مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

التنين بين الظن واليقين .. هل الظن وحده يكفي؟

يجلس خالد متململًا، ينظر إلى الطريق يمينًا ويسارًا كمن ينتظر حدوث شيء في أي لحظة، ينظر لساعته مجددًا وهو يزفر مغضبًا، يفكر في عدد المرات التي يتكرر فيها نفس الموقف، ففي كل مرة يتواعد فيها الصديقان لا بد أن يخلف صديقه عاصم موعده، تاركًا إياه يراقب عقارب الساعة داعيًا أن يظهر صديقه في أي لحظة،

لانت ملامحه قليلًا وهو يرى عاصم يقترب بخطوات متعجله، وقبل أن يبادر صديقه بالاعتذارات التي يبدو أنه قد ضج منها، بدأ في لومه فورًا، وقبل أن يستطرد في غضبه سارع صديقه بالقول: “أعتذر منك صديقي العزيز، لكنك لو تعلم ما حدث معي لعذرتني بالتأكيد”،

ويكمل حديثه دون أن ينتظر ردًّا: “في طريقي متجهًا إليك حسب الموعد، وجدت خناقًا مروريًا قد عطلني كثيرًا، فالسيارات لم تستطع العبور من الطريق المعتاد بسبب ظهور تنين يقطع عليهم الطريق!”، قاطعته عاصفة غاضبة من خالد، ومن بين وابل الكلمات الذي أطلقه استطاعت أذنه التقاط بضعة كلمات حول صبره على تأخيره، ولكنه لا يستطيع الصبر على معاملته كالأبله الذي يصدق كل شيء.

الظن والحقيقة الكامنة وراء التنين

يصل خالد إلى منزله بعد مشادته مع عاصم، يفكر غاضبًا كيف أن صديقه لم يكتف فقط بالتأخر -المعتاد- عليه، وإنما أصبح يقول أكاذيب واضحة، يُظهر فيها سخريته منه، وكأن صبره على عدم التزام صديقه بالمواعيد جعله عرضة لسخريته أيضًا حول سذاجته وحماقته!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يفتح التلفاز ليطالعه خبر عاجل على كل القنوات التليفزيونية حول “ظهور تنين في شوارع القاهرة يعطل حركة المرور والسير”! لينزل هذا الخبر على خالد كالصاعقة وقد شعر بظلمه لصديقه عاصم وكم أساء الظن به، وكأن بهذا الخبر ماءًا باردًا نزل على نار غضبه ليطفئها، ليسارع بالاتصال بصديقه معتذرًا عن سوء ظنه وانفعاله.

بالطبع هو موقف تخيلي وإمكانية حدوثه ضعيفة للغاية، ولكنها تظل واردة ولو احتمال بسيط قد يصل إلى الواحد في المليار، ولعل هذا هو الفارق الأساسي والمحوري بين الظن و اليقين، بين المتعارف عليه أو السائد من جهة والواجب حدوثه من جهة أخرى، فهل يستطيع الإنسان التفرقة بينهما؟ أو هل يوجد ما يمكن الوصول فيه ليقين؟ هل يمكن الوصول ليقين في كل العلم والمعرفة؟ أم أنه لا يمكن الوصول لليقين على الإطلاق؟

معنى اليقين والظن

من الشرائط الأساسية للإجابة عن أي تساؤل هو تحرير المفاهيم الخاصة به وفهم المعاني التي يدور حولها السؤال، لذا فإن فهم معنى الظن و اليقين أولًا هو بداية الإجابة الصحيحة، فالظن هو الحكم على شيء مع وجود نسبة أقل لحكم آخر حول نفس الشيء،

كأن تقول مثلًا “أظن أنها ستمطر”، فقد حكمت بأنها ستمطر مع وجود احتمالية أقل بألا تمطر، بينما اليقين هو الحكم على شيء مع عدم وجود أي احتمال آخر على الإطلاق، كأن تقول مثلًا “مؤكد أن أخي الآن في المدرسة”، فقد حكمت حكمًا قاطعًا بوجوده في المدرسة دون عدم وجود أي احتمالية لوجوده خارج المدرسة.
وهذا الحكم بالأساس يمكن أن يكون صحيحًا أو يكون خاطئًا، فقد تمطر أو لا تمطر، وقد يكون أخوك في المدرسة وقد يكون هناك ما عطله عن الذهاب إليها، تأخر في الاستيقاظ أو تعطلت الحافلة المدرسية مثلًا، لذا كان الدليل الذي تستند إليه هو الأساس في الحكم على مدى صحة حكمك والاعتداد برأيك.

هل يوجد ما يمكن الوصول فيه إلى اليقين ؟

بالعودة إلى السؤال “هل يوجد ما يمكن الوصول فيه إلى يقين؟” بعد أن عرفنا ما يعنيه اليقين، فمن المؤكد أن هناك ما يمكن الحكم عليه بشكل مؤكد دون أي وجود لأي احتمال آخر، كأن تقول “أنا موجود”، فإن هذه الحقيقة مؤكدة لا يمكن أن ترفضها نفسك، أو تشك فيها، أو كما قال رينيه ديكارت: “أنا أشك إذن أنا أفكر وأنا أفكر إذن أنا موجود”، ومن ثم تصبح الإجابة بـ “نعم” يوجد ما يمكن الوصول فيه إلى يقين، ولكن كيف؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي البحث عن إجابته،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ففي “قصة خالد وعاصم” اعتمد خالد على السائد المتعارف عليه بين الناس، على الرغم من عدم مخالفة وجود تنين مثلًا أو كائن غريب آخر لقواعد الممكن عقلًا، وهذا الاعتماد على السائد هو ما ذهب بالناس للسخرية من كل صاحب اختراع يومًا ما حول طيران البشر (الطائرة) أو قدرتهم على التواصل السريع على الرغم من بعد المسافة (الهاتف)،

ليظهر خطؤهم فيما بعد؛ مما أدى لظهور تلك القاعدة غير الحقيقية وغير الواقعية، بأن “كل ما تعرفه ليس مؤكدًا ولا يمكن الوصول لليقين فيه بأي حال من الأحوال”؛ فالمنطق العقلي قد وضع الأشياء بين الواجب والمحال والممكن.

الواجب والمحال والممكن

فكان الواجب هو ما لا يتصور وجوب عدم حدوثه، فلا يتصور العقل إلا وجود علة أولى مثلًا، والمحال هو ما لا يتصور العقل وجوب حدوثه، فلا يمكن بأي حال أن يتصور العقل اجتماع نقيضين من نفس الجهة وفي نفس الوقت والمكان، أما الممكن فهو ما لا يتصور العقل وجوب حدوثه أو عدمه، ويندرج تحت الممكن كل ما دون الواجب والمحال وهو كثير.

فالعقل يمكن له تصور إنسان يطير -قد يحدث هذا نتيجة اختراع خارق أو تطور جيني أو تشوهات نتيجة الملوثات النووية-، وقد يتصور العقل منزلًا متحركًا، أو يتصور عودة الديناصورات عن طريق التخليق الجيني أو وجود جزيرة مجهولة استطاع الديناصور النجاة عليها، بل إن قدرة الإنسان على تصور العديد من الممكنات غير الموجودة بالفعل كان المفتاح الرئيسي للاختراعات البشرية المختلفة.

كيف نفرق بين اليقين والظن بدون خلط بينهما؟

لما كان هناك واجب ومحال؛ فبالتأكيد هناك ما يستطيع الإنسان التيقن منه تمامًا، مثل “وجوده، استحالة اجتماع نقيضين، لكل معلول علة، الكل أعظم من جزئه… وغيرهم”، كما أن وجود الممكنات يدل على وجود ما هو ظني، لا يستطيع الإنسان التيقن منه تمامًا لارتباطه بالعديد من التفاصيل والجزئيات، فلا يستطيع الإنسان الجزم بحدوثه من عدمه،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والخطأ الأساسي الذي نقع فيه كثيرًا مثلما وقع فيه خالد هو الخلط بين كل من مفهومي السائد أو الشائع حدوثه والواجب حدوثه، فأصبح اتخاذ مواقف حادة شديدة الصرامة على ما نظن أنه حقيقي، كالإيمان ببعض الأقوال المشهورة (الأمثال الشعبية) وتحويلها لحقائق وحكم فكرية، فاستُبدل اليقين بالظن، مما يترتب على ذلك من سلوك يصدُف صحته وخطؤه.

وللخروج من تلك الإشكالية ينبغي على الفرد أولًا التفرقة بين الظن و اليقين، فلا يحل أحدهما مكان الآخر حتى لا يقع في خطأ الجهل المركب، الذي يصبح صاحبه ليس فقط جاهلًا بحقيقة العالم من حوله، بل لا يدرك حتى جهله هذا،

ومن ثم البحث عن أدوات الوصول لليقين الحقيقي الذي يقوم على الدليل، فتميل لليقين فقط مع الدليل القائم على الحس والتجربة العلمية والأوليات العقلية والخبر المتواتر، كل في مساحته المعرفية الخاصة به.أن وجود الممكنات

اقرأ أيضا :

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مات وارتاح .. عن رحلة الحياة ونهاية الطريق

المعاناة والألم … هل من سبيل للخلاص من المعاناة ؟ ولماذا نعاني من الأساس ؟

الأمل فوق رؤوسنا، فلتنتعش نفوسنا الظمأى بذلك

محمد صابر

مهندس حر

باحث في علوم التربية وفلسفة التعليم بمركز “بالعقل نبدأ”

دراسات عليا في كلية التربية جامعة المنصورة

حاصل على دورة إعداد معلم (TOT) من BRITCH FOUNDATION TRAINING LICENSE المعتمد من الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة