مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

العقل والسؤال

تحدثنا في الدردشات السابقة –صديقي القارئ صديقتي القارئة– عن العقل والألفاظ (ج1، ج2، ج3 )، وعن العقل والدلالة (ج1، ج2). وسنتحدث –استكمالًا لكل هذه المباحث– في هذه الدردشة عن موضوع مهم أيضًا هو: العقل والسؤال، حيث نحاول التعرف على:

كيف نسأل؟ وكيف نجيب؟ وهل عند المناطقة طريقة تعلمنا كيفية السؤال الصحيح، وكيفية معرفة الإجابة الصحيحة؟ لأنه إذا كان السؤال خاطئًا كانت الإجابة –بالضرورة– خاطئة.

الأسئلة

الأسئلة والأجوبة

خُلقَ الإنسانُ كائنًا متسائلًا عن كل مجهول يحيط به، سواء أكان ذلك المجهول من مجال الطبيعة (الفيزيقا)، أم كان ضمن مجال ما فوق الطبيعة (الميتافيزيقا).

وقد تعددت أسئلةُ الإنسان بتعدد مجهولاته: الفيزيقية والميتافيزيقية. ولذلك تعددت الألفاظ التي وضعت للاستفهام في كل لغات العالم. وهاكم بعضًا من هذه الأسئلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أنواع الأسئلة المختلفة

هل: للسؤال عن الوجود، فيقال: “هل وجد الإنسان؟” فيجاب عنه بـ”نعم” أو “لا”، وتسمى “هل البسيطة”. ويستفهم بـ”هل” أيضًا لطلب التصديق بثبوت صفة أو حال للشيء بعد فرض وجوده، فنسأل: “هل هذا الإنسان الموجود عالم؟” فيجاب عنها أيضًا بـ”نعم” أو “لا”. وتسمى “هل المركبة”.

ما: يستفهم بها عن حقيقة المعنى، أو عن ماهيته: “ما هو؟” فنسأل مثلًا: “ما هو الإنسان؟” فيمكن أن يجاب عنه فيقال “بشر”، وتسمى”ما الشارحة”، وتأتي قبل العلم بوجود الشيء، أو بما يوضح ماهية الشيء وحقيقته الثابتة في الخارج ، فيقال: “حيوان ناطق”، وتسمى “ما الحقيقية” وتأتي بعد العلم بوجود الشيء أي بعد السؤال بهل البسيطة.

أي: للسؤال عن تحديد الشيء “أي شيء هو؟”، يستفهم بها عن مميزات الشيء عن غيره: “أي إنسان هو؟” فيقال، مثلًا: “عالم”.

لمَ: للسؤال عن السبب: “ما هي علة الشيء أو فائدته أو سببه؟” ويستفهم بها مرة عن علة (سبب) الحكم، وأخرى عن علة الحكم والوجود معًا.

كيف: للسؤال عن الكيفية. أين: للسؤال عن المكان. متى: للسؤال عن الزمان. كم: للسؤال عن المقدار. فإنك قد تسأل كم عدد طلاب المدرسة مثلًا؟ وكيف هي المدرسة؟ وأين تقع؟ ومتى وجدت أو بنيت؟

ويقال عادة أن جميع الأسئلة تنحصر في ثلاثة رئيسة، هي: ما؟ هل؟ لمَ؟ والذي يعلمنا طريقةَ السؤال الصحيح والجواب الصحيح هو علم المنطق، فيوضح لنا كيف نجيب عن الأسئلة التصورية (في باب الحد أو التعريف)، وكيف نجيب عن الأسئلة التصديقية (في باب الحجة أو القضايا).

الكلي: مجال الفلسفة، والجزئي: مجال علم الطبيعة

الأسئلة والأجوبة

إن الكلي مجال الفلسفة والجزئي هو مجال العلوم الطبيعية، والخلط بين المجالين يعطينا إجاباتٍ خاطئةً عن أسئلة خاطئة. فالفلسفة تجيب عن الكلي الثابت غير المتغير، والعلوم الطبيعة تجيب عن الجزئي غير الثابت والمتغير.

ومن هنا تتضح لنا أهميةُ معرفةِ السؤال وكيفية الجواب، فمثلًا كانوا يعتقدون قديمًا أن علم الطبيعة يكون داخلًا في مجال الفلسفة باعتبار أن الفلسفة كانت أم العلوم، وكانت إجابات الفلاسفة عن الأسئلة المتعلقة بعلوم الطبيعة كلها إجابات خاطئة، لأنهم حاولوا إقامة البراهين الفلسفية إجابةً عن هذه الأسئلة.

ولما تقدم العلم التجريبي انهارت جميعُ الطبيعيات القديمة. لقد تصور القدماء أن الفلسفة هي التي تجيب عن أسئلة العلوم التجريبية فقدموا أجوبةً خاطئةً عن أسئلة لا علاقة لها بالفلسفة.

هل الخطأ في الفلسفة؟

ويبدو أن ذلك هو السبب الذي دفع كثيرًا من علماء الغرب إلى تصور أن الفلسفة كلها خطأ ولا بد من التخلي عنها لمصلحة العلم. وذلك الرأي الغلط بنوه على سؤال غلط، فأسئلة الفلسفة إجابتها في الفلسفة فإن سألت: “هل النفس خالدة أم فانية؟” تجيبك الفلسفة، أما إن سألت عن حالات النفس المختلفة، فالإجابة عند علم النفس لا في الفلسفة.

وكذلك غلط العلماء الغربيون المعاصرون عندما سألوا أسئلةً فلسفيةً وأجابوا عنها إجاباتٍ من العلوم الطبيعية. فقد سألوا: هل الله موجود؟ ومتى وجد؟ وأين مكانه؟ وكيف هي ماهيته؟ وحاولوا تقديم إجابات من علم الطبيعة مع أن الله –تعالى– لا يسأل عنه أين؟ ومتى؟ وكيف؟  فلا مكان له، ولا زمان له، ولا كيف له.

لقد بحثوا عن الله في علم الطبيعيات فلم يجدوه، مع أن البحث متعلق بعلم الفلسفة، لا بالعلوم الطبيعة، فعاملوا الكلي معاملة الجزئي! وهذ إن دل على شيء فإنما يدل على الخلط وعدم التمييز بين القضايا الفلسفية والقضايا الطبيعية. ومما لا شك فيه مرة أخرى إن كان السؤالُ خطأً كان الجوابُ خطأً أيضًا.

والخلاصة:

إن العلم لا يغني عن الفلسفة، ولا الفلسفة تغني عن العلم. إن لكل علم أداته وأداة كل علم لا يمكن أن تكون مكان الأداة الأخرى. فعلينا أن نعرفَ حدَ العلم، فنجيب عن أسئلة الطبيعة بالعلم، وأن نعرفَ حدَ الفلسفة، فنجيب عن أسئلة الفلسفة بالفلسفة.

وعلم المنطق هو العلم الذي يقدم هذه الخدمة الجليلة لكل من العلم والفلسفة، كي يعرفا حدهما على وجه الدقة واليقين، وكيف تكون طبيعة السؤال وكيف تكون طبيعة الجواب.

اقرأ أيضاً:

التساؤلات المحظورة بين التربية والتعليم

غرابة السؤال أقلُّ من غرابة تجاهله

لحوم العلماء .. بين المدح والذم!

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج