إصداراتمقالات

الحرية من المنظور الإسلامي … ما هو القيد الذي يُحرر الإنسان من كل القيود؟

على مدار تاريخ البشرية الطويل قامت الحركات والثورات والاحتجاجات رافعةً شعار الحرية، ومطالبةً بها وباذلةً في سبيلها الأرواح وكل ما هو نفيس، فيا ترى ماذا تعني الحرية أصلًا؟ وما الذي يجعلها قيمة يتسابق في سبيل الدفاع عنها المدافعون؟ وهل توجد حرية مطلقة؟

هل الحرية المطلقة ممكنة؟

إذا تعاملنا مع الحرية باعتبارها التخلص من كل قيد، فإن الوصول لمعناها يتطلب بدايةً تعريف القيد وتحديده! ثم البحث في هل فعلًا يمكن التخلص من”كل” قيد؟ والقيود تتعدد فتشمل ليس فقط القيود الظاهرة الواضحة كحاكم ظالم مثلًا، أو مدير متسلط في العمل، أو قوة استعمارية يرجى زوال قبضتها المسيطرة، أو مدرس يفرض سطوة ما على تلامذته، ولكنها تمتد لتشمل حتى النوازع الداخلية والرغبات والشهوات.. ألا يعد الشعور بالجوع الشديد قيدًا “يجبر” الإنسان على تأجيل ما كان بصدد فعله حتى يسد جوعه؟ وينصرف ذلك بالضرورة على غيره من الشهوات بل حتى على عملية التنفس؛ فهل يتنفس الإنسان باختياره، أو بإمكانه التوقف عن التنفس لكونه شيئًا يتم دون إرادة مباشرة من الإنسان؟ بالطبع لا، فحتى وإن كان التنفس أو الأكل أو غيره باعثه ليس إرادة الإنسان واختياره المباشر فإنه لا يملك التوقف عنه لكونه يتصل مباشرةً بحفظ حياته.

الحرية من منظور الإسلام

ومن ثم يتبين لنا أنه لا يمكن للإنسان أبدًا التخلص من “كل” قيد، وأنه لا يمكن أن توجد أبدًا حرية مطلقة، وإذا كانت القيود لا محالة محددة لحركة الإنسان وأفعاله، فإنه يمكننا تعريف الحرية”إن جاز لنا” بأنها اختيار الإنسان للقيد المناسب!  وقد أعلن الإسلام القيد الذي يفرضه على الإنسان حين صدح بـ”لا إله إلا الله” فحرر الإنسان من كل عبودية ومن كل قيد سوى الإله الحكيم العادل الذي فاض عليه بالوجود ومنحه فرصة للكمال والوصول للسعادة، فحرر الإسلام الإنسان أولًا من قوى نفسه الشهوية والغضبية والتي إن سيطرت عليه أشاع في الأرض الفساد وفي نفسه قبلًا وأطلق العنان لجشعه وطمعه فينتهي به المطاف ظالمًا لغيره مغتصبًا لحقوقهم وظالمًا لنفسه بصرفها عن أوجه الخير، ودعاه إلى إحكام سيطرة عقله عليها فيحقق إنسانيته بذلك ولا يتسافل إلى مراتب تكون فيها الغلبة للنوازع المادية، وكذلك حين أعلن أنه لا إله إلا الله فقد أسقط عن عرش الحكم كل حاكم وكل طاغوت وكل مالك، فلا مالك إلا الله ولا حاكم إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا آمر ولا ناهي إلا الله، وكل وجود منه وإليه، وكل فضل منسوب إلى كرمه،وكل جود منسوب إلى عطفه، فهو وحده الذي يمتلك ليفيض بما يملك، وهو وحده الذي يعلم ليأمر وينهى، فهو مصدر السلطات جميعًا.

وبذلك أزال الإسلام كل العراقيل التي كانت تقيد الإنسان في مسيره، وارتضى له القيد الذي يوافق فطرته والذي يكفل له تحصيل كماله والسعادة في دنياه وأخراه، وحدد له هدف مسيرته الكبرى في الدنيا بالتشبه بأخلاق الله، والسعي نحو منبع الخيرات والكمال المطلق، والجد في طلب القرب منه متحررًا من كل ما قد يقيد حركته، فهو يسعى في مجال نفسه ويهذبها بالعلم والكمالات الأخلاقية، ويسعى في مجال العالم بإقامة العدل ورفع كل ظلم عن المظلومين، ودفع أي جور وأي انحراف عما يرتضيه الله لهذا الوجود من الخير والكمال، وقد بعث الله للإنسان من يهديه بهديه ويقوده في مسيرته وسعيه نحو الكمال المطلق، أنبياء الله ورسله المعصومين القائمين على إرشاد الناس لما هو خير وصلاح، لما به يكون طريق الله.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حرر الداخل أولاً

 وعلى ذلك يمكن تبين الفرق الجوهري بين ثورات الأنبياء والثورات التي قامت بها الحركات الأخرى في التاريخ، فالدين قام بتحرير الإنسان من الداخل أولًا، بتحريره من نفسه وسمى ذلك بالجهاد الأكبر، ثم حرره من الطواغيت والظالمين وسمى ذلك بالجهاد الأصغر، وبذلك فثورات الأنبياء لم تضع مستغلًا جديدًا مكان مستغل سابق فقد حررت الإنسان من بواطن الاستغلال في نفسه ودفعته نحو الترقي والتعالي على كل ما تمثله النوازع المادية والشهوية من تسافل، فهي بذلك لم تكتف باستبدال الرأسمالي مكان الإقطاعي، والبروليتاريا مكان الرأسمالية إنما قامت بتصفية الاستغلال وألوان الظلم البشري نهائيًا، وجذبت إليها كل المستضعفين والمحرومين ودعتهم ليكونوا أئمة وليكونوا الوارثين بعد تحريرهم داخليًا وخارجيًا.

قال تعالى:” ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين” القصص 5

فإذا كنت لا محالة مقيد، فأحسن اختيار القيد تكن حرًا!

 

اقرأ أيضا … الملبس والحرية
اقرأ أيضا … أنا ومن بعدي الطوفان

اضغط على الاعلان لو أعجبك

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة