مقالات

الزلنطحي المُعاصر!

لعل إحدى أفضل الشخصيات المثيرة للاستهجان والضحك في الروايات والأفلام السينمائية هي شخصية «الزلنطحي»، ذلك الشخص اللطيف الذي لا يُجيد عملًا، لكنه يعمد إلى إقحام نفسه في حياة الآخرين واقتباس أدوارهم،

فإذا ما وقع في مأزق تمكن من الخروج منه بفضل ذكائه وثقته بنفسه، إنه مُغامر وجريء وهادئ تحت الضغوط المختلفة، بإمكانه مواجهة المشكلات الطارئة، ولديه دائمًا التبريرات التي تتيح له خداع الناس وتجاوز العثرات.

منشأ كلمة الزلنطحي

«الزلنطحي» كلمة تركية تعني في الأصل الشخص المُستخدم للبلطة (البلطجي)، أو الشخص النصَّاب الساخر حلو اللسان، وكانت تُطلق في فترة من الفترات على القوَّاد، وأحيانًا على الفتوة، ثم انحسر معناها قليلًا ليصبح «الزلنطحي» مجرد تابع أو صبي لبلطجي أو فتوة.

كما أطلق وصف «الزلنطحية» أيضًا على المشتغلين بمهنٍ نوعية مُستهجنة مثل فتوات الزفة (سواء عرس أو جنازة) أو «الهتيفة» في الحملات الانتخابية والحفلات الغنائية وغيرها.

أما في وقتنا الحالي فقد أصبح «الزلنطحي» هو الشخص الوسيم المُتعلم حلو اللسان الذي يستخدم عقله ودهاءه وخفة دمه في تملق الجميع، يكون في البداية تابعًا ثم يُصبح في النهاية سيدًا دون استحقاق!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قصة طريفة تُروى عن «آينشتاين» تُظهر شخصية الزلنطحي

الزلنطحي

وثمة قصة طريفة تُروى عن «آينشتاين» وسائقه (غير صحيحة بالمرة)، تُظهر شخصية «الزلنطحي» في أفضل حالته. تقول القصة أن «آينشتاين» قد سئم من إلقاء المحاضرات بعد أن تكاثرت عليه الدعوات من الجامعات والجمعيات العلمية.

وذات يوم، وبينما كان في طريقه لإلقاء إحدى محاضراته، قال لسائقه (وهو شخصٌ يُشبه «آينشتاين» تمامًا في الشكل وطريقة الكلام): “لقد مللت من التحدث وتلقي الأسئلة والإجابة عنها،

فقال السائق: لدَّي فكرة يا سيدي، لقد سمعتك تُلقي هذه المحاضرة عدة مرات وحفظتها عن ظهر قلب، وأراهن أني أستطيع إلقاءها بدلًا منك، فما قولك؟”. ضحك «آينشتاين» بصوتٍ عالٍ وقال: “ولم لا؟ دعنا نُجرب!”.

وصل الاثنان إلى قاعة المحاضرات، وارتدى «آينشتاين» سُترة السائق وقُبعته وجلس في أحد المقاعد الخلفية، بينما ارتدى السائق سُترة «آينشتاين» واتجه إلى المنصة وألقى محاضرة رائعة عن النسبية، بل وأجاب عن بعض أسئلة الحضور بخبرةٍ فائقة.

لكن أستاذًا رفيع المستوى وقف وطرح سؤالًا صعبًا عن المادة المُضادة، قاصدًا به إحراج «آينشتاين»، فما كان من السائق «الزلنطحي» إلا أن فاجأ السائل بنظرةٍ ثاقبة أربكته، قائلًا له: “سيدي، هذا سؤالٌ ساذجٌ، والإجابة عنه بسيطة للغاية، حتى أنني سأتركها لسائقي الذي يجلس في الخلف”. وبالفعل، قام «آينشتاين» وأجاب عن السؤال ببراعته المعهودة!

قصة مماثلة عن حاخامٍ مشهور وسائقه تُظهر شخصية الزلنطحي

هذه القصة كانت في الأصل جزءًا من الفولكلور اليهودي، ففي كتابه «خزانة الفولكلور اليهودي» Treasury of Jewish Folklore (1948)، يُورد المؤرخ الأمريكي «ناثان أوسوبيل» Nathan Ausubel (1898 – 1986) قصة مماثلة عن حاخامٍ مشهور وسائقه، إذ

قال له السائق ذات يوم، وكانا في طريقهما لإلقاء موعظة في إحدى المُدن: “سيدي، قدِّم لي معروفًا، أود لمرةٍ واحدة أن أكون الشخص الذي يتلقى ما أراه دومًا من اهتمامٍ وتكريم بك لأجرب شعور المرء في هذه اللحظة.

أنا أشبهك كثيرًا، تبادل معي الملابس وكُن أنت السائق وأنا الحاخام في هذه الموعظة!”، ضحك الحاخام، وقد كان يتمتع بروح الكرم والدُعابة، وقال لسائقه: “حسنًا، لكن تذكر أن الملابس لا تصنع حاخامًا! إذا طُلب منك شرح بعض الفقرات الصعبة في الكتاب المُقدس فتأكد من أنك تستطيع القيام بذلك، ولا تجعل من نفسك أضحوكة للحضور!”.

تم بالفعل تبادل الملابس بين الحاخام والسائق، وعند الوصول إلى وجهتهما استُقبل الحاخام المُزيف بحماسٍ صاخب، وكان سعيدًا للغاية، وألقى الموعظة التي كان قد حفظها من الحاخام حرفيًا، إلى أن جاءت اللحظة المخيفة، تلك التي تلقى فيها سؤالًا تصعب عليه إجابته،

لكنه وقف بثبات وصاح قائلًا: “ألا تُغني عنكم كثرتكم أيها الزملاء؟ هل هذه أصعب مشكلة يمكن أن تسألونني عنها؟ إن السؤال بسيطٌ للغاية، حتى أنني سأترك سائقي الخاص يُجيب عنه”. ثم دعا الحاخام قائلًا: “أيها السائق: قم واصعد إلى المنصة ووضح حُكم الشريعة لهؤلاء الزملاء البليدين!”.

نسخةٍ أخرى من القصة يحل «البابا» محل «الحاخام»

في نسخةٍ أخرى من القصة يحل «البابا» محل «الحاخام»، حيث يُروى أنه كان يقوم بجولةٍ في الولايات المتحدة، وكان جدول أعماله مزدحمًا للغاية، يبذل قصارى جُهده للوفاء به.

وبينما كان في زيارة لإحدى الكنائس انطلق برفقة سائقه فقط عبر الطرق الخلفية السريعة، يؤرقه القلق من تأخره عن موعد الزيارة، فأمر السائق بزيادة السرعة، لكن السائق رفض الانطلاق بالسيارة بما يزيد عن السرعة المسموح بها قانونًا،

مُحذرًا البابا من أن الشرطة في هذه المنطقة قاسية للغاية مع من يتجاوز السرعة المُقررة، فإذا به يأمر السائق بالتوقف ويتولى القيادة بدلًا منه، وهكذا أصبح قداسته أمام عجلة القيادة، بينما سائقه منكمشٌ في المقعد الخلفي!

ولم يمض وقتٌ طويل إلا وقام شُرطي بإيقاف السيارة، وراح يخطو إليها في ثباتٍ وكأنه مُقبلٌ على وليمة، لكنه ما أن رأى سائقها حتى عاد إلى سيارة الشرطة وأمسك بالهاتف محدثًا رئيسه: “معذرةً سيدي، لدَّي مشكلة.

لقد قمت لتوي بإيقاف سيارة مُسرعة، ولكن اتضح لي أن قائدها شخصٌ مهمٌ للغاية، فكيف يجب أن أتصرف معه؟”، أجاب الرئيس: “هذا يتوقف على هوية هذا الشخص، هل هو رئيس البلدية؟ لا يا سيدي، شخصٌ أهم! هل هو سيناتور؟ لا، شخص أهم؟ من هو إذن يا بني؟ لا أعرف يا سيدي، لكن أيًا كانت هويته فهو شخصٌ يفوق كل من تتخيله أهمية، لأن سائقه هو «البابا»!”.

قصة آخرى عن نجم السينما الصامتة الفنان الكوميدي الأشهر «شارلي شابلن»الزلنطحي

ربما سمع أكثرنا كذلك بقصةٍ شبه مماثلة (مشكوك في صحتها) تُروى عن نجم السينما الصامتة الفنان الكوميدي الأشهر «شارلي شابلن» Charlie Chaplin (1889 – 1977)، الذي استوقفته يومًا في الولايات المتحدة مسابقةٌ لاختيار أكثر شخص شبيه له ولديه القدرة على تقليده، فقرر المشاركة في المسابقة دون أن يعرفه أحد، لكن الطريف والمفاجئ أنه لم يفز، بل جاء في المركز الثالث (أو المركز العشرين في رواية أخرى)!

كثرة شخصية «الزلنطحي» في عالمنا العربي اليوم

لا تخلو مثل هذه القصص من روح الطرافة والدعابة، لكنها مع ذلك تحمل رسالة هامة للقارئ، يُعبر عنها حديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم): “إذا وُسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة.” (رواه البخاري)،

وفي حديثٍ آخر يرويه الحاكم بسندٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ استعمل رجلًا من عصابة –أي طائفة– وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.”، هذا ما نُعبر عنه أيضًا في حواراتنا اليومية بالمقولة الشائعة: “الرجل المُناسب في المكان المُناسب”،

بشرط أن نعرف معيار المُناسبة ومدى إشباع الرجل لها في بيئة العمل، فالقرابة أو الثقة أو المصلحة لا تعني الأكفأ، والمعطف الأبيض لا يصنع طبيبًا، والعمامة قد لا تُغطي رأس داعيةٍ بحق، وشهادة الدكتوراة ليست دليلًا على أن حاملها عالمٌ أو مُبدع، إلخ.

ومع ذلك، وفي معية حالة التردي الصارخة التي تغشى عالمنا العربي، تتكاثر شخصية «الزلنطحي» وتتوالد في كافة الإدارات والمؤسسات ومواقع العمل: لا تجده فقط إداريًا، وإعلاميًا، وأستاذًا، وطبيبًا، ومهندسًا، وداعية، بل ومستشارًا وخبيرًا!

وهو لا يجيد فقط فن النفاق والتطبيل، بل وكذلك فن الغناء والرقص والتعبد في محاريب رؤسائه إن اقتضى الأمر، وبه ومعه تروج تجارة بيع الوطن في أسواق النخاسة الحضارية!

اقرأ أيضاً:

متى يكف الجهل عن ثرثرته؟!

النفاق من المسرح إلى الحياة العامة

أثر العقل الجمعي على السلوك الفردي

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية