مقالات

تشاؤمية أم واقعية؟

في معية التحولات التي مرَّت وتمر بها منطقتنا العربية منذ أكثر من عِقد، أصبحت التشاؤمية تهمةً جاهزة لكل من ينتقد أوضاعًا تتسم باللا معقولية، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو مجتمعية أو غير ذلك، مثلها في ذلك مثل تهمة الخيانة العظمي.

الأولى هي البديل المُريح والأهون إذا ما غابت الحُجج المنطقية والتاريخية والواقعية للاتهام بالثانية، حتى لتجد كثرةً من ذوي الرؤى النقدية يبدأون حديثهم بعبارات من قبيل: “لست مُعارضًا”، أو “لست متشائمًا”، إلخ، في محاولة لتجنب رد الفعل السريع من كتائب يحيا الوطن، وليس في الإمكان أبدع مما كان، والقافلة تسير، والإنجازات تتوالى، وغيرها!

لا يبرأ من هاتين التهمتين أو إحداهما إلا من أغلق عينيه وأحاط عقله –عن وعي أو عن غير وعي– بسياجٍ من التفاؤل الكاذب، أو من أجاد الرقص على إيقاعات المصالح الخاصة للكبار، مؤديًا فروض الولاء والطاعة في خشوعٍ فاضح، ملتمسًا بقايا منصب زائل أو فتات موائد ممقوتة!

الفرق بين التفاؤل والتشاؤم والواقعية

قد يدرك هؤلاء، وقد لا يُدركون، أن ثمة مسافة بين التشاؤم والواقعية، تحول أحاسيسهم المرهفة أو قناعاتهم الأيديولوجية دون إدراكها، وهي ذات المسافة التي تفصل بين التفاؤل وصناعة الوهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الطبيب الذي يُشخص المرض بشجاعة ويُحذر من مضاعفاته التي قد تُفضي إلى الموت ليس متشائمًا، بل هو واقعي، صادق مع نفسه ومع الآخرين، ونظيره البائع للكلمات الزائفة ليس متفائلًا، بل هو صانع للوهم، مُخادع لنفسه وللآخرين!

لقد كنا –وما زلنا– نخرج من أزمة لنلج في أخرى، وفي كل مرة نتحايل على أنفسنا؛ نتفاءل كذبًا، نتعالى على جراحنا مكابرةً، ثم نُردد شعارات مللنا التغني بها، ونُطالب بالتغزل بذاك النصف المليء من الكأس، في الوقت الذي يتساقط الناس من حوله عطشًا!

المشكلة يا سادة ليست في النصف الفارغ، بل في حجم الكأس، وفي مدى صلاحية ما به من ماء للشُرب، وحتى لو كان صالحًا، فلنا أن نتساءل عن مدى كونه مُتاحًا للجميع أم لقلة تستحوذ عليه!

تشاؤم الواقع وتفاؤل الإرادة

11 1505315687 3877 - تشاؤمية أم واقعية؟

يُعبر الروائي البرتغالي جوزيه سارماجو (José Saramago) (1922 – 2010) عن ذلك بقوله: “لست متشائمًا، لكنه العالم المُفزع! كيف يمكننا أن نكون متفائلين في كنف كوكب يعيش فيه الناس بشكلٍ سيئ للغاية، وتتعرض الطبيعة للدمار، والمال هو الإمبراطورية المهيمنة؟ على أية حال إن كان وصف الواقع على حقيقته يُمثل تشاؤمًا، فلعل التشاؤم هو فرصة خلاصنا الوحيدة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بينما التفاؤل شكلٌ من أشكال الغباء؛ حين يتفاءل المرء في أوقاتٍ كهذه فإن تفاؤله إنما ينم عن انعدام أي إحساس، أو عن بلاهة فظيعة! لا أقول إن كل شيء سلبي وقاتم، لكني أعني أن السلبيات أكثر من أن نتجاهلها أو أن نغض الطرف عنها.

يبدو لي أن ثمة خطأً جسيمًا في أن نحتمل وجود هذا الكم من السلبيات في مقابل بضعة إيجابيات، فهذه الأخيرة لا تشفع في قبولها! لنكن منطقيين بعض الشيء؛ المتفائل يظن أن العالم في حالٍ جيدة، أو أنه في حالٍ سيئة لكنه سوف يتحسن لا محالة، أما المتشائم فيرى من جهته أن العالم في حالٍ يُرثى لها.

لكن ذلك لا يعني إنكار الايجابيات الموجودة؛ المتفائل لا يملك عمومًا أية حوافز للتدخل، في حين أن المتشائم يمتلك الدوافع لكي يحاول تغيير العالم.

كيفية التخلص من التشاؤم؟

صحيح أن ثمة نوعًا من التشاؤم يحث على اليأس وعلى الجمود، لكن ليس من الضروري أن يكون كل متشائم مرشحًا لكي يطلق النار على نفسه، ثمة تشاؤم من نوع آخر، وهو تشاؤمي أنا،

تشاؤم قائم على هذه الفكرة: لأن الواقع بهذا السوء، فسوف أحاول –في إطار قدراتي– تغييره، وإذا لم يكن بإمكاني تغييره، فأقله أشير بإصبعي وأقول: أنظروا، هذا سيئ!”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بهذا المعنى، وفي ظل هذه الأجواء الحضارية المثيرة للفزع في عالمنا العربي، أقول لكل من يصف الرؤية الفلسفية المُشخصة للواقع بالتشاؤمية:

“إن منطقي في ممارسة التشاؤم يفوق منطقك في اقتراف الأمل، ولا غرو، فلكلٍ محليته ورؤيته ومنطلقاته وأهدافه ومكتسباته ومصالحه، ولكلٍ خياره ما بين الناي الحزين المثير للتأمل، والطبلة الصاخبة المثيرة للضجر، وقد كانت جدتي تقول بالعامية: يا بخت من بكَّاني وبكى عليا ولا ضحكني وضحَّك الناس عليا، ومع ذلك، أنا لا أتهمك، بل أشفق عليك!”.

اقرأ أيضاً:

اترك اليأس وأبدأ الحياة من جديد

لماذا خلق الإنسان؟ لماذا نعاني؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثلاثية الأحلام والأوهام والآمال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة