فن وأدب - مقالاتمقالات

محمد موافي .. روائي وإعلامي يستحق التقدير

قال لي: ذهب زمن المذيعين الأكفاء بلا رجعة، أين الذين نسمعهم الآن من طلاوة محمود سلطان وأحمد سمير واقتدارهما؟

قلت له: مصر لا تخلو أبدًا من أمثالهما، لكننا قوم نقدس ما مضى.

ابتسم وقال: اضرب لي مثلًا.

قلت له على الفور: محمد موافي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قال: لا أعرفه، أو ربما ضاع صوته من أذني، ووجهه من عينيَّ، مع انصرافي عن نشرات الأخبار.

قلت: لكنك قارئ نهم، فإن لم تكن تعرف الرجل مذيعًا، فأعتقد أن اسمه قد مر عليك روائيًا.

صمت في شرود قصير، ضاقت له عيناه، وزمت شفتاه، كأنه يصطاد الاسم من جوف ذاكرة مزدحمة بالأسماء، ثم عاد إليَّ قائلًا: تقصد صاحب روايات “سفر الشتات” و”حكاية فخراني” و”ويونس ومريم” و”آيات عاشق”؟

أجبته: نعم.. هو.

قال: أعرفه، وأتصور أنه صاحب عوالم مدهشة ولغة رصينة، يراوح بين واقع حبيس وتصوف محلق، وينهل من بئر عميقة على مهل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قلت: هو يعرف أسرار اللغة العربية جيدًا، فقد قرأ بعض عيونها الكبرى، وفي السنوات الأخيرة انشغل بقراءة الآداب الأجنبية المترجمة، فحقق، ربما دون أن يدري، ما كان يوصي به طه حسين الأدباء دومًا، من إلمام بتراث العرب، وانفتاح على الأدب العالمي.

قال: أظنه هكذا.

قلت: هو فاق سلطان وسمير بالكتابة، أما صوته الفخيم المستقيم فهو مثلهما إن لم يفوقهما.

سأل: لهذه الدرجة؟

أجبته: ادخل على صفحته في “فيسبوك” أو حسابه في “تويتر”، وأنصت إليه وهو يقرأ قصائد شعر، أو مقاطع من روايات وقصص، أو صفحات من كتب قديمة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هكذا يكون موضع محمد موافي، الذي يشكو دومًا من النقاد لعدم التفاتهم إليه أديبًا، وشكواه الأقل مما جرى لأبناء مهنته في الإعلام المصري من تهميش، في بلد ساهم بقوة في صناعة الإعلام العربي كله، من المحيط إلى الخليج، ثم استكان راضيًا بالفتات، رغم أنه لا ينقصه شيء لتكون له قناة فضائية إخبارية تزاحم “الجزيرة” و”العربية” و”الميادين”.

في الأدب، يعول موافي دومًا على القارئ، فهو الذي يكتب له بالأساس، وينتشله أحيانا من قنوطه. أخبرني أن شابًا سعى إليه من الزقازيق وطلب لقاءه، فجاءه وفي يده رواية “آيات عاشق”، وبسط صفحاتها أمامه، ليجده قد خط فيها بقلمه تحت عبارات وصور وشخصيات وحكايات، وكتب كثيرًا في هامشَيْها، على اليمين واليسار، ثم قال له:

ـ أتلهف دائمًا على كل إبداع جديد لك.

سمعت هذه الواقعة منه، في الهاتف مرة وفي جلسة المقهى مرة ثانية، وقلت له:

ـ لمثل هذا نكتب، فامض في طريقك، وسيأتيك الخير يومًا، وإن تأخر، أو ظننته هكذا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يكتب موافي الآن روايته الرابعة، ويفكر في كتابة قصص قصيرة مستقبلًا، ولديه من الحكايات الكثير، تعرف هذا حين تنصت إليه، وهو يسرد على مسامعك بعض تجاربه الغنية بين الناس، ومع بني مهنته، وفي رحاب أهله في الصعيد، وبصحبة الذين عرفهم في المدينة، وكذلك في حله هنا في مصر، وترحاله إلى بلدان شتى، للعمل أو التنزه، وفي مخالطته لبسطاء الناس وعلية القوم في آن.

أقول له: عالمك ثري، فلا تجعله يفلت من يدك، فيعدني بأن كل هذا سيصير كتابة جلية، وأنتظر، وأنا واثق من أن صاحب هذه القريحة والذائقة والتجربة لا بد له أن يفي بما وعد.

حين يأتي الحديث عن الجوائز تغلب صوته مرارة، لكنه على يقين، مثل بعضنا، من أن الجوائر لا تصنع كاتبًا من عدم، ولا تعطي إضافة لكاتب ضعيف، إذ سرعان ما ينطفئ وميضها المصطنع من فوق اسم لا يستحق، فلا يرى الناس فيه إلا ظلامًا دامسًا. وحين يتطرق الحديث إلى “الجماعة الثقافية”، يتساءل: أين هي؟ ومن هي؟ وأظنه يعرفها جيدًا، لكن سؤاله لا يجافي الصواب، حين يأتي على ذكر الشلل الأدبية، التي يوسع كل فرد فيها للآخر، حتى إن لم يكن يكن جديرًا بهذا.

روايات موافي لا تهدي عوارفها لقارئ متعجل، يحصدها وهو يتكئ على جنبه، أو يتلهى عنها بشيء آخر، أو يبحث عن تسلية عابرة، إنما على من يقرأها أن يجلس معتدلًا، فاتحًا عقله وصدره للكلمات المصاغة بعناية، والحكايات المصنوعة بصبر، والدهاليز التي تنبت على مجرى السرد، ثم لا تلبث أن تعود إليه، لتعززه وتغذيه، كنهيرات صغيرة تصب في النهر الواسع فيتدفق عفيًا. هذا النهر هو الرواية كلها، من ألفها إلى يائها، ومن مبتدأها إلى منتهاها. إنها قطع أدبية مسبوكة على مهل، تتوالى في عسر لمن يخطفون الجمال والمعاني خطفًا، وفي يسر لمن كانوا يبحثون عن صناعة روائية ثقيلة، لا تتسرب أشكالها ومضامينها من أذهانهم سريعًا.

لا يشافه موافي في رواياته، فكلها بنت الكتابة المقصودة حتى في الحوارات الجارية على ألسنة شخصياتها، وربما لو كتب مثلما يحكي، أو كما يريد أن تعبر هذه الشخصيات المختلفة، لهان الأمر، وانجذب قراء أكثر، لكن موافي من الذين يؤمنون بأن الرواية ليست مجرد حكاية طويلة، إنما هي عالم مشحون بالجماليات والمعاني والقيم والمعارف المتنوعة، فهو يميل إلى هذا اللون حين يقرأ لغيره، فيحدثك عن إعجابه بروايات أورهان باموق، الذي يفرد لها المراجع والحوليات التاريخية فيهضمها قبل أن يجلس لكتابتها، ولا يرى في رواية بنت بلده أليف شافاق “قواعد العشق الأربعون” ما يستحق الضجة التي أثيرت حولها، ولم تثر حول روايات أخرى لها أفضل كثيرًا.

إعجاب موافي بالروايات العميقة يطمئنني على أنه سيبقى في نجاة من الاستلاب حيال جمهور قراء يقبل أغلبه على العابر والسطحي والمسلي، الذي لا يترك علامة في الأذهان ولا الوجدان، ويجعلني أضعه في مصاف أولئك الكتاب الذي يدركون أن الزبد سيذهب جفاء، وأن ما ينفع الناس سيمكث في الأرض، حتى لو وطأته أقدام اللاهثين بعض الوقت، في غفلة أو جهل أو تسرع.

مقالات ذات صلة:

سيرة محمود خضر ورحلاته

رؤى في أوجه فقدان المعنى

جاكسون براون .. الأديب الذي اكتشف موهبته مصادفة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة