قضايا شبابية - مقالاتمقالات

الجامعات العربية بين شأنين: الافتراض والواقع

مدارات الربح والخسارة

ثمة عبارة وضيئةٌ صاغها بعبقريةٍ فذَّةٍ وعمقٍ نادرٍ، القائد والسياسي الألماني المخضرم “بسمارك” (1815م – 1898م)، رئيس وزراء مملكة بروسيا وموحد الولايات الألمانية ومؤسِّس “الرايخ الألماني الثاني”، مفسِّرًا بها حيثية نصرٍ عظيمٍ أحرزته الأمة الألمانية على فرنسا في حربها الضروس معها، إذْ قال حاسمًا: “إنَّ المعلم الألماني هو الذي مكَّن الألمان من احتلال باريس وليس الجيش”.

نظم “بسمارك” عبارته في سياقٍ مُقَارِنٍ بين قوتين: أولهما قوة ناعمة تتماس مع العقل وآليات اشتغال الذهن البشري، عبر معطيات العلم والمعرفة ممثلة في التعليم الذي يمثِّله المعلم الألماني، وثانيتهما قوة عسكرية معرَّاة أو خشنة يمثِّلها الجيش الألماني.

لئن كان ظاهر الأمر في الانتصارات العسكرية أنها تُنسب عادةً إلى الجيوش وقادتها الذين يرجع إليهم تخطيط مسارات التاريخ، كونهم المعطى القوي الذي باشر المعركة من كثبٍ، فإنَّ المستشار الألماني ارتأى مشيئةً أخرى حَيَّثَ فيها النصر القومي بفاعلية المعلم الألماني، الذي شكَّل تلك العقول المتفوقة في ذاكرتها الجمعية العامة، إذْ أمكن له –المعلم– عبر فعل تعليمي مثمر أن ينجز سياقًا عقليًا حيويًا، وأن يُضْفِرَ فيه ذلك المخيال الجمعي المنحاز بوعيه المتقدم نقدًا وإبداعًا، بعيدًا عن التقليد والشبيه، ومفتونًا بالغلبة والامتياز، والتفوق على الآخر الأوروبي في جواره الجغرافي، أو الآخر الإنساني في شيوعه العام.

بيدَ أنَّ أهم ما في فحوى العبارة البسماركية في سياقنا هذا، هو انفتاح غورها على سؤال التعليم في أفقه العام، وعلى حتمية الاستبصار الوئيد لعلاقته ببحث الأمة عن ذاتها، وضرورة تعيين هوية هذه الذات، وأهمية تحديد موقفها من القضايا الكِيانية التي تعتري سبيلها، وعن كُنْه الوشائج التي تصل التعليم بالمشروع النهضوي في خصائصه التنموية، والفكرية، والثقافية، والحضارية.

أي إننا وجهًا لوجهٍ إزاء التساؤل حول الجامعة بوصفها ذروة سنام الشأن العلمي، ومعقل الأفكار والمعارف والرؤى، وبيت الخبرة والتجارب، ومدى حيوية الأثر التعليمي في تشكيل الوعي والذاكرة الجمعيين، بل دوره في صناعة سياقٍ معرفي، وفكري، وثقافي، واجتماعي، واقتصادي قادر على بلورة هويةٍ مستقلةٍ لأمةٍ منمازةٍ من الأغيار، وهذا عينه ما ينبثق منه سؤال هذا المقال عن الجامعات العربية في شأنيها: الافتراضي، والواقعي، وعن مدارات الربح والخسارة الناجمة عن كليهما، إنَّ تأمل السؤالين يفضي إلى أمرين في شأن الجامعة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الأول: الشأن الافتراضي

الجامعات العربيةلا شكَّ أن للجامعة في تاريخنا العربي حضورًا مائزًا منذ أقدم جامعاتنا، ممثلة في الزيتونة بتونس (737م)، والقرويين بالمغرب (859م)، والأزهر بمصر (972م) وهلمَّ جرًا، وصولًا إلى جامعات القاهرة، والخرطوم، وبغداد، ودمشق، والجامعة الأمريكية، إلخ، لقد أفلحت الجامعة في تحصين مجتمعاتنا العربية بالعلوم والمعارف، فشكَّلت بذلك قلاعًا حصينةً وفعل مقاومةٍ أمثل ضد الغزو، والخرافة، والجهل، والرجعية، والتخلف.

غير أنَّ هذا السياق الحيوي الذي صنعته الجامعة في العالم كلِّه –وليس مقصورًا علينا وحدنا– أسَّس لمخيالٍ افتراضيٍّ مكينٍ، ينبغي أن تكون عليه الجامعة في علاقتها الحيوية بسؤال التعليم، ومدى تشابكه مع أسئلة كيانية أخرى أبرزها أسئلة الوعي، والثقافة، والفكر، والهوية، والنهضة، والحداثة، والاستقلال، والتنمية، أملًا في ابتناء مشروع حضاري نموذجي يستلهم روح العصر، ويسهم بفاعلية في منجزاته العلمية والتكنولوجية التي أحدثت ثورة رقمية بددت قيمة المكان، وخدشت على غير حياءٍ ناموس الحدود، وهتكت في شَرَهٍ قداسة سيادة الأوطان.

من هنا نبتغي مقاربة الشأن الافتراضي للجامعة في دورها الشائك بصناعة الإنسان، وقيادة قاطرة التنمية المجتمعية بمعطياتها المختلفة، ذلك أن التصور الافتراضي للجامعة، حالَ تحققه، هو ما يمثِّل مدار الربح بالدلالتين: المعنوية، والمادية معًا.

الجامعة ودورها التنموي في مجتمع المعرفة

في هذا الصدد، يسهل علينا إنجاز تصور افتراضي عن الجامعة مؤداه تلك المؤسسة التعليمية الأكاديمية، التي ترتكز رسالتها إجرائيًا على محاور ثلاثة: التعليم، البحث العلمي، خدمة المجتمع.

غير أننا نبادرك بالقول: إن هذا محض قيدٍ أو وصفٍ إداري لتلك الكينونة التي تربو روحها على هكذا وصفٍ محايدٍ، الشأن الذي يقتضينا الإفصاح عن رؤية أخرى تنطلق من دلالة الجامعة المأخوذة –أصلًا– عن الكلمة اللاتينية (universitas)، التي تعني الكل أو الجماعة.

دلالة الجمع هنا فحواها ابتناء معرفة علمية صحيحة ومتوازنة حول كافة الموضوعات والقضايا المتعلقة بشؤون المجتمع والحياة، أي إن الجامعة في جوهرها “قبو للمعرفة”، تنتجها، وتنوِّعها، وتراكمها، وتمحِّصها، وتدلل على صحتها بالحجة والبرهان، وتعمل على توليدها في سياقٍ يعي الحاضر، ويستلهم آفاق المستقبل، وتعمد عن قصد إلى نقلها إلى المجتمع في أجياله المتعاقبة.

الجامعة –إذن– مستودعٌ للعلوم، وبيت خبرة نوعي، ومركز للتحليل واستخلاص التنبؤات المستقبلية، إنها على الإجمال مشروع حضاريٌّ يقود ركب الحياة في المجتمع، مشكِّلًا قلبه النابض وعقله الحيوي الناقد، والمبدع، وذاكرته الأمينة، وبوصلته الهادية، ورمانة ميزانه الدقيق، محددةً القيم التي ينبغي أن تسود بعد فرزها وتمحيصها، والأهداف المنشودة عبر مراكز الدراسات وصنع القرار.

اقرأ أيضاً: أستاذ الجامعة بين “إنتاج المعرفة” و”نقل المعرفة”

جوهر رسالة الجامعة

به ندرك يقينًا أن شأن التعليم الجامعي ليس محض التأهيل المهني، ومنح الشهادات المسوِّغة لاكتساب المناصب الإدارية في الدولة، وإنما الجامعة في جوهرها فوق ذلك بكثير، إذ تغدو في تجليها الحقِّ أمثولةً للمشروع الحضاري الذي يقصد عن وعي إلى نقل المجتمع من حال التخلف الفكري والحضاري، ومن التراجع التنموي إلى حال أخرى قوامها جدارة الحضور في أفق العصرنة، متشبعًا بروح الحداثة، ومشاركًا في صنع معطياته الحضارية بما تنطوي عليه من معارف، وعلوم، ورؤى، وفلسفات، وأطاريح فكرية سجالية خصبة وثرَّة، إنها على الإجمال، كلمة السر في حيوية عقل المجتمع ساعيًا إلى الرفعة والتقدم.

من هنا نفهم عميقًا مقولة “كابيل سيبال” الشهيرة: “إذا أردت أن تبني لسنةٍ ابن مصنعًا، وإذا أردت أن تبني للحياة فابن جامعةً”، وهذا عينه ما ينقلنا إلى جوهر رسالة الجامعة في عرف المشروع الفذِّ الذي قدمه طه حسين في كتابه المهم “مستقبل الثقافة في مصر”، إذ يؤكد أن “الجامعة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفًا، بل يعنيه أن يكون مصدرًا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرًا، بل يعنيه أن يكون منميًا للحضارة، فإذا قصَّرت الجامعة في تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين، فليست خليقةً أن تكون جامعة، وإنما هي مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة، وما أكثرها، وليست خليقةً أن تكون مشرق النور للوطن الذي تقوم فيه، والإنسانية التي تعمل لها، وإنما هي مصنع من المصانع، يُعِدُّ للإنسانية طائفةً من العلماء ومن رجال العمل، محدودة آمالهم، محدودة قدراتهم على الخير والصلاح”.

دور الجامعة في المجتمع

إنَّك لتستطيع أن تقول مطمئنًا عن الجامعة المفترضة إنها فضاء بالغ الخصوصية لصياغة الإنسان، وتثقيف العقول، وصناعة الأفكار، وخلق الذوات الحُرَّة الجريئة، والأنفس المحررة، ومدّ المجتمع بكوادره القيادية، والمهنية، راسمةً له أُطُرَ مشروعه النهضوي، وأفقه الحضاري، وسُلَّمه القيمي، ومنظومته الخلقية…

الجامعة الحق فضاء للإنسانية، والمواطنة، والديمقراطية، والحوار، والحقوق، والعدل، والنزاهة، والكفاءة، ومدارٌ للحرية التي تؤمن بها قيمةً عليا، وتمارسها في واقعها عملًا وإجراءً، وتعمد –عن قصدٍ– إلى غرسها في طلَّابها، وهذا مغزى قول طه حسين: “إنَّ الجامعة تتألف من طالبٍ حُرٍّ، وأستاذٍ حُرٍّ”، وهو الشأن الذي كفل لها حُرْمةً، وحدد لها حَرَمًا ذا هيبةٍ وقداسةٍ يكتسبهما من قدسية العلم، ورفعة المعلم، لذلك أخذت المدرسة التي هي بمعنى الجامعة، موقع الأمير في فلسفة ميكيافيلي القيادية والسلطوية، “فكما أنَّ الأمير قادر على توليد إمارة جديدة من إمارة غائبة” فإن المدرسة/ الجامعة قادرة على تخليق مجتمع جديد، وعيًا، وإرادةً، وفكرًا.

ذلكم هو وعينا الافتراضي بالجامعة، وما ينبغي أن تكون عليه، وهو مدار الربح معنويًا وماديًا، فهل هي اليوم كذلك؟ لا، الشأن الذي يبعث على الأسى، ويحمل النفس على الالتياع حتى لتكاد تذهب عليه حسراتٍ، لذلك ننتقل إلى مقاربة واقع الجامعة وما ترتب عليه من خسائر أليمة.

اقرأ أيضاً: شبابنا الجامعي العربي الحائر بين الحرية والتحرر

الثاني: الشأن الواقعي

الجامعات العربيةينبئنا البعد الكمي للجامعات العربية قياسًا إلى عدد السكان بمؤشر خطير على فقر حضورها في المجتمع العربي، إذ إن عدد السكان العرب عام 2017م 359 مليون نسمة، وعدد الجامعات يزيد قليلًا على 700 جامعة، في حين أن عدد سكان الاتحاد الأوروبي عام 2017م 505 ملايين نسمة وعدد الجامعات ومؤسسات التعليم العالي 3300 مؤسسة.

غير أن الأدهى والأمر في شأن الواقع الأليم للجامعات العربية هو هزال الحضور النوعي لها في معترك المنافسات العلمية العالمية، ولعلك تعلم مواقع معظم جامعاتنا العربية –رغم عراقة بعضها– على سُلَّم الجامعات الأفضل في العالم، حتى لتكاد تصيبك الغصة تلو الغصة كلَّ عام جراء الانحدار الذي ننجرف إليه دون هوادةٍ، أو محاولةٍ حثيثةٍ لـ”فرملة” هذا التردي نحو الحضيض.

أسباب تراجع الجامعات العربية

إنَّ تأمل هذا الواقع يُلزم بالنبش في العِلَلِ الدفينة التي تفعل فيه فعل السوس في العظم، حتى ليودي به إلى الوهن والكسر، وكأن ثمة خطة خبيثة لتدمير حصوننا من الداخل، حتى يسهل الحد من وثباتها، ويُمكِّن من الهيمنة عليها. في هذا الحيز من تأمل الأسباب، يبرز ضعف الإمكانيات المادية لجامعات الدول العربية الفقيرة، في حين تفلت منه جامعات الدول النفطية، ثُمَّ توسيد الأمر القيادي والإداري إلى غير أهله، حيث تقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة، وكثرة أعداد الطلاب، وقلة الكفاءات، وتخلف البرامج العلمية، والخطط الدراسية، وارتكاز فلسفة التدريس على الحشو والتلقين، والنسخ، والحفظ، والاستظهار، وغياب العقل النقدي، وانسداد أفق التساؤل، والجدل، والتفكير الابتكاري، واضمحلال الحرية الأكاديمية، وفقدان شهية النقاش الحرِّ الجريء، إلخ.

غير أنه في هذا الخضم المتراكم من ظلمات الضعف، يظل العامل الأكثر تأثيرًا في خمول أثر الجامعة، هو الفعل السياسي عبر تجليه الناصع في الممارسات الأمنية التي تُقَزِّمُ حريات الجامعة، وتجعل استقلالها المزعوم غير ذي جدوى، فتحرمها من قاماتها السامقة، وتفقرها باستلاب خيالها الخلاق، ونفي أو إزاحة عبقرياتها الاستثنائية الفذة.

من هنا تكاد جامعات عربية عديدة تتحول إلى محض “مدارس” يقوم على شأنها موظفون محدودو الخيال لا علماء أصحاب رؤًى وفلسفات، ومشروعات علمية وفكرية تتصل بمشروع نهضوي أكبر ينضوي على الدولة كلِّها، ويُشع في أصداء أمة بأكملها، وتلكم الشؤون الفاجعة، هي ما يجعل حسابات الخسارة في جامعاتنا العربية كارثية، لعلَّ أهم تجلياتها ما يأتي:

أولًا: المدار المهني

تقع جامعات عربية كثيرة فريسةً لأحابيل أُغلوطة شائعة متنها الرئيس مقولة: “سوق العمل”، أي إن الجامعة منوطٌ بها ضمن رسالتها، تأهيل الخريجين مهنيًا ليكونوا كوادر ذات كفاءةٍ عاليةٍ تسد حاجة المجتمع في وظائفه المختلفة. والحق أنَّ هذا قولٌ لا نماري فيه، بل نقرُّه ونؤكد عليه.

لكن مكمن المغالطة في هكذا مقولةٍ، هو أنها بعض الحق وليست الحقَّ كلَّه، إذ لا ينبغي لنا أن نتوهم أن رسالة الجامعة مقصورة على تأهيل خريجيها لسوق العمل فقط، وأن تُجند كافة معطياتها العلمية والبشرية لإنجاز هذه المهمة المهنية التي لا تتجاوز 25 في المائة من رسالتها، هذا ناهيك بمدى تحقق هذه الغاية من عدمها، إذْ أنت حالَ تقريك الواقع المجتمعي العربي، تؤلمك الكوارث المهنية التي تتوالى على مسمعيك تَترى، حتى لكأنها الطامة الكبرى، وذلك من قبيل أطباء لا يُحسنون تشخيص مرضاهم، بل يفتحون بطونهم لإجراء عملياتهم الجراحية، ثم يغفلون عن المشارط والمناشف في جراحهم، ولقد أعلم أنك لتُفجع بالكباري التي تنهار بعابريها، والأبراج السكنية التي تودي بساكنيها، فتتساءل عن كفاءة الهندسة التي أهّلت أولئك المهندسين الذين شيدوا هذه، وبنوا تلك، وليس بعيدًا عن هذا إشكالات القضاء الواقف والجالس، في منازعات الناس التي تغص بها الساحات الإعلامية، حتى لتعتريك الدهشة عن آلية إصدار أحكام كــ”تلك التي تستك منها المسامع” على حدِّ قول النابغة الذبياني في بيته الشهير:

أتاني، أبيتَ اللعنَ، أنَّك لُمتني     وتلك التي تستكُّ منها المسامعُ

ضعف الأداء التدريسي لأعضاء هيئة التدريس

لعلك ترى أن هذا الذي ذكرتُ لك في هذا المدار كثيرٌ مريرٌ، وهو كذلك فعلًا، وبخاصةٍ إذا عمّمته على بقية التخصصات، لكن الأكثر مرارةً منه، هو أن دبَّ الضعف والهزال المهنيان في جسد الكادر التدريسي في الجامعة، حتى شاع فيهم، واستشرى بينهم، فأصبحت ترى من بعضهم العجب العُجاب.

ترى ثلةً من أساتذة النحو يدرِّسونه لطلابهم باللهجة العامية، عاجزين عن استخدام الفصحى، وتقديم أنموذج لغوي أمثل في فن تطبيق قواعده في مهارة ويسرٍ، الشأن الذي تراه أليمًا في كثيرٍ من المحاضرات العامة التي يعجز أصحابها عن بداهة الارتجال، ومتعة الكلام المسبوك المحبوك بحكمةٍ واقتدارٍ، ليس أدلَّ على ذلك من فاجعة البرنامج الأدبي الشهير القائم على “إمارة الشعر” في إحدى الدول العربية.

الاستغلال المادي من المؤسسات الغربية

كما ترى القانوني القائم على إصدار أحكامٍ تتعلق بالحق والباطل، وتمس مباشرةً حياة الناس وجودًا وعدمًا، كما تمس أخصَّ مصالحهم، وهو عييٌ لا يكاد يُبين، ليس بمقدوره تصحيح آية من كتاب الله تعالى، ولا نُطْق حديث من أحاديث رسوله صلَّى الله عليه وسلم…

هكذا دواليك تنكشف لك الفجائع في التخصصات كافة إلَّا ما رحم ربي! إنه لمن نافلة القول، إشارتنا اللازبة إلى ما تتهوَّسه جامعاتنا في الحقبة المتأخرة من تاريخها، من شكلانية مقيتة تتجلى في هيئة جودةٍ، أو مقتضيات اعتمادٍ أكاديمي يُنفق عليه طائلٌ من مالٍ بسخاءٍ لا يبرأ من هدرٍ، كما لا يبرأ من استغلالٍ مادي من قِبَلِ المؤسسات الغربية القائمة عليه، كما أن هجمةً غير رشيدةٍ يقوم بها علماء التربية في بلادنا مستنسخينها عن الآخر بحذافيرها، عامدين إلى إلباسها الجسد الأكاديمي عُنْوةً، الشأن الذي أحكم مخالبه حول الفكر الأكاديمي، فتحولت الجامعات إلى مدارس ثانوية ذات ضحالةٍ وتسطحٍ، وهو ما أسهم عميقًا في الخلل المهني على نحو ما بيَّناه.

ثانيًا: المدار البحثي

في هذا المضمار الذي هو من لبِّ رسالة الجامعة، تبدو الخسارة فادحةً، إذ الرسائل كثير منها عديم القيمة، والبحوث منسوخة، مسلوخة بفجاجةٍ، والمناقشات مظهرية احتفالية بلا وازعٍ من جدٍّ أو جذوةٍ من ضميرٍ، والترقيات حدِّث فيها بلا حرج، إلخ، إن الخلاصة هي هشاشة البحث العلمي، وبُعْده عن مشكلات الواقع وقضايا المجتمع، لذلك تتموضع الجامعة في برجٍ عاجيٍّ، وكأنها تعمل في عزلةٍ بعيدًا عن حاضنتها المجتمعية التي تقوم فيها، وينبغي أن تعمل لها رفعةً، وتقدمًا.

ثالثًا: مدار بناء الشخصية

ليس صوابًا القول بأن الجامعة مسؤولة عن سدِّ حاجيات سوق العمل فحسب، وإنما الأهم منه، أن يُناط بها صناعة الشخصية في سياقها المجتمعي بسويَّةٍ وإتقانٍ. إنَّ الجامعة ليست مصنعًا لخلق المهن وملء كفاياتها، وإنما هي فضاء رحبٌ لتشكيل الشخصية الواعية في كمال فكرها، وتمام أمرها، ورشد ثقافتها، ورقي تحضرها، تلك الشخصية التي ننشدها في مجتمعنا الحديث قادرةً على الفهم السليم، والتصور الدقيق، والحكم القويم، شخصية ديناميكية تُغرم بالسؤال، وتُفتن بالحوار الحرِّ البنَّاء، وتتغيا المغامرة، وترتاد سُبُلَ الإبداع والتميز، مدركةً تفاصيل واقعها، وقضايا أمتها، آخذةً منها مواقف صحيحة دون زيفٍ أو مزايدةٍ، شخصية تقدس القانون، وتؤمن بالقيم العليا ممثلة في الحق، والخير، والجمال، وتعي مغزى الديمقراطية في بثِّ الحيوية والشباب في جسد المجتمع، وتضطلع بمسؤوليتها تجاه ذاتها، وأسرتها، ووطنها عن جدارةٍ واستحقاقٍ.

زيادة مشكلات الشباب الجامعي

فإذا كان الشأن كذلك، فأنَّى لنا بهكذا شخصيةٍ مثاليةٍ تخرج من رحم جامعيٍّ عاقرٍ؟ إنَّك لتعلم فداحة الخسران حين تتأمل كثيرًا في شباب الجامعات العربية، فتراهم وقد تهوَّسهم الهزل، وغوتهم التفاهات، فأخذوا يميلون إليها كلَّ الميل، بعيدين عن الجَلَد والجدِّ والمثابرة، ظاهرهم القوة، وباطنهم الضعف، ويُساقون سوق القطيع وراء الإشاعات والبرامج الإعلامية الخبيثة، لأنهم لا يملكون العقل النقدي الذي يكفل لهم التمييز بين الغث والسمين، والفرز بين الصالح والطالح…، شبابٌ بلا خيالٍ، وبلا أحلامٍ، وبلا مشروع حياتي فكري أو عملي، وبه يصبحون عن سهولةٍ ويسرٍ فريسةً للأراجيف، وضحيةً للأباطيل والأكاذيب، فكيف يصنعون الحياة ويقومون عليها قِوامةَ الرَّشَدِ؟! وكيف يعمرون الوطن؟! وأنَّى لهم أن يسوسوا الناس، ويقودوا الجمع من البشر؟!

رابعًا: مدار الأخلاق

إنَّ طبيبًا يغش مرضاه، ويعاملهم بنزوعٍ تجاري بشعٍ وجشعٍ كأنهم محض سلعةٍ من جمادٍ، وليسوا بشرًا له قداسته الوافية واحترامه الكامل، لجديرٌ بأن نتساءل عن تكوينه الخُلُقي في الجامعة، وإنَّ محاميًا يدافع عن الباطل في حميَّةٍ واتقادٍ، وهو يعلم علم اليقين أنه باطل، لقمين أن نقف عند نجاعة المعطى الأخلاقي الذي حصَّله في برامج الجامعة، وعبر خططها العلمية، وإنَّ أستاذًا يسرق بحوثه، ويُسيم طلابه خَسْفَ شراء مذكراته التافهة المسلوخة عن الآخرين خُفيةً، أو أن يساوم طالباته على شرفهن مقابل الدرجات العلمية، لجديرٌ بالبحث في أخلاقه، والعجب ممن ينتظر منه أن يُخَرِّجَ له في الجامعة صاحب خُلُقٍ قويمٍ… وهكذا دواليك، تستطيع أن تستبين عن بصيرةٍ حصيفةٍ تلك الاختلالات الأخلاقية التي تغص بها الجامعة، ويغص بها من ورائها المجتمع الذي ترفده بخريجيها على ذلك النحو المشين!

تعرف على: كيفية التأقلم مع الحياة الجامعية

اقرأ أيضاً: حفلات التحرر بالتخرج

كيف تستعيد الجامعات العربية مجدها؟

الجامعات العربيةوبعد، فذلك الذي ألقينا به على هيئته، محض غيض من فيض تواءم ومساحة هذا الفضاء الحرج، لكننا رغم وجيعتنا التي نجأر بها تجاه الجامعات العربية في مدارات الربح والخسارة، يُلزمنا منهج العلم أن نبتعد كثيرًا عن التعميم، وأن نربأ بأنفسنا، وبقولنا عن وصم جميع مؤسساتنا بما أسلفناه، فتبدو الصورة قاتمةً، والآفاق منسدةً بفعل الإحباط واليأس.

إنما الحقُّ الحقُّ أن ثمة جامعاتٍ عربيةً نهضت بمجتمعاتها، وقدمت لها رسالة جليلة ذات قداسةٍ وجلالٍ، وأنها رسمت لها سُبُلَ الخروج من كهوف الجهل وظلمات التخلف، إلى وهج العلم وأنوار العقل والفكر القويم، ممهدةً بذلك لآليات التنمية المستدامة، وأن لدينا أساتذة أكفاء يضارعون نظراءهم في أعرق الجامعات على مستوى العالم، وإن رجع تميزهم إلى عبقريتهم الشخصية أكثر من اتكائه على السياسة العامة للمؤسسة الأكاديمية، الشأن الذي يحملنا حملًا على أن نصنع عن إرادةٍ ووعي تلك السياسة، أو أن نؤسِّس ذاك النظام الذي يكفل لنا خريجًا متميزًا، ويضمن لنا من قبله أستاذًا ذا فلسفةٍ، ومنهجٍ، ورؤيةٍ نهضويةٍ قويمةٍ تُفعمُ تراثًا، وحداثةً معًا.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د. عبد الرحمن عبد السلام محمود

أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية الألسن جامعة عين شمس وكلية أحمد بن محمد