مقالات

إشكاليات السرديات الكبرى

إذا كان الفرار من الأيديولوجيا صعب، فإن البديل تفكيك أبنيتها، بحيث ننزع عنها الأوهام بعضها، مثل الحديث عن ارتباطها بالطبيعة البشرية، والادعاء بعلميتها التامة، واستخدامها في تبرير حتى أكثر الأخطاء فداحة، وجمودها عند نقاط محددة لا تفارقها بدعوى التمسك بالجوهر. عند هذا الحد ستنجلي “الأيديولوجيا” وتتخلص من شوائبها العديدة، لتؤول في النهاية إلى “منظومة” من القيم السياسية، التي تجمع بين العمومية الإنسانية، والخصوصية الحضارية لكل أمة.

يبدو أن هذا الاتجاه سيتعزز –بثقة وتمهل– في العقود القادمة، بعد أن عجزت الأيديولوجيات والنظريات عن تفسير عديد من الأحداث الكبرى التي شهدها العالم، مثل تفكك إمبراطورية بحجم الاتحاد السوفيتي، وانتشار التطلعات القومية، والحركات الانفصالية، وصعود حركة الإحياء الديني، ليس في الإسلام فقط بل في كثير من الأديان، وتمسك البعض بذاتهم الثقافية في مواجهة العولمة، وانتقال أنظمة سياسية عديدة من التسلطية إلى الديموقراطية.

أولئك الموزعون بين التمسك بمبادئ تحكم سير حياتهم والاعتراف بما في الأيديولوجيا من مثالب سيجدون ضالتهم في الالتحاف بنسق من القيم، يتكئون عليه في سيرهم، ويستمدون منه تحديد أهدافهم ونسج آمالهم، وهم يضمنون أنهم لا يتخبطون.

السرديات الكبرى وما بعد الحداثة

إن هناك “ثورة قيمية” تبدو واضحة المعالم، حيث الانتقال من القيم المادية إلى القيم المعنوية، وهو ما يتجلى في الانشغال بموضوع البيئة، ونوعية الحياة التي نعيشها، إلى جانب حركتي الإحياء القومي والديني، وأخيرًا الثورة الفكرية التي يمكن لمسها في الانتقال من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تزامنت هذه الثورة القيمية، مع ثورة في مناهج البحث العلمي بالإنسانيات، رصدت صعود القيم عمومًا، في سلم الرؤى الإنسانية بعضها لتصل إلى درجة المثال، وتصبح ضابطًا قويًا يحكم كثيرًا من البشر، ويحدد تصرفاتهم في مختلف المواقف، ويعين اتجاهاتهم حيال القضايا المطروحة في واقعهم المعيش.

وقد أمدتنا فلسفة العلوم بإمكانية بناء “منظومة قيم” يمكن قياسها علميًا، بوصفها مجموعة من العناصر (القيم) المترابطة، التي يعد التوافق بينها ضروريًا لإعادة إنتاج المجموع (نسق قيمي). وقد يسّر التداخل بين هذه القيم المهمة. فعلى سبيل المثال نجد أن قيمة الحرية تتقاطع مع نسيج قيم أخرى، إذ إنه من العسير أن نفصل بين الحرية والمساواة، وأي محاولة للسير في هذا الاتجاه تقود إلى المجهول، لأن هاتين القيمتين يجب أن ترتبطا وتتعايشا جنبًا إلى جنب، إن أردنا أن نظفر بمجتمع سليم البنيان. وفي الحقيقة فإن الحرية يجب أن تتضافر مع المساواة، وكذلك العدالة، لتشكل هذه القيم الدعامة الأساسية لنظام الحكم الديمقراطي.

هل يمكن تحييد الأيديولوجيا؟

صراع الأيديولوجيات في العالم الإسلامي 780x470 1 - إشكاليات السرديات الكبرى

الفصل بين هذه القيم في الحقيقة فعل متعسف يرمي إلى الانتصار لأيديولوجيا بعينها، وليس للعمل من أجل مصلحة المجتمع. فالاشتراكيون رفعوا من منزلة “المساواة” لتعلو لديهم على الحرية والعدل القانوني والسياسي، والليبراليون انتصروا لـ”الحرية” على حساب المساواة والعدل، والإسلاميون يؤكدون أن “العدالة” جوهر الدين الخاتم، وبذلك تتقدم عندهم على الحرية والمساواة.

لكن التجربة الإنسانية أثبتت أن التركيز على قيمة واحدة وإهمال بقية هذه القيم المحورية (العدالة ـ الحرية ـ المساواة)، يؤدي إلى التدهور الاجتماعي. فحين جعلت الاشتراكية الخبز قبل الحرية، واختزلت الحرية في جانبها المادي فقط، انتهى الحال بالأنظمة التي طبقتها في تعسف إلى السقوط، وبات على المتمسكين بها أن يعيدوا النظر في موقفهم من الحرية والعدل السياسي والقانوني. أما الليبرالية فلم تهمل المساواة والعدل تمامًا، فقننت “الضمان الاجتماعي” وأعلت من شأن القضاء، وطبقت مبادئ العدل السياسي مع مواطنيها، وكفلت حدًا مناسبًا من تكافؤ الفرص، ومن ثم تمتعت الليبرالية بقدرة على البقاء، لا يهددها حاليًا إلا توحش الرأسمالية، وجبروت العولمة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قيم ملزمة للجميع

من المتصور أن التشكيك في موضوعية القيم ورسوخها ستترتب عليه عواقب وخيمة فيما يخص المجتمعات، الأمر الذي جعل المفكرين بعضهم يطالبون بأن تكون القيم ملزمة للجميع من أجل حياة محترمة، وذلك رغم أنهم يؤمنون بعدم ثبات القيم، ومن ثم عدم قدرتها على إطلاق أحكام موضوعية. كما أن صفة الثبات نفسها قد تكون سلبية حين تتحول إلى جمود، وهي الآفة التي أصيبت بها عديد من الأيديولوجيات فتنحت جانبًا في معترك التاريخ، الذي يسير بلا هوادة.

كما أن تغير القيم ينطوي على “مرونة” تفتقدها الأيديولوجيات، وفي الوقت نفسه فإن هذه المرونة، مهما كانت درجتها، لا تمنع من التفكير في نسج منظومة قيم، قد تختلف من مجتمع إلى آخر وفق أوضاعه وظروفه وإرثه الثقافي، لكن وجودها يبقى مهمًا له كونها إطارًا يحكم حركته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

هذه المرونة ستساعد على تجنب الأخطاء العميقة التي تصم السرديات الكبرى بعضها (meta narratives)، خاصة تلك التي تنطوي على نظرة “تراتبية” تجاه الشعوب والمجتمعات، فتضعها في سلم تنازلي وفق “الأرقى فالأرقي” في صورة قاسية من العنصرية البغيضة، ما ينجلي مثلًا في استعمار الرجل الأوروبي الأبيض للشعوب الأخرى، الذي تأسس على قاعدة “تنوير” تلك الشعوب ونقلها إلى درجة حضارية فضلى. وما تمخض عن التراتبية الحضارية كله، مثل “المركزية الأوروبية” (Eurocentrism) في الواقع مادة مصنعة في معامل العنصرية، كما يقول إدوارد سعيد.

اقرأ أيضاً: 

أيديولوجية المعنى

اضغط على الاعلان لو أعجبك

خطاب ما بعد الحداثة وعدمية الذات

القيمة الحضارية للثقافة المجتمعية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة