قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السادس والعشرون

المدرسة المشَّائية: (24) ابن باجّة وكتابه تدبير المتوحد

فلسفة التوحد والاتصال: حياةٌ يدبرها العقلُ (4): تحقيق السعادة: الاتصال بالصور الروحانية

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 25) عن فلسفة التوحد والاتصال الباجية: حياةٌ يدبرُها العقلُ (3): موضوع التدبير: الأفعال الإنسانية. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التوحد والاتصال الباجية: تحقيق السعادة: الاتصال بالصور الروحانية.

ثالثًا: الاتصال بالصور الروحانية

عند ابن باجة: إن جوهر الإنسان العقل وغايته الاتصال بالعقل الفعال ووسيلته الصور الروحانية.

‌أ. جوهر الإنسان

العقل: الفلسفة.

‌ب. غاية الإنسان

السعادة: الاتصال بالعقل الفعَّال/ واهب الصور الروحانية: الذهنية أو العقلية: الفلسفة.

‌ج. وسيلة الإنسان

الاتصال بالصور الروحانية/ علم الصور الروحانية، أو علم الفلسفة. فما الصور الروحانية وما أنواعها؟ كيف يتصل بها المتوحد؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

‌د. أنواع الصور ومعنى الرُوح

عند ابن باجة الروح ترادف النفس. “فالنفس والروح اثنان بالقول، واحد بالموضوع.” والرُوحاني منسوب إلى الرُوح، ويدلون به على “الجواهر الساكنة المحركة لسواها”. والصور الروحانية: المعقولاتُ التي تحل في النفس لدى إدراكها لها حلولًا روحانيًا لا جسمانيًا، والمحركة للفعل الإنساني. والصور، أو التصورات، أو المعقولات الذهنية: نوعان:

النوع الأول: الصور الحسية: وهذه صور الأجسام، إذ كل جسم فهو متحرك.

النوع الثاني: الصور الروحانية: والصور إما خاصة، وإما عامة. أما العامة فهي المعقولات الكلية، والخاصة منها روحانية ومنها جسمانية. والصور الروحانية أي الصور أو التصورات الذهنية: الحسية والخيالية والعقلية التي يتصورها الذهن عن الأشياء والعالم. وعلى ذلك يقسم ابن باجة الصور الروحانية إلى أربعة أصناف:

صور الأجسام المستديرة

الأجرام السماوية التي تتحرك حركةً دوريةً دائمة. عقول الأفلاك السماوية (أو الملائكة بالتعبير الديني، كما عند الفارابي). وهذا الصِنْف لا تداخله هيولى (مادة) وليس هيولانيًا (ليس ماديًا) بوجه، فهي عقول “مفارقة”، أي غير مادية وغير محسوسة. ويُعْرِض ابن باجة عن القول في هذا الصنف الأول، إذ لا مدخل له فيما يريد قوله من تدبير المتوحد. أي أن هذه العقول السماوية لا تحرك الإنسان إلى الفعل ولا علاقة لها بكمال العقل، أو تحقيق السعادة. وهنا يفارق ابن باجة الفارابي وابن سينا، ولا يقول بنظرية الفيض الفارابية السينوية الميتافيزيقية .

الصور الرُوحانية العامة

العقل الفعَّال والعقل المستفاد: والصور رُوحانية (ذهنية – عقلية) أي غير مادية وعامة، يعني الصور العقلية الكلية، الذهنية، أو المعقولة، التي تمثل غايات الفعل الإنساني. من حيث الأصل هذا القسم غير هيولاني أصلًا، وإنما نسبته إلى الهيولى، لأنه متمم للمعقولات الهيولانية، وهذا هو العقل المستفاد، أو فاعل لها: وهذا هو العقل الفعَّال. العقل الفعَّال: صورة جوهر عقلي مفارق يحرك عالم ما تحت فلك القمر عند الفارابي وابن سينا، لكن له معنى مخالف عند ابن باجة، فيعني عنده معناه عند أرسطو، وإضافة زائدة من ابن باجة. والعقل المستفاد: عقل الفيلسوف، المرتبة القصوى التي يبلغها الإنسانُ حالَ اتصاله بالعقل الفعَّال واتحاده به (يصبح الإنسان في هذه الحالة من الاتصال إلهيًا كاملًا). وهذا النوع محل تدبير المتوحد وغايته القصوى ومناط تحقيق سعادته وخلوده. فالإنسان الذي يعقل الصور الروحانية العامة: العقل المستفاد والعقل الفعَّال هو المتوحد على الحقيقة.

صور المعقولات الهيولانية

أي المادية، أي المفاهيم المجردة والمعاني الكلية والصور التي تنتزع من الموجودات الجزئية المادية. وهذا الصنْف له نسبةٌ إلى الهيولى. فهو هيولاني بذاته يصبح روحانيًا بفعل الإدراك (مثل إنسان، هيولاني بالنسبة إلى إدراكنا لأشخاص محمد، وأحمد، وعلي، وروحاني: بالنسبة إلى إدراكنا لإنسان مفهومًا: الإنسان = حيوان ناطق).

الصور الرُوحانية الخاصة

المعاني الموجودة في قوى النفس وهي ثلاث مراتب، تتفاضل تصاعديًا:

أ. الحس المشترك (مجمع إحساسات الحواس الخمس: الباصرة والسامعة والشامة والذائقة واللامسة، مثل: صورة التفاحة في أذهاننا).

ب. المُخَيّلة (انطباع الصور الحسية في الذهن، فنتخيل ما يشبهها بالتركيب، مثل: فرس يطير بجناحين).

ج. الذاكرة (قوة استعادة واسترجاع الصور المخزنة في الذاكرة، مثل استعادة صورة سبق وأن رأيناها من قبل).

العقل –قبل أن يدرك– يكون عقلًا بالقوة (مثل عقل الطفل لدية استعداد، أو قوة، على الإدراك، كما أن الطفل رجل بالقوة فعقله عقل بالقوة). وبعد إدراكه يصبح عقلًا بالفعل (حين يكبر الطفل يصير عقله من القوة إلى الفعل، كما يصير رجلًا بالفعل بعد أن كان رجلًا بالقوة وطفلًا بالفعل). وهذا الصِنْف وسطٌ بين المعقولات الهيولانية، والصور الروحانية.

‌ه. غايات الإنسان وفقًا للصور الروحانية

السعادة في فكر ابن باجة

للصور الرُوحانية تأثيرُها في النفس ومن ثم تحديد الغايات. عند ابن باجة، غاياتٌ ثلاث، تتحقق بها كمالاته: أ. الجسمانية. ب. الروحانية. ج. العقلية.

 لا جسمانيًا واحدًا سعيدٌ!

يقول ابن باجة: “ومن الناس من يراعي صورته الجسمانية فقط وهو الخسيس. ومنهم من يعاني صورته الرُوحانية فقط، وهو الرفيع الشريف”. ويقرر ابن باجة: “أنه لا جسماني واحد سعيد، وكل سعيد هو رُوحاني صرف”. إلا أنه كما يجب على الرُوحاني أن يفعلَ بعضَ الأفعال الجسمانية، لكن ليس لذاتها، ويفعل الأفعال الرُوحانية لذاتها، كذلك الفيلسوف يجب أن يفعل كثيرًا من الأفعال الرُوحانية، لكن لا لذاتها، ويفعل جميعَ الأفعال العقلية لذاتها.

المتوحد لا يصحب إلا أهلَ العلوم

“والمتوحد الظاهر من أمره أنه يجب عليه أن لا يصحب الجسماني ولا من غايته الرُوحانية المشوبة بجسمية، بل إنما يجب عليه أن يصحبَ أهلَ العلوم. فإن كان أهلُ العلمِ غيرَ موجودين في مدينته هاجر إلى مدينة يوجد فيها أهلُ العلم. والمتوحد على الخصوص إنما هو من نحا نحو العلوم النظرية”.

الإنسان: هو موجود، هو أشرف، هو إلهي فاضل

“والإنسان بصورته الجسمانية: هو موجود (الإنسان هو موجود: يأكل، يشرب، ينام، إلخ)، وبالروحانية الخاصة (الحس المشترك، التخيل، الذاكرة) هو أشرف، وبالعقلية، أي بصورته الروحانية العامة، (الإنسان باعتباره كائنًا عاقلًا فيلسوفًا) هو إلهي فاضل. فذو الحكمة ضرورة فاضل إلهي، وهو يأخذ من كل فعل أفضله ويشارك كل طبقة في أفضل أحواله الخاصة بهم وينفرد عنهم بأفضل الأفعال وأكرمها: الفعل العقلي المحض، أي الفلسفة التي بها ينال السعادة القصوى”.

إن الإنسان عند ابن باجة من عجائب الطبيعة التي أوجد بها، فنقول إن الإنسان فيه أمورٌ كثيرة وإنما هو إنسان بمجموعها: ففيه القوة الفانية، فليست هذه تعقل صورتها، وفيه القوة الحساسة والخيالية والتذكر وهذه كلها لا تعقل ذواته فلا تلحقها، وفيه القوة الناطقة، وهذه الخاصة به. فالمتوحد، بما هو إنسان، بالجسمانية يحافظ على جسمه من التلف ومن ثم على حياته. وبالروحانية الخاصة يحصل على الفضائل الشكلية (مكارم الأخلاق) وبالروحانية العامة ينال أفضل وجوداته وهو الوجود العقلي، ما يسميه ابن باجة “الطبع الفلسفي”، الذي هو أليق الوجودات بالدوام مثلما أن الوجود الجسماني هو أليق الموجودات بالفناء. وبعبارة أخرى إن السعادة القصوى كامنة في دراسة الفلسفة. أي العلم الذي يعطي صورةً حقيقيةً عن الكون ونظامه والإنسان وحقيقته. يرتفع المتوحدُ إلى أعلى مرتبة يمكن أن يصلها الإنسانُ فيتحققَ فيها كمالُه. المرتبة التي يستحق أن يوصف فيها بأنه إلهي بسيط. ومن ثم يكون مؤهلًا للعيش فيلسوفًا في مدينة فلسفية هي: مدينة الفلاسفة.

وهذا موضوع دردشتنا القادمة –بإذن الله– فلسفة التوحد والاتصال الباجية: حياةٌ يدبرُها العقلُ (5): تحقيق السعادة: المتوحد/ الفيلسوف في مدينة الفلاسفة.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس

الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر

الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر

الجزء الرابع عشر ، الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر

الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر، الجزء التاسع عشر

الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون

 الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون، الجزء الخامس والعشرون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج