مقالاتأسرة وطفل - مقالات

زوار لا نعرفهم في بيوتنا، نتركهم وحدهم مع أبنائنا مرتاحين البال، فيا ترى من هم؟

جارنا و الزوار

كان هناك رجل يسكن في منزل بالقرب من منزلنا، متزوج ولديه أبناء في مختلف الأعمار.
ذاك الرجل بيته يعج الزوار كل يوم وعلى مدار ساعات ليست قليلة أبدا، الغريب في الأمر أنه لا يعرفهم ولا هم يعرفونه. والأمرّ من ذلك أنه أحيانا بل وكثيرا ما يترك هؤلاء الزوار ليجلسوا مع أبنائه ويذهب للعمل أو لقضاء حوائجه خارج المنزل ويعود ولا يسأل عن الزوار وحديثهم مع أهل بيته. ولاختلاف أعمار أبنائه فلقد أصبح لكل واحد منهم زائره أو زواره المفضلون والمرحب بهم في أي وقت وبأي شكل وبلا رغبة في تركهم أو البعد عنهم.

والمرعب في ذلك أنه لا أحد يسأل، لا الأب يسأل ولا الأم تسأل بل يشاركونهم أحيانا جلساتهم الممتلئة أحيانا بالحوارات المتدنية والألفاظ البذيئة والإيحاءات غير الأخلاقية دون أي تعليق ظنا منهما أن الأمر لا يستحق، فهم مجرد زوار مسيرهم الرحيل في النهاية.
نعم صحيح، سيرحل الزوار ولكن هل سيرحل تأثير الزوار على عقول ونفوس أبنائهم؟ بالطبع لا. فها قد بدأ الأولاد يقلدون الزوار في أسلوب الكلام وانتقاء الألفاظ، وفي اللباس والمظهر، والمأكل والمشرب لا يلقون بالًا بمدى اتفاق تلك الأساليب والعادات مع الأخلاق أو الدين أو حتى العادات والتقاليد الرفيعة.
وها هم قد التقطوا صورا لهم ووضعوها في كل مكان في المنزل وعلى هواتفهم وأغراضهم ويتنافسون ويتباهون بمن قلد أفضل أو سمع أكثر.

أنه لأمر مفزع، أليس كذلك؟
يا لبشاعة هذا المنزل وعشوائيته ويالإهمال مؤسسيه وقائميه!
ألا يجدر بذلك الأب أن يهتم قليلا ببيته، ألا يجدر بتلك الأم أن تراعي قليلا ما يمر على أبنائها؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بات حالنا وحال الكثير من منازلنا كما هو حال هذا الجار
ربما ما زال البعض يتساءل كيف ومن هم هؤلاء الزوار، إنهم ببساطة “كل ما يقدمه” التلفاز وما يساويه.

ذلك الجهاز الذي يكاد لا يخلو بيت منه، فقيرا كان أو غنيا. فحال الأشخاص الغرباء والأفكار الجاهزة المعروضة هو حال الزوار المترددين علينا طيلة الوقت بإختيارنا وباستقبالنا.. إنهم زوار الغفلة.

يترك العديد من الآباء والأمهات أبنائهم في وحل هذا الجهاز دون مراقبة أو تصنيف أو تصفية لما يتم بثه ومشاهدته يوميا، ثم نراهم في ثوب التعجب بعدما يكبر الأبناء وتتشكل شخصياتهم وتترسخ سلوكياتهم ويفصحون عنها في صورة قرارات أو أفعال أو أفكار غير صحيحة ومدمرة.
لما التعجب إذن وقد تركتم النبتة يرويها الوضيع والدنيء والفاسد، تركتم تلك الآذان الصغيرة والعيون البريئة والعقول النامية لكل ما يعرض في ذلك الجهاز دون أدنى تنبيه أو محاولة للنقاش والفرز والتنقية لما يتم استقباله وتطبيعه في نفوسهم وعقولهم.
أحد أكبر أسباب غياب رقابة الآباء والأمهات عما يتم عرضه لأبنائهم أثناء أعمارهم الصغيرة هو رغبتهم في إلهاءهم لينالوا هم قسطا من الراحة أو لتصفية أذهانهم لأداء أعمال مختلفة يصعب تنفيذها وسط طاقات وأصوات الأطفال.
حسنا، لا شك أن الآباء والأمهات لهم الحق في أخذ قسط من الراحة أو أداء أعمال تتطلب تركيزا وهدوءًا ولكن لا يصح أبدا أن يكون ذلك على حساب عقول أبنائهم ونفوسهم.
هل سيدع أي أب أو أم أبنائهم يتناولون طعاما به سم قاتل وهم يعرفون ذلك؟ بالطبع لا، فلِمَ يرضون بسموم العقول والنفوس أن تتسلل إلى أبنائهم إذن؟ هل لا بد أن يكون السم مرئيا وملموسا ليُصدق تأثيره؟!

بالنظر إلى سبب تلك المشكلة بشكل كلي نجد أن تلافيها يحتاج لوقت وجهد كبيرين، ويمكن حصره في ثلاث نقاط:

  • التحكم بالمراقبة:
    ويكون ذلك في سنوات الطفل الأولى، عن طريق المتابعة الشديدة لكل ما يُعرض للطفل من محتوى، فلا يصح المنع التام حيث أن هناك بعض البرامج المفيدة الهادفة، وينبغى ألا تطول مدة مشاهدتها كذلك. فتتم المراقبة للمحتوى لضمان تناسبها مع عمر الطفل والقيم والأخلاق الحميدة بفترة زمنية محدودة.
  • توفير بديل:
    وذلك بإتاحة بدائل متعددة عن التلفاز وأمثاله لاستيعاب طاقة الطفل واستثمار نشاطه وحركته وتفاعله، كممارسة رياضة بدنية مفيدة، ألعاب العقل والتفكير وتنمية الذكاء والقدرات الذهنية، الأنشطة الفنية والمهارية كالرسم والتلوين والكتابة، قراءة الكتب وسرد الحكايات المفيدة، والأنشطة التفاعلية كاللعب مع الأصدقاء ومشاركتهم المرح والحركة. كلها أنشطة مهمة تستثمر تلك الطاقات الهائلة بشكل مناسب ومفيد حتى ينعكس على الطفل ويبني شخصية مستقرة نفسيا ولديها مهارات متعددة وجسد رياضي صحي وفطرة وبداهة سليمة.
  • البناء المعرفي السليم:
    وذلك مع بداية سن المراهقة والنضوج العقلي والنفسي من خلال مناقشة ما يشاهده الابن أو الابنة في الأفكار المطروحة والمواقف المختلفة المعروضة ومحاولة لفت الانتباه للسلبي والإيجابي فيها. ولضمان مناقشة مثمرة ومتزنة لا بد من بناء تفكير سليم لعقولهم يستطيعون من خلاله التمييز بين الصواب والخطأ، وذلك بدراسة أسس علمية كالمنطق واستخدامه فعليا في التفكير، كما تساعد القراءة في إثراء عقولهم بالأفكار وحثهم على إعمال عقولهم بدلا من تلقي الأفكار الجاهزة وتبنيها بدون تفكير.

لن يجدي نفعًا منع الابن والبنت في فترة المراهقة من الأفكار الهدامة المنتشرة أو بعض البرامج والأفلام المدمرة فكريا، فالحل ليس بناء سد عازل وإنما بناء قاعدة فكرية صلبة وسليمة تساعدهم في النجاة من التأثيرات المدمرة التي تنتظرهم وراء هذا السد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الفطرة السليمة التي ينمو الأطفال عليها ويحافظ الآباء على سلامتها ونقائها، بجانب التفكير السليم والقاعدة الصلبة وإعمال العقل وحمل الأبناء على المناقشة والتساؤل والبحث عن جواب دقيق هو ما سيكون خير زاد لهم في رحلتهم التي تعج بالظلام والعتمة والجهلاء. سيتمكنون من مواجهة – ليس فقط التلفاز – وإنما كل ما يدخل إدراكهم في أي زمان ومكان، في المدرسة، مع الأصدقاء، في الجامعة، وفي العمل. ستكون بمثابة درع واقٍ حقيقي لن يُقام أبدًا بالمنع أو بفطرة تم تشويهها.

أطفالنا هم شركاء لنا في الحياة، منحهم الله لنا لنرعاهم جسديًا ونفسيًا وعقليًا حتى يكونوا قادرين على البناء والتعمير والإنتاج. هم مسؤوليتنا وتربيتهم تحتاج منا بذل الوقت والجهد والصبر.

وما أعظم أن تقوم باستنفاذ روحك لانتاج روح أخرى فريدة ومميزة وقادرة على الإبصار والعطاء.

أي نجاح أعظم من أن يكون أبناؤك فضلاء صالحين وأحرارا لا يحركهم إعلام فاسد أو عقول متسلطة أو نفوس مريضة.

أي نجاح أعظم من أن تُيسر على أبنائك طريقهم نحو سعادتهم ورُقيهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولن يتم ذلك إلا بك، فابدأ بنفسك لتستطع

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط

ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب

.

 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة

مقالات ذات صلة