إصداراتمقالات

السعادة: الوهم والواقع

كنا في مرحلة الكلية. هذه المرحلة أعتبرها أحد أهم المراحل التي شكلت وعيي وأفكاري. كانت مرحلة تتميز بكثافة ودسامة المتغيرات. فكل يوم صديق جديد، كتاب جديد، درس جديد، دكتور جديد، موقف جديد، خناقة جديدة…. وهكذا. هذه المواقف في مجموعها شكلت حصيلة الثقافة والمعلومات التي تحصلت عليها في تلك المرحلة. كل صديق في نظرتي مثل الزهرة، بل كل شيء في الدنيا تقريبا… ينبغي دائما ألا تحصر النظر في الشوك والبراثن التي تحيط بالزهرة وكن كالنحلة تأخذ من الزهور أجمل ما فيها. لو تعاملنا مع كل مواقف حياتنا أن هناك درس أو عبرة أو منفعة مكتسبة حتما، فبالتأكيد ستتغير نظرتنا للحياة ككل. لن نخاف من الجديد والمجهول لأنه في اعتبارنا فرصة جديدة للتعرف على مملكة الخارج ومملكة الداخل (وأعني بذلك مملكة النفس).

المهم أحد هذه المواقف كان طرازًا نجده في حياتنا كثيرا بل إننا غالبا وبسبب الإعلام الغربي وسيطرته الغاشمة على عقولنا فإننا مررنا أو نمر بتلك الحالة الفكرية. وهي النقم على الحياة التي ولدنا فيها على منوال “أهذه الحياة التي كنت أركل بطن أمي لأجلها؟”. فكر الصدمة من كل شيء في الواقع وعدم الرضا عنه والنفور منه في محاولة للبحث عن السعادة. فتبدأ المحاورات والمناقشات حول هذه النقطة ولو بطريقة ضبابية. فكل حوارتنا كانت تقريبا تنصب أو تتمحور حول رؤيتنا للسعادة مع العلم أننا في هذا الوقت لم نكن ندرك هذه النقطة. كنا فقط نعلم أن هناك نقصا وأن محاوراتنا كانت شكوى من هذا النقص. لم يكن عندنا تصور عن السعادة ولا عن السبيل نحوها ولكن كان لدينا إحساس دفين بعدم الرضا والسخط على الواقع الذي كبرنا لنجد أنفسنا مغروزين فيه شئنا أم أبينا.

في الغالب في هذه المواقف تكون مفترقات الطرق. فالإنسان إما أن يدرك عدم استطاعته تغيير الواقع فيستسلم له ويتكيف معه. وإما أن يتحول السخط لغضب والغضب لثورة والثورة لحركة والحركة لتغيير. هذا التغيير ليس بالضرورة جيدا ولكنه تغيير نحو حالة قد تكون أفضل أو أسوأ والتي على أساسها يمكن توصيف التغيير بالتطور أو التراجع والاضمحلال. وكل شخص يحدد طريقه وهدفه طبقا لنزعاته وأفكاره التي اكتسبها في حياته. وعلى هذا الأساس يسلك دربه نحو سعادته التي شخصها في عقله. فهناك من يقول سأتحمل كل شيء وكل وضع سيء بشرط أن أحصل على شقة بمستوى معين. فيفني حياته لأجل تلك اللحظة التي يمتلك فيها حلمه. سواءً كان شقة أو سيارة أو زوجة أو ذرية أو منصب أو … إلخ

تأخذنا الدنيا في هذا التيه. تفرقنا عن بعضنا البعض وتدور بنا كالرحى وتتخبط بنا يمينا ويسارا ونتقلب معها ونتقولب لنتغير في الظاهر والباطن. هذا هو التغيير الذي راهنا عليه. هذه الطرقات والخبطات هي مطرقة الحياة وهي تشكلنا على سندال القدر لنتحول ونتحور نحو ما راهنا عليه. أن هذا الهيئة الجديدة هي سبيلنا للسعادة في تصورنا. ثم نعود في أتون نار الحداد لنلين ونكتسب مرونات جديدة تسمح لنا أن نتشكل بالمطرقة مرة أخرى وهكذا… ونحن على أتم استعداد لتحمل كل تلك الآلام فقط على أمل أن نصل للصورة أو التصميم المثالي في اعتقادنا والذي ستشرق علينا فيه شمس الراحة والرخاء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد يحدث في مجريات القدر وأثناء الراحة من عمليات التشكيل أن نتقابل في تلك البرهات القصيرة لنأخذ أنفاسنا قبل أن نعود تحت رحمة مطرقة حداد الحياة. ونتكلم في تلك اللحظات كل منا عن تجربته. ويكون السؤال الخفي وراء كل تلك المحاورات والمناقشات معنى جديد. فبعد أن كنا نسأل عن رؤيتنا للسعادة نسأل بعضنا اليوم “هل وجدت ما منيت نفسك به؟ هل نجح النموذج الذي طورته لحياتك لتصل للسعادة؟ هل تجد عائدًا من معاناتك أم أنها دوامة لا تنتهي من الأمل والعذاب؟”. يذكرني بالمثل الشعبي “مافيش حلاوة بلا نار”. السؤال هنا الذي يطرح هل مع كل هذه النار وجدنا ولو جزء من الحلاوة الموعودة المنشودة؟

لقد اكتشفنا على كبر فداحة الفشل الذي نواجهه في تصورنا القديم عن الحياة والسعادة. فعنفوان الشباب يمنحك الإحساس أنك تستطيع تحطيم كل شيء وإصلاحه بلا أي مشاكل أو صعوبات. فكنا في نموذجنا عن الحياة والسعادة نملأ ونرقع الفجوات بالعبارات المشحونة والهتافات الحماسية والصراخ الأجوف الذي لا طائل من ورائه إلا المزيد من الاندفاع الجنوني والمخاطرات غير المحسوبة والتي في الغالب لولا رحمة الله وعنايته لتسببت في خسائر أفدح مما تكبدناه بالفعل. إنه هذا الغرور المتفاقم والتحدي المتكبر للحياة الذي يسوقنا كالثور الغاضب الجامح في حلبة المصارعة نحو رمح المصارع المتفاخر المبهرج بالألوان ليتركنا هذا الجموح في ويلات الألم والعذاب ولا نفيق إلا ونصل السكين في أحشائنا يقطعنا ويذبحنا ليقدمنا قربان في مذبح الحياة والقدر.

والأسوأ أنه سبق حذرنا ممن سبقونا في خوض غمار هذه التجربة وهم يودعوننا على فراش الحكمة والشيخوخة بمدى غرور الدنيا ومكرها وبشاعة غدرها بالإنسان لكن نفس الغرور الذي ساقنا في حلبة الموت هو ما صم آذاننا وأعمى قلبونا وأنصارنا عن الاستفادة من تلك النصائح. وليس الهدف توريث الجبن والخوف من الحياة. فليس الحل أن تتجنب دخول حلبة المصارعة ولكن قطعا لن يكون الحل أن تدخلها متسلحا فقط بالعنفوان والغضب لتكون ضهرا فتركب وتستغل. عليك أن تدخلها بكل ما أوتيت من قدرات (عقلا وجسدا وروحا) وهذه هي الصرخة الصامتة التي يصرخها حكماء البشر على مر الزمان. فلطالما تم التشنيع على الحكماء والفلاسفة أنهم يكبحون جماح الإنسانية كي لا تتمتع بالحياة وتستغل المادة بأقصى صور الاستغلال ضمانا للسعادة.

وهذا افتراء باطل، فهم لم يمنعوا الإنسان من خوض غمار الحياة ولكن كما الجندي في ساحة المعركة لا يستطيع خوض غمارها إلا بعد أن يلبس درعه الثقيل ويتسلح بالأسلحة الملائمة لطبيعة المعركة ومتطلباتها بعد أن يكمل التدريب المطلوب ليتقن استخدام أدواته وأسلحته. كذلك يطلب منا الحكماء أن نتعلم عن قدراتنا وأدواتنا ثم نتدرب على استخدامها جيدا لنتقن استخدامها في المعركة عند الضرورة وبالحكمة والمقدار المناسب. قد نضجر ونمل من كثرة التفاصيل وطول فترات التدريب وصعوبتها لكنها ضرورية لتضمن لنا السعي الجاد نحو السعادة.

وفي النهاية فإن شكايتنا وبكاءنا وضجرنا من هذا التيه هو نتيجة متوقعة لكل من يرفض أن يخضع لهذا التدريب الجاد على كيفية خوض غمار الحياة. وإن التعامل مع الواقع بنفس العقلية لن يحقق إلا نفس النتائج؛ التيه بصورة أو بأخرى. قد يتحطم الجدار وأنت ترطمه برأسك… هذا محتمل، لكن الغالب والوارد أن رأسك سيتحطم أولا. وسيزداد ندمك عندما تعلم أنك كنت على بعد بعض الخطوات من باب سهل سلس في الجدار لا يحتاج منك إلا خريطة لتعرف مكانه ومعرفة مفتاح هذا الباب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقد كان شغف الفلاسفة والحكماء قديما هو التوصل للقواعد العامة التي تنظم حياة الإنسان على الشكل الأمثل ليضمن التوازن بين سعادة البدن وسعادة الروح. ولكي يستطيع أن يكون نافعا على المقايس الشخصية والعائلية والاجتماعية. بدأت محاولات التعمق في فهم فلسفة الحياة (التفكير والرؤية والأيديولوجيا) عند فلاسفة الإغريق فدرسوا الجوانب المختلفة في الحياة وتأملوا فيها بدقة ليستنبطوا القواعد المنظمة لها. ولقد بدأت مع محاولات بدائية عند طاليس والفلاسفة الذين سبقوا سقراط. ثم ظهر عصر من الاضمحلال الفكري عندما عكف السفسطائيون على تلبيس المفاهيم واستخدام الجدل لإثبات الحقيقة وعكسها في نفس الحوار. فالتبست الأمور على الناس وبدأت معالم التيه تظهر في المجتمع.

وهنا ظهر فرسان الفلسفة الثلاثة وهم سقراط وأفلاطون وأرسطو. والذين واجهوا تلك الهجمة السفسطائية العنيفة لينقذوا المجتمع من هذا التيه وفي نفس الوقت لتمهد مجهوداتهم بذلك التأسيس لعلم التفكير والفكر أو ما يسمى بالمنطق ثم الفلسفة على الترتيب. وازدهرت واكتملت تلك المجهودات عند أرسطو (المعلم الأول) والذي دون قواعد التفكير والمنطق بصورة تفصيلية وشديدة الدقة. وسماها “الأورجانون” أو الآلة. فكان هذا هو التعريف الشائع للمنطق حتى يومنا هذا: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن من الخطأ. فكان شرط العصمة في معرفة الآلة ثم التدريب عليها ثم مراعاتها وإلا لم تتحقق العصمة من الخطأ ولو عند أرسطو نفسه.

غيرت تلك الآلة واقعنا البشري تغييرا حادا. فانطلق الفلاسفة بعد أن درسوا تلك الآلة وفصلوها وشرحوها لعالم الحركة المادية فأنتجوا ووضعوا علم الفيزياء كمؤسس ومصدر لكل علوم المادة (الكيمياء والأحياء ومتفرعاتهم).ولم يكتفوا بذلك، بل يمكنك أن تقول أن وضعهم للفيزياء كان نقطة انطلاقة لفهم ما الغاية أو الهدف منها، فانطلقوا نحو ماوراء المادة (الميتافيزياء) ليبحثوا في مباحث الفلسفة الأساسية وهي المعرفة والوجود والقيم.

ويجيب كل مبحث عن سؤال محدد في البداية قبل أن يتشعب الموضوع ويزدهر لينتج عنه كل موضوعاته ومسائله. فالمعرفة تبحث عن إجابة لسؤال كيف نعرف الحقيقة؟ وتكون الإجابة في تحليل أدوات المعرفة المتوفرة لدى الإنسان ودراسة حجية كل أداة مع ترتيبهم وفق الأولوية والحاكمية. ثم يجيب مبحث الوجود عن الأسئلة الوجودية الثلاثة: من أين؟ في أين؟ وإلى أين؟ والتي بدورها تعتمد على استخدام أدوات المعرفة التي تم تثبيتها في المبحث الأول. ثم تصل في النهاية للمبحث الأخير وهو مبحث القيم. والذي تتمحور حوله رؤية الإنسان للحق والباطل من جهة وللأفعال الصحيحة والخاطئة من جهة أخرى.

وقد يستهان بتلك المباحث في الوهلة الأولى لكن يظهر عطب وخلل هذه الاستهانة عند تقييم القدرة الهائلة لهذه المباحث وهذا المجهود العلمي الضخم في تنظيم حياة الإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي. فالمبحث الأخير لن يكتفي بتقييم الحق والباطل الشخصي أو الفردي فقط أو الصحيح والخاطئ في سلوك الفرد. بل يتوسع لينظم حركة المجتمع الإنساني في كل جوانب حياته وعلى كل المقاييس بالاستعان بأساليب البحث وأدوات المعرفة الملائمة. ومن هنا ظهرت وتبلورت واكتملت فكرة المدينة الفاضلة أو “اليوتوبيا” وهي أرض العقل والعلم والحق. والتي تحقق في النهاية للإنسان القيم الأربعة الأساسية الحق والخير والعدل والجمال.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة