مقالاتفن وأدب - مقالات

أيهما كان مثقف حقا؟ لاعبة التنس في الفيلم؟ أم لاعبة التنس في الواقع؟

البطلة الحائرة أم مدربة التنس

كانت جالسة أمام التلفاز تبحث عن شيء يجذبها لكي تهرب من شعور الملل المسيطر عليها منذ بدء أيام الإجازة من العمل، ظلت تغير من قناة إلى أخرى ومن برنامج إلى مسلسل إلى مسرحية حتى لمحت إحدى القنوات تقدم فيلمًا قديمًا، ليس بالأبيض والأسود وليس حديثًا وانما من الأفلام ذات الألوان الباهتة والصورة غير النقية والبقع والخطوط التي تظهر بين الحين والآخر على الشاشة والتي تدل على بساطة أدوات التصوير المستخدمة في إنتاج هذا الفيلم..

كان فيلمًا يدعى “دعوة للزواج” وأبطاله من الممثلين والممثلات المشهورات. جذبها المشهد الذي كان يعرض البطلة وهي تمارس رياضة التنس في النادي بكل احترافية، ذاك المشهد ذكرها بمدربة التنس في المدرسة التي كانت تدرس بها في المرحلة الإعدادية حيث كانت تلك المدربة تعلمها ممارسة لعبة التنس وتنصحها بالعديد من النصائح لتتقنها وتصبح لاعبة تنس ممتازة. سرحت قليلًا تتذكر المزيد من المواقف التي جمعتها مع تلك المدربة وعيناها تحدقان في شاشة التلفاز على القناة التي تعرض الفيلم.

تلك المدربة كانت قدوتها آنذاك، كانت ذكية، نشيطة، ماهرة في ممارسة الرياضة كما كانت ماهرة في استيعاب طالباتها ومساعدتهم على الدوام والوقوف بجانبهم وقت حاجاتهم. كانت خلوقة وذات هدف وقيمة وضمير حي يحثها دائما على السير وفق المبادئ والإخلاص في العمل بل والاستمتاع به أيضًا. ولم يقتصر اهتمامها بطالباتها وبأحوال المدرسة وتطويرها بل كانت تهتم بالقضايا المجتمعية وتناقش وتحلل وتمكث في المكتبة بالساعات تقرأ الكتب، ولا تنسى أبدًا ذاك اليوم الذي قابلتها فيه في المكتبة وكانت جالسة تقرأ كتابا ذا مائة أو مائتي صفحة وقاطعتها سائلة بتعجب متى تنتهي من قراءة هكذا كتاب! إلا أن ردها كان أن القراءة لا تكون قراءة إذا كان الهدف عند البدء هو توقيت الخلاص والوصول للنهاية وإن كان الهدف هو الجري وراء الصفحات لتنتهي فعدم قراءته أهون، وأن القارئ الحقيقي هو المتأني الذي يعيد ويحلل في كل صفحة يقرأها ولا يخرج منها إلا وقد استوعب ما يريده الكاتب أو على الأقل ما طاق منها..

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سمعت فجأة الهاتف يرن وإذا به هاتف منزل البطل في الفيلم، فعادت إلى يقظتها واستكملت مشاهدة الفيلم وفي رأسها صورة المدربة لم تتلاشَ بعد.

كان الفيلم يناقش بشكل كليّ قضية زواج المثقفات -على حد وصفهم-، وما جذبها حقيقة لم تكن قضية الزواج نفسها بل كانت صورة البطلة المثقفة مقارنة ب صورة مدربة التنس، ومن فيهن فعلًا التي تستحق أن يطلق عليها “مثقفة”.

الشخصية المثقفة التي كانت تظهر في الفيلم تتشابه مع المدربة في عدة ظواهر، فكانت كلتاهما نشيطتان، ذكيتان، رياضيتان، ناجحتان ومهتمتان بعملها، تهتم بقضايا المجتمع ورفعته، قارئة للفهم وليس للحفظ وماهرة، ولكنها لاحظت أن البطلة المثقفة كانت تدرس وتعمل حتى تحصل على المال لكي لا تكون أضعف من الرجل أو -على حد وصفها- “تحت رحمته”، بالإضافة إلى أنها كانت متناقضة في كثير من المواقف، تعارض المجتمع في أفكاره الرجعية وتتأثر سلبيًا بتلك الأفكار عند مواجهتها، تقول أحيانا ما يفتقر إليه فعلها، غضوبة وحزينة ولا يحكمها عقلها في كل المواقف ويعلو مزاجها أحيانا ويسود.

كانت تائهة حائرة وعاجزة عن تحديد غاياتها التي تعبر عن رجاحة عقلها وكانت مشوشة الرؤية وسطحية في الحكم على بعض الأمور، مثل رفضها لرجل متقدم لزواجها إثر انقباضها من اسمه “شعراوي” ومن هيئته وشكله.

لا؛ لم تكن مدربة التنس هكذا، نعم كانت نشيطة، مجتهدة، ذكية، خلوقة، قارئة ومهتمة بالمعارف والعلوم والقضايا والآراء ولكنها كانت مشرقة، الأمل صديقها والنظرة المتفائلة الواقعية حليفتها، كما كانت عميقة في نظرتها للأمور وتهتم ببواطن وحقائق الأشياء أكثر من مظهرها. كانت تحترم الإنسان لكونه إنسانا وليس للقبه أو منصبه أو هيئته، كانت تغضب أحيانا عندما يستحق الأمر الغضب كرؤية ظلم أو سلوك قبيح لا بدّ أن يُقوَم، وكانت نظرتها للعمل ليست وسيلة لجلب المال والخلاص من تحكم الرجال وإنما لتقديم نفع للمجتمع والمساهمة كإنسانة في بناء وخدمة الأمة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المثقف هو الإنسان القادر على الفهم والتحليل والتفكير والوصول لاستنتاجات صحيحة متبعا طرقا وأسسا علمية صحيحة، تتعدد لديه جوانب المعرفة، وعلمه ليس قاصرًا ومحدودًا على العلم الوظيفي أو المهني، قارئ للكتب بهدف توسيع الأفق والاطلاع على الأبحاث والآراء المختلفة والنظر وإعادة النظر والتدقيق بعقله المتزن حتى يستطيع التمييز بين الحق وتطبيقاته والباطل وخلله والتعلم وزيادة الفهم بما في تلك الكتب من معارف وعلوم صحيحة وحقيقية ونبذ التافه الهش منها.

المثقف إنسان صاحب مبادئ وقيم ثابتة راسخة لا تهتز أمام المغريات، مرن في الوسائل بما يتوافق مع شرف الغاية ووضوحها. إنه ذكى، مجتهد، صبور، خلوق ومنتج للأفكار والحلول والطرق المؤدية لصلاح المجتمع كله وليس ما يوافق مصالحه وهواه فقط.

وإن نظرنا إلى أصل الكلمة في اللغة العربية نجد أن معنى كلمة ” ثَقُفَ ” في المعجم: ذكي، فطن، حذق. وكذلك “ثًقَّفَ”: أي أقام المعوج وسواه وهذبه وأدبه.

المثقف في المجتمع كالعمود الذي يقام عليه البنيان والمحافظ عليه حتى لا يتهدم ويسقط، إنه حامل الحق والمدافع عنه، الرحيم بمن هم أضعف منه والعون لهم، القادر على التخطيط للمستقبل وفقًا لفهمه العميق للماضي ورؤية واضحة للحاضر، إنه العاقل الذي استطاع التحكم في نفسه والتغلب على ما بها من نواقص ودنايا فكانت له عونًا في رحلته بدلًا من أن تكون عدوته لأنه استطاع أن يروضها. إنه العفيف القوى المحافظ على نفسه وقيمه والقادر على الاختيار الصحيح للبدائل المختلفة للجوانب المتعددة في حياته، المنظم لوقته والمستغل لأيامه والمساعد للمحتاجين، الحنون على الضعيف والقاسي غير المتهاون مع الظالم والمعلم لمن هم أقل منه علمًا والطالب المجتهد لمن هم أرقى منه فهمًا ومعرفةً، الدائم التوجه إلى الكمال الإلهي حتى يستقبل منه نفحاته التي تعينه وتقويه في مسيرته نحو رقيه البشري.

وليس المثقف هو تلك الصورة التي تتبادر إلى أذهان البعض والتي كوّنتها بعض الأفلام والتي تعرض المثقف على أنه الشخصية العبوسة المستنكرة لما حولها، المتشائم الحزين، المتعالي الذي يجلس مع فئات معينة من الناس لأنه لا يتحمل من هم أقل منه قدرة على حفظ معلومات وقراءة أعداد أقل من الكتب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المثقف العاجز عن إسعاد نفسه ونفع نفسه بما تعلم سيعجز بشكل أو بأخر عن إسعاد وإفادة غيره وبالتالي مجتمعه أو قضاياه التي يؤمن بها أو بالأحرى التي يرددها بدون فهم على أنها القضايا التي يؤمن بها.

المثقف هو تلك المدربة الفطنة السعيدة وليست تلك البطلة الحائرة التعيسة.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

# المثقف #المعلم #الإعلام

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة

مقالات ذات صلة