مقالات

الدرر التحليلية في العقدة الخوجاتية

الدرر التحليلية في العقدة الخوجاتية

قال الحكماء في القديم “نحن أبناء الدليل حيثما مال نميل”. فكان الدليل ولا زال هو الغاية العليا عند الفلاسفة. ولا نجد في هذا عجبًا ولا استغرابًا. وإلا فكيف لنا أن نثبت ما نعتقده إلا بعد البحث عن الحجّة والبرهان عليها. والعقل النقديّ السليم مثل الحصان العربيّ الأصيل لا يروّضه إلا المروّض الحقيقي وفي حالة العقلِ المروّضُ هو البرهان. فهو نافرٌ من كلّ ما يُفرض عليه هائمٌ على غير هدىً بين الآراء والقضايا لا يهدّئ من روعه ولا يُسكت غضبته إلا البرهان اليقيني. بل إنّه قد يسخّر كلّ أهوائه وشهواته لهذا البرهان طالما هو متيقّن من أصالته. فيلفظ كل مأثورات التاريخ وموروثات المجتمع وتقاليد الآباء والأجداد من أجله. ولكن مع اطمئنانه لوجود هذا البرهان فإنّ العين الفاحصة والعقول المتدبّرة لا تنفكُّ عن البحث والتدقيق والتأكد والتشكيك في أصالة هذا البرهان وثباته عند الإشكالات. فنفس العقل الذي يبحث عن الدليل ليسكن إليه ويرتاح عنده بعد الشقاء؛ يبحث أيضًا عن الشقوق والشروخ فيه ليحطّمه ويبحث عمّا هو أصلب منه وأقوى ليكون ملاذًا أفضل وأمتن ممّا سبقه. إنّها نفس النزعة الفاحصة التي ارتقت بالإنسان من الخشب للحجر للصوان للنحاس للبرونز للحديد للصلب للتايتينيوم حتى وصلت للألياف الكاربونية والكفلر التي تزن أقلّ من الصلب خمسين مرة ولكنها أقوى منه بأضعافٍ مضاعفة والبحثُ مستمر.

ولمّا كان مبتغانا هو الحكمة والعقل فجردنا أنفسنا قدر جهدنا من الهوى والغضب لنستقبل الحكمة والتدبّر؛ فإنّنا لم نجد في أنفسنا ضيرًا من قبول كلّ ما هو مستدَلٌّ عليه ببرهانٍ صلبٍ لم نجد فيه من الشروخ والكسور ما يستوجب لفظه والبحث عن غيره. فمهما كانت النتيجة للبرهان شائكةً وغير مستساغةٍ ابتلعناها سعداءَ للنهل من عين الحكمة والتعقل. ولهذا لفظنا قديمنا وحديثنا ممّن لم ينتهج هذا المنهج ولو كان من أقرب الأقرباء وتآلفنا مع من سار على نهج العقلاء ولو كان من ألدّ الأعداء. ولكن هذا لم يكن أبدًا تقليدًا أعمى أو ” العقدة الخوجاتية  ” نتقلّد بها ونتفاخر ونتظاهر بها على بني جلدتنا ليظهر فضلنا عليهم وامتيازنا عنهم. بل كان في الأساس لنوفّق.. لنكون شمعات تضيء في ظلام الجهل.. لتقود وتهدي. ولهذا لم ننبهر بكل ما قدمه لنا العقل الحديث بل وضعناه قيد الفحص كما ذكرنا. ولكنّنا وجدنا في بعض الأوساط النخبوية من تملّكت منهم تلك العقدة الخوجاتية  فأكلوا وبلعوا وشربوا وهضموا حتى أصابهم التسمّم وعسر الهضم فتألّموا منها أيّما تألم. فلما واجهناهم وانتقدنا نهجهم وجدناهم يتشدّقون بالأوهام والأحلام فيقولون هذه ليست آلام عسر الفهم ولكنها آلام الشفاء من أمراض الشرق المشؤومة وأوهامه اللعينة. هذه آلام الدواءِ المرِّ تحلُّ بعدها لذّةُ الشفاء ولكن أنتم لا تفهمون! وهيهات أن تكون هذه الآلام والصرعات كما يصفون. إنّ هذه الآلام هي آلام ضياع الهويّة والشخصيّة وتميّعها. ولنا في هذا دليلٌ وأسلوبٌ في التفرقة بين هذه الصرعات المدمرة وتلك الآلام المداوية.

العلم هو معرفة الواقع لما هو عليه وليس لما يريده الهوى والعواطف. فلو أنك تحبّ أن تصنّف الحيتان من الأسماك فهذا لهواك ورغبتك ولا يعبّر هذا عن واقع الحيتان ولا عن واقع الأسماك. فلو كان هذا الرأي حبّا للأسماك لكان ظلما لها ولو كان لحبّك للحيتان فهو ظلم لها أيضًا. فالعدل في الوصف هو أن تصف الثدييات بالثديياتِ والأسماكَ بالأسماكِ. والعدل هو لو أنّه في المستقبل وجدتَ الدليل (فرضًا) بأنّ الحيتان من الأسماك أن تميل مع الدليل بلا أي مقاومة عاطفية وتعيد تصنيفه كذلك. وهذا هو التجرّد العقلي السليم. ونجد المثالَ الواضحَ والصريح للتجرّد فيما حدث في أغسطس 2006 في قضيّة كوكب بلوتو وشطبه من قائمة كواكب المجموعة الشمسيّة. لم نجد العلماء يتأثّرون بمشاعر الناس أو مظاهراتهم في هذا الموضوع، بل قدّموا في تقرير اجتماعهم تحليلًا علميًّا مجرّدًا يستند لما يجدونه دليلًا على قرارهم. هذا التجرّد ينبغي أن يتوفّر دائما في الباحث عن حقيقة الواقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أمّا أن يُفرض علينا الواقع بسبب الخلفيّة التاريخيّة (الفاتيكان ونموذج المجموعة الشمسيّة القديم) أو تعلّق عاطفي (كما نجده في حالة الشعوب التي ترفض الثورة على الظالم لتعلّقها العاطفيّ به أو ما يُسمّى متلازمة ستوكهولم) أو عصبيّ وعرقيّ (الإيمان بعدم تساوي السود مع العرق الأبيض في أمريكا والغرب حتى قرابة ثمانيّنات القرن الماضي) أو ما إلى ذلك من موانع التفكير أو الأمراض النفسيّة سواء الاجتماعية أو الشخصية وبدون ترجيح بالدليل أو البرهان فهذا لا يقبل به العاقل ولو نُشرَ رأسُه بالمنشار وعُلّقت له المشانق. فالعقل ونزاهته لا يتّفقان مع الشهوة والغضب وتسافلهما.

وهكذا هو حال العقلاء والحكماء تجدهم قد تعتريهم الأمراض والأوجاع الجسديّة ولكن يضحّون بكلّ هذا في سبيل شفاء عقولهم وخلاصها. ولهذا تجدهم كلّما مرّ عليهم الزمن كلّما ارتقت عقولهم وزادت حكمتهم حتى لا تكاد تجد ما تكيل به من نفائس الأرض كلمة واحدة من همساتهم وعباراتهم. وذلك لأنّهم يعالجون عقولهم وأنفسهم بالإكسير الحقيقي وينيرون بصيرتهم بحجر الفلاسفة الأوحد وهو البرهان. فهذا يجوز أن يقال عليه بحقٍّ الشفاءُ والراحةُ من بعد مرارةِ التداوي والعلاج. هؤلاء كسروا أجسادهم وعبّدوها للعقل فارتاحت عقولهم وتسامت لتصل للسعادة والتكامل الحقيقي.

أما الحال الآخر.. فهو الحال الأول معكوسًا. فهؤلاء غرّهم الخواجة بحِيَله وغرّتهم الدنيا بزخرفها وايحوا من أصحاب العقدة الخوجاتية  . فلم يُمحَّص في أصل فكرهم ولم يُميَّز الصالح من الطالح. كان كلّ مبتغاهم أن يصلوا لما وصل إليه وأن يعيشوا في رغداء مثل رغدائه ونعيمٍ كنعيمه. وقد غيّبت عن المصاب  بمرض العقدة الخوجاتية  أهواؤه كلَّ العيوب والنقص الموجود في فكره كحال أيّ فكرٍ بشريٍ آخر. فتجاهل كلّ التحذيرات التي لم تطالبه إلا بالـتأنّي والنظر بعين الفحص والنقد قبل القبول والتسليم. ولكنّه لم يرَ في حياة الخواجة غيرَ كلِّ كمال. وهذا لا يغاير واقعهم فلو أنّ الكمال الذي تبحث عنه هو كمال الجسد فبالفعل ستجده عندهم في أوج مجده واكتماله. فالطعام شهيّ ومطهيّ على أرقى الوصفات والطرق والشراب محلّىً وممسك بأحلى الأذواق والنكهات ناهيك عن باقي الكمالات.

أمّا لو كان غرضك العقل وكماله فحالهم كما ذكرنا مثل غيرهم مجتهدون في دنيانا يراقبون ويلاحظون ويدوّنون ويحلّلون ويستنتجون فيصيبون ويخطئون. ولكنّ الإنسان في حالة الضعف والاغترار بالدنيا التي وصل لها لمّا شاهد دنيا الغرب مستعدّلأن يفعل كلّ ما يُطلب منه من أجل أن يحصل على بعض ما يراه من ملذّات. فلو فرضنا أنّ مغرضًا أو جاهلًا ابتزّه فوضع ما يبتغيه في مقابل ما يعتقده لن تجد الإنسان يقاوم. فالغضب لن يعمل إلّا في حالة منعه وعرقلته عن تحصلّه على الدنيا وشهوته لن تطلب ملذّات العقل والمجرّدات بعدما رأت من ملهيات الدنيا. ولذلك فإنّ ما يحدثُ للعقل بعد ذلك طبيعيٌ وهو تقزّمه وتفتّته أمام الزحف الهائل للغضب والهوى عليه فلا يقاوم. وأمّا في الظاهر فإنّ الإنسان في مذهبه هذا يتنازل عن هويته وتكوينه الذاتيّ الذي يميّزه عن غيره. هذه الهويّة ليست القوميّة أو المذهبيّة أو العرقيّة أو الجنسيّة بل إنّها هويّته العقلانيّة. وهي أخصّ خصوصيّات هويّته التي تحلّق وتدور حولها بقيّة الهويّات التي تعرض عليه دون أن تشكّل ذاته.

إن في ضياع الهويّة العقليّة للإنسان أثارٌ نفسيةٌ مؤلمةٌ وبالغةٌ. فالنفس عندما يضحّى بها على مذبح الجسد يجد الإنسان نفسه بعدها غارقًا في ملذّات الجسد والتي بطبيعة الحال تفسد الجسد وتسرع من معدّل استهلاكه. فالجسد بماديته مثله مثل سائر الماديّات يتهالك بالتقادم أو بالاستخدام ومعدّل تهالكه أسرع بالاستخدام المكثّف ناهيك عن الاستخدام الخاطئ. ومحتوم عليه الفناء فلا خلود له سواء حملت عليه أو تركته. بينما المجرّدات مثل العقل عكس الماديّات فتهالكه يكون بالإهمال والهجر وأمّا خلوده فبالإعمال والاستخدام. فنرى أنّ هذا الشخص يفني ما يحتمل الخلود فيما هو محتومٌ فنائه. ويستخدم المحتومَ فنائه بصورة تسرّع من فنائه. وهذه الحالة هي السعادة المادية الزائفة التي قطعًا لا تورّث إلا الألم الأبدي الحقيقي. ولهذا فلا نعجب من ظهور الأمراض البئيسة التي يعضل علاجها خاصة فيما يتعلّق بالنفس والعقل. على عكس من أفنى ما هو محتوم فنائه بنحو صحيح ليخدم ما هو محتمل للخلود بشرط استعماله. فنجد عقله يافعا شابا مهما مرّ عليه الزمن. فيفرز وينتج ما يظهر أثره سواء على الماديات (بالتجربة والحس) أو المجردات (بالتعقل والسلوك والملكات).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولو أنّ هذا الشخص اتّعظ وحلّل قبل أن يندفع وينطلق لعَلِمَ أنّه ما كان لينبهر بالـ”خواجة” ويصاب بمرض العقدة الخوجاتية  لولا تعقّل ” الخواجة ” وتدبّره على نحو من الأنحاء أو شكل من الأشكال (تجريبيّا أو عقلانيّا). وأنّه لو أراد فعلًا مشابهته ومماثلته في نتائجه فلا ضير ولكن عليه أن ينتهج النهج السليم لذلك. فالحكيم يقول “علّمني الصيد خيرًا من أن تعطيني كلّ يومٍ سمكة”. ولا حرج من أن تتبادل الثقافات المشتركات الإنسانية والعلوم التكنولوجية بينها طالما لم تتخذ ذلك جسرًا لتحقن في جسد الشعوب المستضعفة وجهات نظرها في التفكير والرؤى الكونية وتفرضها عليها دون دليل. إنّ مكان تداول تلك الأفكار وتبادلها هو أصرحة الفكر والثقافة وفق ضوابط المنطق والتحقيق والبرهان. لا على طرقات الأسواق وصفقات الموانئ وموائد الطعام. كما أنّ للتبادل التجاري مكانه في الأسواق والموانئ. فلكلّ مقامٍ مقال.

وعليه فمدارس الحكمة والعقل لا ترفض الغرب كما يُشاع وترى فيه كلّ سوء. ولكنّها تحلّل الأثمان للصفقات وتقيّمها. فهل يكيل العقل بالملذات المادية؟ وهل يجوز أن نضحّي بالجسد من أجل العقل فنجحفه حقه؟ وهل يجوز الخضوع لقوة خارجيّة تأبى إلّا أن تحصرنا في هذين الخيارين دون غيرهما؟ الغربُ اليومَ لا يقول لنا خذوا ماشئتم واذهبوا في طريقكم. الغرب اليوم يقول لنا في سياسته الخارجية إمّا العقل وإمّا الجسد. وهذا هو أصل الاستكبار والطغيان والظلم. فمن حق الإنسان أن يتمتّع بالوجبة المتعادلة من المكوّنين معًا. فيا أيّها التقدّمي والنهضوي والتطوّري نحن لا نرفض التطوّر ولكن نرفض أن يكون ثمن ملء بطوننا وفروجنا هو تفريغ عقولنا ومحتوانا الفكريّ. ونحن نقول ببساطة هذا ظلم واستبداد ولابدّ من حلًّ آخر، حلٍّ يخضع للعدل والمنطق. حلٍّ تنعم فيه الشعوب حقًّا بالحرّية كلّ الحرّية في العقل والجسد لا في واحدة دون أخرى. وإن لم يكن هذا الحلّ موجودًا عمليًا لكنّه موجود ومؤسَّس له نظريّا وفق منهجٍ وفكرٍ مبرهنٍ عليه. هذا الحلّ لو تحقّق عمليّا سيكون هديّتنا لشعوب العالم وأجيال المستقبل. يشكروننا عليه ويمتنّون لنا من أجله. قد يحتاج تحقيق هذا الحلّ في الواقع لتضحية بعض الأجيال ولكنّها ليست من أجل سرابٍ أو خيالٍ أو وهمٍ. وإنّ تردّدنا عن تحقيق هذه الحكومة العقليّة العادلة بعد علمنا بها ودراستها هو إغراضٌ وطغيانٌمنّا على أنفسنا وعلى البشريّة كلّها. فلا تستتر وراء ستر التقدّم والتطوّر والتكنولوجيا فإنّ هروبك لجحيم الانسحاق الماديّ هذا الجحيم الأبديّ أهون عليك من التضحية في سبيل خير البشريّة والحقّ والعدل. تلك القيم التي عوّدكم الغرب الفاسد أن تبيعوها بأرخص الأثمان مقابل لذّة الجوف المادّي الذي لا قاع له.

وفي النّهاية فإنّ أهل الحقّ (هذا الحقّ المبرهن عليه) لا يستوحشون طريق الحقّ لحدّة شوكه أو وحشة وحدته. بل يأتنسون بالحقّ والعدل ويدعون إلى تلك القيم السامية بقلوب رحيمة حتى يحقّقوا الحلّ الحقيقي لمعاناة البشر. وأما السعادة الحقيقيّة فإنّه يَسعَد كثيرًا من يَسعَد أخيرًا.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة