المتاحة من الأصل. ويتضح من السرد أن السعي يمكن أن يحقق غاياته بأكثر من وسيلة وأن التفاضل بينها وتقديم بعضها وتأخير الآخر أو إقصاء البعض منها يعتمد على الرؤية أو المنطلقات بعد تشخيص الغايات. وإن تلك القواعد العملية والتي تحلل الوسائل المتاحة وتفاضل بينها هي ما يطلق عليها الأيديولوجيا أو مبحث القيم أو الأخلاق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يتبع..

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة