مقالات

بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري منتصف القرن التاسع عشر

الحلقة الرابعة

مدخل

استعرضنا في الحلقات الثلاث السابقة كيف هيأت بريطانيا الظروف لإعادة هيكلة الاقتصاد المصري منتصف القرن التاسع عشر بشكل غير مباشر، من خلال تطويع الامتيازات الأجنبية لمصلحتها، ومن خلال إلغاء نظام الاحتكار.

وفي الحلقات القادمة، نستعرض كيف قامت بريطانيا بإعادة هيكلة الاقتصاد المصري بشكل مباشر من خلال عدة أدوات، ونبدأ في هذه الحلقة بالأداة الأولى ألا وهي تشجيع زراعة القطن.

أدوات بريطانيا لإعادة هيكلة الاقتصاد المصري بشكل مباشر:

أولًا زراعة القطن:

انصرف محمد علي بعد معاهدة لندن 1840 إلى الشؤون الداخلية، وكان أكبر مشروعاته القناطر الخيرية، وهو مشروع يخدم الزراعة، فكأن محمد علي سار برضاه أو عدم رضاه في الاتجاه الذي رسمته بريطانيا لمصر، ألا وهو تحويلها إلى منتِج للمواد الخام ومصدِّر لها، واهتم أيما اهتمام بالقطن الذي تحتاجه بريطانيا لمصانعها العملاقة للغزل والنسيج.

فقد سعت الدول الأوروبية –خصوصًا بريطانيا– إلى إعادة هيكلة الاقتصاد المصري من خلال عدة آليات، منها معاهدة لندن 1840، وإنشاء السكك الحديدية التي تمر بعواصم المحافظات الزراعية، وسعت للقضاء على المشروع الصناعي وتحويل مصر إلى منتج للمواد الخام التي تحتاجها، والتي تتمثل في المحاصيل الزراعية بالأساس، والتي يحتل القطن قمتها، فسهلت طرق نقله وتصديره.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

زراعة القطن في عهد عباس الأول (1848-1854):

وعلى صعيد الزراعة فكان عباس الأول يرى صرف معظم الجهود الإنتاجية في الزراعة، إلا أنه لم يغير شيئًا من الأنظمة السائدة فيها، ومع ذلك تحسنت حالة الفلاح في عهده، فكان بدء تلاشي الاحتكار الزراعي في أخريات عهد محمد علي مُؤذنًا باستعادة الفلاح حريته، كما بدأ إرهاق أعمال السخرة يقل، إذ قل حفر الترع وإقامة القنوات والجسور، ولم يكن هناك مشروعًا كبيرًا تم تسخير المصريين فيه غير مشروع إنشاء السكك الحديدية.

ولا يبعد أن يكون توجيه جهود المصريين إلى الزراعة وإهمال الصناعات الكبرى أثرًا من آثار النفوذ البريطاني السائد في ذلك العهد، ذلك بأن صناعة المنسوجات الإنجليزية كانت خلال القرن التاسع عشر تسير بخطوات سريعة نحو التقدم،

مما استدعى أن يعمل البريطانيون على تهيئة الظروف لإيجاد سوق لتصريف المنسوجات القطنية واستيراد القطن الذي أصبح أهم المحاصيل الزراعية المصرية بالنسبة للمصانع الأجنبية([1]).

إن التطور الاقتصادي الذي عرفته مصر والذي تمثل في زراعة القطن كان يسير في اتجاهين يخدمان المصالح الغربية بالأساس، فهو من جهة يدر على التجار الأجانب الذين يقومون بعملية تصديره أرباحًا طائلة، ومن جهة أخرى يخدم الصناعة الغربية ويسد احتياجاتها من المواد الخام المتمثلة في القطن على وجه الخصوص([2]).

زراعة القطن في عهد سعيد باشا (1854-1863):

وجدير بالذكر أن بريطانيا كانت تلح على سعيد باشا في الإكثار من زراعة القطن، فنرى نص إرادة أصدرها سعيد باشا لقائمقامه(*) إسماعيل باشا في 18 محرم 1279هـ (15 يوليو 1862) جاء فيها: “غني عن البيان والإيضاح أن مدار ثروة مصر وغناها هو على حرث وزراعة أطيانها، فكلما زاد الاعتناء بتوفير وتكثير المحصولات الأرضية وخصوصًا القطن فإنه يسبب فوائد ومنافع هامة.

فالسعي في تقدم وترقية هذه المادة الخيرية هو بلا شك أهم وألزم لدينا من كل المواد الأخرى. فنحيطكم علمًا أنه توجد آمال عظيمة في إنكلترا بخصوص تكثير زراعة القطن، وحصل رجاء وإلحاح لطرفنا في هذا الصدد، فبناء عليه يجب أن تبادروا بدعوة واستحضار مديري الوجه البحري وقسم من العمد الذين يدركون ويفهمون الأحوال إلى طرفكم،

وأن تتذاكروا وتتشاوروا معهم في استكمال الأسباب والوسائل الموجبة والمؤدية لزراعة الصنف المذكور وزيادة محصوله، وأن تتفضلوا بإرسال أوامركم لوضع تقرير مفصل يبين الأسباب والوسائل القوية التي يجب اتخاذها وإجراؤها للوصول إلى هذا المقصد الجليل تمامًا، وإحضاره لنطلع عليه عند عودتنا لطرفكم إن شاء الله تعالى”([3]).

ففي هذه الإرادة يؤكد سعيد باشا على أن مصر –وكما أُريد لها– بلد زراعي، بل وتعتمد على محصول رئيسي هو القطن، وأن بريطانيا تضغط باتجاه زيادة مساحته المزروعة، مما يدل دلالة واضحة على إعادة هيكلة الاقتصاد المصري ليخدم المصالح الرأسمالية البريطانية.

نظرة عامة على زراعة القطن في عهدي عباس الأول وسعيد باشا:

 

الذهب الأبيضوتكمن الخطورة في الاقتصار على محصول رئيسي يشكل النسبة الأكبر من الصادرات، أن الاقتصاد يصبح رهنًا للأسعار العالمية لذلك المحصول، وهو أمر خارج عن تحكم المنتِج.

والجدول التالي يعرض لما تم تصديره من القطن في عهدي عباس وسعيد([4])(**):

السنة الصادرات/قنطار معدل التغير السنوي
1850 364,816
1851 384,439 5%
1852 670,129 75%
1853 477,390 (29%)
1854 477,905 0%
1855 520,886 9%
1856 539,880 3%
1857 490,960 (9%)
1858 519,537 6%
1859 502,645 (3%)
1860 501,415 0%
1861 596,200 19%
1862 821,052 38%
1863 1,181,888 44%

 

من الجدول يتضح الآتي:

التذبذب بين الزيادة والنقصان في إنتاج القطن، وكان أعلى معدل للزيادة في سنة 1852، ثم أعقبه هبوط حاد في سنة 1853، ويُعزى ذلك لرداءة القطن، تلك التي حاربها سعيد بإدخال آلات جديدة لتنظيفه. وهذا يفيد بأن الجدول السابق للصادرات وليس للإنتاج كما ذُكر بالهامش.

ابتداءً من سنة 1861 بدأت الزيادة في الاطراد، ويرجع ذلك إلى اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) وتزايد الطلب على القطن المصري.

ومما يعود إليه أيضًا هذا التذبذب في الإنتاج ما حدث من السُخرة في إنشاء السكك الحديدية وحفر قناة السويس، والتي لم تكن تراعي أوقات الحصاد مما يعرض جزءًا من المحصول للتلف.

اقرأ أيضاً:

الحلقة الأولى من المقال 

الحلقة الثانية من المقال

الحلقة الثالثة من المقال 

حصص بعض الدول الأوربية المستوردة للقطن المصري

والجدول التالي يبين حصص بعض الدول الأوربية المستوردة للقطن المصري([5]):

 

السنة بريطانيا فرنسا النمسا
1850-1854 274,464 90،114 126,297
1855-1860 302,124 102،124 108,699
1860-1864 648,044

 

ويتضح من الجدول أن بريطانيا كان لها النصيب الأكبر، بل كانت حصتها تساوي مجموع حصتي فرنسا والنمسا.

وكان القطن المصري يمر بعدة مراحل ليصل إلى المصانع الأوروبية، فالمنتِج يبيع إنتاجه إلى التاجر أو الحلاج ليصل بعد ذلك إلى المُصَدِّر والذي يكون له علاقة ببيت من البيوت التجارية في أوروبا والتي تربطه مباشرةً مع الصانع([6]).

تطور زراعة القطن في مصر

الذهب الأبيض

وأخذت مصر تطور زراعة القطن، فكانت عمليات التهجين بين أنواع مختلفة من القطن استوردتها مصر من البرازيل وبيرو، ونتج عنها نوع جديد، واستمرت التجارب لإيجاد أنواع أخرى من القطن طويل التيلة.

ومما ساعد على تطور زراعة القطن في مصر خصوبة التربة، والمناخ، ووفرة المياه، والأيدي العاملة رخيصة الأجر، كما أدت الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865)، وانقطاع القطن الأمريكي عن الأسواق، إلى زيادة الاعتماد على القطن المصري، والاهتمام به.

فنتيجة لإغلاق موانئ تصدير القطن الأمريكي في الجنوب، ازداد الطلب بشكل غير مسبوق على القطن المصري في الأسواق الأوروبية وصاحب ذلك ارتفاع أسعار القطن، ففي عام 1861 بلغ سعر القنطار 12 ريالًا، وتصاعد إلى 23 ريالًا عام 1863، ثم 36,5 ريالًا عام 1864، ثم 45 ريالًا عام 1865، مما حفز المصريين للإقبال على زراعته.

هذا، وكانت لجنة من مانشستر ببريطانيا وصلت إلى مصر في بداية الحرب الأهلية الأمريكية لتبحث على الطبيعة إمكانية زيادة إنتاج القطن، وحثت سعيد باشا على التوسع في زراعته، واستخدام الآلات الحديثة في ذلك([7]).

وهكذا تبين كيف سعت بريطانيا للتوسع في زراعة القطن لخدمة مصانعها حتى تتحول مصر لإنتاج المادة الخام الأهم لتلك المصانع ألا وهي القطن، ومن ثَمَّ إعادته كمنسوجات إلى السوق المصري،

وتلك كانت خطوة محورية في سبيل إعادة هيكلة الاقتصاد المصري لخدمة مصالحها، وفي الحلقة القادمة –إن شاء الله– نستكمل استعراض مظاهر التدخل البريطاني في الاقتصاد المصري، فترتي حكم عباس الأول وسعيد باشا، خدمةً لمصالحها.

يتبع..

المصادر

([1]) محمد فهمي لهيطة: تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1944، ص ص 200-201.

([2]) عبدالكريم مدون: العلاقات الاقتصادية المصرية الفرنسية (1840-1863)، رسالة ماجستير، مودعة بمكتبة الجمعية التاريخية المصرية، 1988، ص 157.

(*) كان سعيد باشا يقيم ولي عهده إسماعيل باشا – الخديو إسماعيل فيما بعد – مقامه عند سفره كما سبقت الإشارة في الفصل الثاني، وهذه الإرادة أصدرها حال سفره كما يتبين من قوله في آخرها “عند عودتنا”، وكما هو مثبت بالوثائق –كما في تقويم النيل– من أنه في تلك الفترة كان خارج مصر، وكان سعيد يكثر السفر في أخريات حياته للاستجمام والاستشفاء.

([3]) أمين سامي (باشا): تقويم النيل، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط3، القاهرة، 2009، ج3، ص 419.

([4]) Joseph Rabino: Some Statistics of Egypt, Journal of the statistical Socity of London, Vol. 47 No. 3 (sep., 1884), p. 426.

(**) من سنة 1860 وحتى سنة 1863 من عبدالكريم مدون ص 166. العمود الخاص بنسبة الزيادة من عمل الكاتب ليتسنى التحليل.

([5]) عبدالكريم مدون: المرجع السابق، ص 166.

([6]) المرجع السابق، ص 164.

([7]) عاصم محروس عبدالمطلب: القطن في العلاقات المصرية البريطانية من واقع أوراق الهيئة النيابية السابعة 1938-1942م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص 16.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. محمد محمد عبدالحميد

مهندس برمجيات – مدير مشروعات – حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث