مقالات

بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري منتصف القرن التاسع عشر

الحلقة الثالثة

مدخل

استعرضنا في الحلقة السابقة الجزء الأول من أداة أخرى من أدوات إعادة هيكلة الاقتصاد المصري منتصف القرن التاسع عشر، ألا وهي تعاملها مع نظام الاحتكار.

وفي هذه الحلقة نستعرض الجزء الثاني من “بريطانيا ونظام الاحتكار”.

بريطانيا ونظام الاحتكار في عهدي عباس الأول وسعيد باشا (1848-1863)

منذ أواخر عهد محمد علي بدأ العدول عن سياسة الاحتكار، حيث اتجهت عناية مصر نحو الزراعة والاستفادة من حاجة الدول الصناعية إلى القطن.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبذا بدأ عصر التخصص، الذي تَدَعّم بمجيء عباس إلى الحكم، حيث زاد من توجه البلاد نحو الزراعة، ورفع يد الحكومة عن الصناعات الصغيرة، فلم تعد للطوائف أهمية في إنهاض الصناعة.

وظلت السياسة الاقتصادية في عهدي عباس وسعيد تقوم على مبدأ التخصص ومبدأ الحرية الاقتصادية.

وكان لمذهب الحرية وتعاليمه التي انتشرت في أوروبا في ذلك الوقت أثره على خلفاء محمد علي.

وتمثل رد فعل تلك التعاليم في مصر بإلغاء نظام الاحتكار وتدعيم نظام ملكية الأراضي([1]).

اصطحبت هذه الحركة، نحو إقرار الملكية الخاصة، بتغيير في نظام الضرائب. فحتى ذلك الحين، الذي اعتلى فيه سعيد عرش مصر، كان شيخ القرية يعتبر مسؤولًا عن جمع الميري المفروض على أراضي القرية، وكانت القرية مسؤولة مسؤولية جماعية عن الدفع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

التحول إلى الملكية الخاصة والاقتصاد النقدي

ولكن في سنة 1857 صدر قرار يقضي بأن تتولى الحكومة جمع الضرائب من الفلاحين بصفة فردية. وقد تضمن هذا إصدار ما يعتبر شهادات ملكية فيما يختص بجميع الأراضي الخراجية. وفي نفس الوقت صدر قرار بجمع الضرائب نقدًا لا عينًا.

هذا التحول إلى الملكية الخاصة والاقتصاد النقدي لم يكن برمته لصالح الفلاح أو الاقتصاد المصري بصفة عامة.

فمن الناحية الفعلية كان هذا يعني أن كثيرًا من الأراضي الزراعية أخذت تخرج من يد الفلاح الصغير عن طريق البيع، أو عن طريق نزع الملكية بسبب الرهن كما حدث فيما بعد.

وفي الوقت الذي ظلت ملكية الفرد المتوسط صغيرة، وتزداد صغرًا بسبب زيادة السكان وتوزيع الميراث. كانت الأمور تسير نحو نمو الضِياع الكبيرة نتيجة لانتزاع الأراضي من صغار الفلاحين، الذين استغلوا حريتهم الجديدة في الاستدانة بضمان أطيانهم التي اضطروا لبيعها تسديدًا لهذه الديون.

وظهر عدد كبير من المرابين، وكان بعضهم من الأوروبيين، أفرادًا كانوا أو بنوكًا، وكانوا يقرضون الفلاحين بفائدة ضخمة بهدف انتزاع أراضيهم في النهاية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذه الحرية الخطرة التي حصل عليها صغار الفلاحين غذت من سير العملية الاستعمارية الأوروبية التي بدأت مع بداية الضغط الدبلوماسي على مصر، بعد هزيمتها عسكريًا، لإنهاء نظام الاحتكار([2]).

مراحل إعادة الهيكلة بعد إنهاء نظام الاحتكار

109107349406 - بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري منتصف القرن التاسع عشر

أدى إنهاء نظام الاحتكار إلى ظهور الاقتصاد الحر، وفيه تمكنت الدول الأوروبية من شراء المواد الخام من مصر، خصوصًا القطن والحبوب، بأبخس الأثمان.

ولم تكد تستقر هذه المرحلة، حتى بدأت المرحلة الثانية، وهي مرحلة الضغط الدبلوماسي من أجل بيع السلع الأوروبية في مصر.

أما المرحلة الثالثة فتتمثل في استخدام الضغط الدبلوماسي للحصول على امتيازات المرافق العامة المختلفة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وكان أصحاب هذه الامتيازات يتمتعون بحصانة كبيرة يستمدونها من نظام الامتيازات الأجنبية التي كان يتمتع بها الأوروبيون في مصر. وأظهر مثال على ذلك امتياز حفر قناة السويس.

أما المرحلة الرابعة من الاستعمار فتتمثل في استخدام الضغط الدبلوماسي لحمل الحكومة المصرية على قبول القروض طويلة الأجل بضمان موارد الدخل، وذلك لتمويل مشروعات التنمية من الناحية النظرية.

الدور القيادي لبريطانيا في مصر

وعلى أرض الواقع كان لبريطانيا في المرحلتين الأولى والثانية الدور القيادي.

فقد أبرمت الحكومة البريطانية اتفاقية 1838 التجارية، وقادت الحملة لفرض شروطها على مصر. كما كان لبريطانيا نصيب الأسد في صادرات مصر من القطن والحبوب.

أما في المرحلة الثالثة، فلعب فيها الرعايا البريطانيون دورًا ضئيلًا، فلم تنل الشركات البريطانية أو الأفراد البريطانيون سوى عدد قليل من امتيازات المرافق العامة. أما الامتيازات التي تدر ربحًا أكبر فذهب عدد منها، بما فيها قناة السويس، إلى الرعايا الفرنسيين.

وفي المرحلة الرابعة كان للرعايا البريطانيين دور بارز([3]). فإن أول دين ثابت اقترضه سعيد كان من بيت مال لندني هو بيت فرولنج وجوشن.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

عندما يتدخل الإنسان

سياسة بريطانيا الاقتصادية في مصر في عهد عباس الأول (1848-1854)

 

15946320982132012 - بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري منتصف القرن التاسع عشر

وبتولي عباس الأول الحكم كان عليه أن يقلع عن سياسة الاحتكار، كما كان عليه أن يواجه المشكلات الخاصة بالصناعات اليدوية بعد أن انهارت طوائفها، ولم تستطع الصمود أمام المنافسة الأجنبية.

فالرسوم الجمركية على الواردات كانت منخفضة، والطوائف لم يعد لها أهمية في النهوض بالصناعة، ولاستمرار بريطانيا في محاربتها للاحتكار.

ففي عهده انتهج القناصل البريطانيون، بناءً على تعليمات حكوماتهم، سياسة متشددة فيما يتعلق بالتجارة، وشؤون مصر الداخلية عامةً، فمنذ تدهور نفوذ محمد علي نتيجة معاهدة لندن 1840 استخدمت بريطانيا الضغط الدبلوماسي لجعل مصر مصدرًا للمواد الخام، وسوقًا مربحًا لبيع مصنوعاتها([4]).

تعامل التجار الأجانب مع الحرية الاقتصادية في مصر

لقد طُبقت أسس الحرية الاقتصادية في مصر انطلاقًا من المعاهدات التجارية المبرمة مع الباب العالي، وأصبح الفلاح حرًا في تعامله مع التجار.

ولكن التجار الأجانب استغلوه أسوأ استغلال لجهله بالأسعار الحقيقية للحاصلات التي يشترونها منه، فنهب التجار الأجانب الفلاح المصري وفرضوا عليه عند الخلاف الاحتكام إلى قوانين بلادهم.

ومن الأمور التي كان الأجانب يتبعونها لنهب الفلاح شراؤهم المحصول قبل أن ينضج، وكان هذا يعني خراب الاقتصاد المصري.

بل إن هذا الإجراء رفضه القانون الفرنسي، لأنه يُدخل البلبلة في التجارة، فهذا الأمر ليس حرية تجارية وإنما فوضى تجارية.

عباس الأول حامي الفلاح المصري

وكان عباس هو حامي الفلاح المصري من هذا الإضرار، حيث أصدر قرارًا يقنن طريقة البيع والشراء بعدم اعتبارها إلا بعد نضج المحصول.

عباس بهذا القرار الذي اتخذه ضد مصالح الغربيين، جعلهم يحكمون عليه بأنه لا يحبهم، وأنه متأخر غير متحضر، في حين أنه لم يسع إلا لمصلحة رعيته([5]).

ومما أثار الغرب على عباس أيضًا منعه تصدير الحبوب الزيتية والتي كان لها الريادة في التصدير.

وسبب ذلك أن مصر كانت مقبلة على مجاعة، فمنع عباس في سنة 1853 تصديرها مما أثار احتجاج القناصل الأجانب، خصوصًا القنصل الفرنسي الذي قال بأن ذلك مخالف للقانون وللمعاهدة التجارية التي تخول للتجار الأجانب شراء وبيع أي منتج بدون استثناء.

أما القنصل البريطاني فقد اعتبر أن عباس يريد من وراء هذا القرار احتكار تجارة الحبوب، لكن وكيل عباس بلندن لاركنج Larking استطاع إقناع الحكومة البريطانية بأنه يوجد بالفعل ما يبرر هذا القرار لكي تنخفض أسعار القمح داخل مصر درءًا للمجاعة، وتم التوصل إلى حل وسط يقضي بالحد من تصدير القمح وليس إلغاؤه([6]).

بريطانيا تواصل سياستها الاقتصادية في مصر في عهد سعيد باشا (1854-1863)

محمد سعيد باشاjpg - بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري منتصف القرن التاسع عشروفي عهد سعيد سارت الحكومة على طريق التحول عن نظام الاحتكار، فرغم أن سياسة الحرية الاقتصادية كانت سمة تلك الفترة، إلا أن الدور البريطاني المبكر في اتباع مصر لتلك السياسة كان واضحًا.

وتطلع المستثمرون البريطانيون إلى الاستثمار الصناعي الحديث في مصر، فكانوا يعرفون أنها خالية من المنافسة الصناعية الحديثة بالنسبة لهم، فالطوائف الحرفية إما أن تنتهي أمام تلك الصناعات الحديثة، أو أن تركن إلى الظل مفسحة لهم الطريق.

كما كان من مظاهر تحول الحكومة عن سياسة الاحتكار الاستغناء عن مصانعها.

فتم الاستغناء عن فابريقة الجوخ، ورفت العاملين غير اللازمين، وإرسال المواشي إلى جهات لزومها.

وتبع ذلك إغلاق مطبعة الميري لعدم لزومها نظرًا لكثرة المطابع الموجودة، مع رفت من يعملون بها.

مظاهر تحول الحكومة عن سياسة الاحتكار

ولم يتوقف الاستغناء عن المصانع بالإغلاق فقط، بل كان له أوجه عديدة، منها الانتقال إلى عهدة شخص ما ولو كان أجنبيًا.

وكان المتعهدون، في بعض الأحيان، ينقلونها إلى مكان آخر، كما حدث في عهد سعيد باشا أن انتقلت المدبغة الأميرية برشيد إلى عهدة المسيو براده، الذي بعث بوكيل له لفك الأحجار والآلات ونقلها إلى الإسكندرية لعمل المدبغة هناك.

وكان من أشكال التحول الأخرى: التأجير، فتمت الموافقة على تأجير وابور الكتان بناحية المنصورة إلى رجل من رعايا مصر([7]).

وكان هناك أيضًا أشكال غير مباشرة للاستغناء عن المصانع، كتغيير طبيعة عمل أماكن الإنتاج.

وينتمي كذلك للتحول عن سياسة الاحتكار دخول المشاريع الأجنبية.

الحرية الاقتصادية بمصر

ففي سنة 1856 تقدم مسيو “بتنت” البريطاني الجنسية، بواسطة قنصله، بطلب ليأتي بوابور طحين دقيق خاص به ليعمل في القطر المصري، وطلب ألا يُعطى لأحد امتيازًا مثله.

وأجيب وقتئذ بأن التجارة حرة، ولا يمكن حصر المنافع العامة بشخص واحد، وإنما يُسمح له بما طلبه من إحضار الوابور، بشرط ألا يكون مانعًا لغيره من مثل ذلك الطلب، وهذا الشرط مما يوضح مدى تغلغل فكرة الحرية الاقتصادية بمصر.

وتكرر ذلك الأمر إذ سُمح لبعض التجار الأجانب بشراء أطيان زراعية من الأهالي لبناء وابورات لحلج الأقطان، بشرط أن تكون بعيدة عن مساكن الأهالي، مع معاملتهم بمثل ما يُعامل به الأهالي من رعايا مصر([8]).

هذا، وابتداءً من الحلقة القادمة –إن شاء الله– وعلى مدى عدة حلقات، نَنْفُذ إلى لب السلسلة، وذلك بالأرقام والإحصائيات المأخوذة من الوثائق والمراجع، لبيان كيف أعادت بريطانيا هيكلة الاقتصاد المصري في أواسط القرن التاسع عشر.

يتبع..

المراجع

([1]) عبدالسلام عبدالحليم عامر: طوائف الحرف في مصر (1805-1914)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص ص 191-192.

([2]) جون مارلو: تاريخ النهب الاستعماري لمصر (1798-1882)، ترجمة عبدالعظيم رمضان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003، ص ص 119-120.

([3]) جون مارلو: المرجع السابق، ص ص 120-123.

([4]) عبدالسلام عبدالحليم عامر: المرجع السابق، ص201.

([5]) عبدالكريم مدون: العلاقات الاقتصادية المصرية الفرنسية (1840-1863)، رسالة ماجستير، مودعة بمكتبة الجمعية التاريخية المصرية، 1988، ص ص 158-159.

([6]) عبدالكريم مدون: المرجع السابق، ص 171.

([7]) عبدالسلام عبدالحليم عامر: المرجع السابق، ص ص 194-196.

([8]) عبدالسلام عبدالحليم عامر: المرجع السابق، ص ص 197-199.

د. محمد محمد عبدالحميد

مهندس برمجيات – مدير مشروعات – حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث

مقالات ذات صلة