قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السابع والعشرون

المدرسة المشَّائية: (25) ابن باجّة وكتابه تدبير المتوحد

فلسفة التوحد والاتصال: حياةٌ يدبرها العقلُ (5): تحقيق السعادة: المتوحد/ الفيلسوف في مدينة الفلاسفة

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 26) عن فلسفة التوحد والاتصال الباجية: حياةٌ يدبرُها العقلُ (4): تحقيق السعادة: الاتصال بالصور الروحانية. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التوحد والاتصال الباجية: تحقيق السعادة: المتوحد في المدينة الكاملة: مدينة الفلاسفة:

و. المتوحد في المدينة الكاملة

1. التوحد: من العقول الفردية إلى العقل الكلي

الصور العقلية المجردة من المادة (الصور الرُوحانية) هي موضوع إدراك العقل الأخير. ويكون ذلك بتدبير المتوحد الذي عليه أن يتصل بالصور، وتبين أنواعها، وتحديد فعله وفقًا لكل نوع منها. إن كانت القيادة للعقل أي للصور الروحانية فإن النتيجة الأخيرة صيرورة العقول الفردية لأبناء المدينة الكاملة عقلًا كليًا: واحدًا بالعدد كثيرًا بالأفراد.

لكن كيف يكون العقلُ واحدًا في جميع الناس، وكيف يكون الناس المتكثرين واحدًا بالعدد؟ يقول ابن باجة: “إن هذا مُشَّنَعٌ، وعسى أن يكونَ مُحالًا، ولكن إذا قلنا بالمقابل إن الناس جميعًا ليسوا واحدًا بالعدد فمعنى ذلك أن هذا العدد ليس بواحد وهذا مشنع كذلك، إذ كيف يمكن التواصل والتفاهم بين الناس؟ وكيف يمكن قيام العلم، والحال أنه لا علم إلا بالكليات ولا كليات ما لم يكن معنى الكلي واحدًا عند كل الناس؟”.

وَحْدَةُ العاقل والعقل والمعقول

إن ابن باجة يحل الإشكالية بأن العقلَ واحدٌ في جميع الناس، ويختلفون وفق القابل أو الوسيط من الحس والحس المشترك والتخيل والتذكر. ولا يكون العقل واحدًا إلا عندما يصل العقل فقط إلى مرحلة العقل المستفاد المتحد بالعقل الفعال: وحدة العاقل والعقل والمعقول، إذ تنشأ مدينةُ العقل المستفاد المتصل بالعقل الفعال: مدينة الفلاسفة الخلص أصحاب العقول المحضة.

2. التوحد: من المدن الناقصة إلى المدينة الكاملة

إن اللبنةَ الأولى للمدينة الكاملة الفاضلة (مدينة الفلاسفة) إنما هو المتوحد المفرد (الفيلسوف). وتكوين المدينة يبدأ بالفرد. فإذا تمَّ تدبيرُ الأفراد أمكنَ أن يجتمع منهم مدينةٌ كاملةٌ لا تضم سواهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذا كان أفلاطون قد اشترط في مدينته الفاضلة أن يحكمها الملك الفيلسوف، واشترط الفارابي لمدينته الفاضلة أن يحكمها النبيُّ الفيلسوفُ، وهذا غير ممكن في عالمنا أن يحدث، فإن ابن باجة قد رأى أن شعب المدينة الكاملة هم المتوحدون المفردون/ الفلاسفة، أي الذين تم تدبيرهم وترتيب أفعالهم حتى وصلوا إلى الاتصال بالعقل الفعال، وهؤلاء كلهم فلاسفة فلن يحتاجوا إلى حاكم فيلسوف، فكلهم فلاسفة يحكمون أنفسهم بالعقل الواحد بالنوع الكثير بالعدد، كما لن يحتاجوا إلى طبيب يداوي أسقامهم، إذ لا أمراض بينهم، ولن يكونوا في حاجة إلى قاض يحكم في منازعاتهم، إذ لا منازعات بينهم. فهذه هي مثالية ابن باجة التي وصلت إلى قمة المثالية، إذ يقول في رسالته إلى تلميذه وصديقه ابن الإمام في “رسالة الوداع”: “والنظر من هذه الجهة (اتحاد العقل والعاقل والمعقول) هو الحياة الآخرة وهو السعادة القصوى الإنسانية المتوحدة، وعند ذلك يشاهد ذلك المشهد العظيم”. وهذا هو الهدف النهائي للفلسفة الباجية: فلسفة التوحد والاتصال لبلوغ السعادة القصوى الإنسانية.

المعونة الإلهية ضرورة لإدراك الكمال الإنساني

التوحد في فلسفة ابن باجة

يرى ابن باجة أن سعي الإنسان لا يتنافى مع العناية الإلهية، فالخلق الفاضل إنما يصير به روحانيًا: “بأن يكون عنه الفعل الذي يحصل له عنه بالذات هذه الروحانية. وكلاهما موهبة إلهية يخص الله تعالى بها من يشاء من خلقه”. لذا يبعث الله الرسل والأنبياء تتميمًا “لأجل مواهبه عند الناس وهو العلم”. إن العقل أحب المخلوقات إلى الله وعلى قدر قرب الإنسان منه يكون قربه من الله ويحظى برضاه.

خلاصة تأويلية عامة لفلسفة التوحد والاتصال الباجية: نحو سعادة قصوى وإنسانية متوحدة

قَصَدَ ابن باجة في كتابه الفريد من نوعه “تدبير المتوحد” أن يبينَ حالَ المتوحد وكيف يتدبر حتى ينالَ أفضلَ وجوداتِه. وهذا المتوحد ذو طبيعة رُوحانية، أي عقلية خالصة، يُؤْثِرُ الرُوحانية على الجسمانية فيدرك الغاية القصوى: يدرك السعادة وخلود النفس.

الدرسُ الأخيرُ الكبيرُ الذي يعلمنا ابن باجة إياه: لا جسمانيًا واحدًا سعيدٌ، وكل سعيد فهو رُوحاني خالص.

المتوحدُ بهذا المعني هو الفيلسوف الذي وهب نفسَه لحياةٍ يدبرُها العقلُ الخالصُ وحدُه، ذلك الذي حقق العلمَ الأقصى فصارَ عقلًا مستفادًا متصلًا بالعقل الفعَّال: صار متوحدًا إلهيًا فاضلًا. فالإنسان كائن فاسد بطبيعته الهيولانية، سرمدي روحاني، بطبيعته العقلية. وتلك ثنائية ابن باجة كما كانت عند أفلاطون قديمًا وديكارت حديثًا. لكن كما كتبَ الدماغُ الألماني الجبَّار عمانويل كانتْ “مشروعًا للسلام الدائم”، كتب الدماغُ العربي المسلم الجبَّار ابن باجة مشروعًا للسعادة العالمية أسماه “تدبير المتوحد”!

إضافةُ ابن باجة العبقريةُ قد حَلُمَتْ بإنسانيةٍ متوحدة: يكون فيها العقلُ، إذا أدركَ وصارَ “عقلًا بالفعل”، والعقل الذي به الإنسان يدركُ، أي “العقل الفعَّال”، فيتحقق “العقل المستفاد”: الذي هو وَحْدَة العقل الفعَّال والعقل بالفعل، وكل ذلك إنما هو عقل واحد ذلك الذي يكون به الإنسان إنسانًا سعيدًا حقًا، أعني “متوحدًا”.

بسبب هذه الوَحْدَة الإنسانية المتوحدة أثنى ابن رشد الثناءَ الجميلَ على سلفه العظيم ابن باجة، وأراد أن يشرح كتابه تدبير المتوحد، وكذلك أثني عليه –من قبل ابن رشد– الفيلسوفُ الثاني في المدرسة المشائية الأندلسية: ابن طُفَيْل.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نبدأُ رحلتَنا التأويليةَ مع فلسفة الفيلسوف الثاني في المدرسة الأندلسية: ابن طُفَيْل وكتابه “حي بن يقظان”: من الحس إلى العقل إلى الحَدْس: رحلة العقل الخالص نحو الله.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس

الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر

الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر

الجزء الرابع عشر ، الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر

الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر، الجزء التاسع عشر

الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون

 الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون، الجزء الخامس والعشرون

الجزء السادس والعشرون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج