فن وأدب - مقالاتمقالات

رواية تتخيل مبارة كرة قدم بين مصر وإسرائيل

كثرة من روايات تجارية توسلت بـ”كرة القدم” كي تحقق ذيوعًا بين أوساط من قراء شغوفين باللعبة، منشغلين بكل ما يُكتب عنها، أيًا كان نوعه، أو مستواه الفني، أو عمقه. لكن مع رواية “إصابة ملاعب” التي هي الأولى للكاتب الصحفي الأستاذ أحمد الصاوي، نحن أمام عمل مختلف، يزخر بالرؤى، ويرمي الكرة نحو شباك سياسية واجتماعية وثقافية عدة، فترتد حكاية شيقة، تلهث وراء سطورها في لهفة، وتبحث عن مراميها دون توقف، رغم ما تنطوي عليه من تخييل، وصل إلى أن وصف الكاتب روايته في البداية بأنها “افتراضات كاتب، لا تعبر عن أحداث حقيقية، أو أشخاص لهم أي صلة بالواقع”.

رواية عن تداعيات مباراة كرة متخيلة بين مصر وإسرائيل

قبل ربع قرن، وفي أثناء بطولة كأس العالم 1990، قرأت مقالًا للروائي الكبير عبد الحكيم قاسم عنوانه “ميلا أيها الكاميروني”، شبه فيه هذا اللاعب الإفريقي الفذ بسبارتكوس محرر العبيد، وتابعت بعض ما كتبه الروائي والناقد الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو، الذي ألقى عدة محاضرات حول اللعبة، إذ رآها علامة من العلامات التي ترتكز على الكذب، لأنها رغم زيفها وسطحيتها تؤخذ على محمل الجد، وتكون لها أحيانًا عواقب خطِرة، حين تحدد بعض مسارات التنافس الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي، وترتبط بالقوة والهوية. وفي كتابيه “أساطير” و”لذة النص” بدا الكاتب والناقد الفرنسي رولان بارث شغوفًا بالرياضة وفلسفتها العميقة، والعلامات والشفرات المختلفة الكامنة فيها. وكان الروائي والشاعر والسينمائي بيير باولو بازوليني، يقول: “لو لم أصبح شاعرًا لكرست حياتي لكرة القدم”، وطالما تحدث نجيب محفوظ عن أنه كان لاعب كرة موهوبًا في صباه.

لكن الصاوي لم يشأ في روايته الصادرة عن “بيت الياسمين” بالقاهرة أن يبدي شغف كاتب سياسي باللعبة، إنما توسل بها ليطلق الخيال حول حدث سياسي كبير قد يقع حين تجد مصر نفسها في يوم من الأيام في مواجهة إسرائيل من أجل العبور إلى المونديال، وهي مسألة يرتب لها الكاتب حين يتخيل قيام “الفيفا” بتغيير قواعد التصفيات بما يقود إلى حدوث هذا، الذي يبدو في نظره “كابوسًا”، وهي مسألة يحدد معالمها منذ السطور الأولى لروايته قائلًا: “الأرجح أنك لا تتمنى أبدًا أن تجد نفسك محاصرًا بين تفاصيل كابوس، واقعًا في عمق دواماته، غارقًا في أحداثه التي تبدو غريبة ومأساوية، رغم كونها عادية وغير مباغتة. لكن ذلك كله لا يعني أن الكوابيس لا تتمنى الإيقاع بك، ولا تسعى إليك بهمة، لتجرح خيالك، وتحطم أسوارًا كنت تراها مأمونة الجانب، وتدشن واقعًا كنت تنكر احتمالاته وتتجاهل وجوده”.

جدل بين اللاعبين والمسؤولين

645641 755735809 - رواية تتخيل مبارة كرة قدم بين مصر وإسرائيلقبل أن يصل إلى هذه النقطة تغرق الرواية في تصاريف اللعبة ودهاليزها، مستدعية وقائع فعلية شهدتها الملاعب المصرية، بعد إعطاء أبطالها أسماء مستعارة، مع الغوص قليلًا في الدخائل النفسية لأطراف اللعبة، والسياق الاجتماعي الذي يحيط بها، وانشغال الجمهور المصري بالأندية العالمية، لكن يبقى كل هذا مجرد تمهيد للنقطة المركزية في الرواية، حين يجد المصريون أنفسهم في مواجهة إسرائيل كي يعبروا إلى بطولة طالما تضافرت عوامل غريبة لتقطع عليهم الطريق قبل الوصول إليها كل مرة، اللهم إلا مرتين، آخرها كانت قبل ربع قرن، رغم أن منتخب مصر الأعلى فوزًا بكأس الأمم الأفريقية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لما تصل الرواية إلى تلك النقطة، التي تمثل جوهر حكايتها وأساسها، ننتقل من تمرين في رياضة كرة القدم إلى تمرين في الخيال السياسي، فتحضر قضية “التطبيع” بقوة طاغية، ويثار حولها الجدل بين اللاعبين والمسؤولين عن اللعبة وجمهورها الفاعل وأجهزة الإعلام وصناع القرار السياسي. ونشعر في هذا الجزء أننا نمضي في المسار الذي يقطعه النقاش حول هذه القضية في مجالات حياتية أخرى، حسبما سمعنا ورأينا في الخبرة المصرية الممتدة، منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979 وحتى الآن.

أطراف على ساحة الجدل

انتقل التعبير عن الموقف من هذه المسألة في تلك الرواية من ألسنة حزبيين وحركيين وصحفيين وكتاب ومثقفين، كما جرت العادة، إلى ألسنة لاعبي الكرة وجمهورها، وهذا أعطى الموضوع زخمًا قويًا، لأن المستدعين للإدلاء برأيهم فيه أكبر بكثير من أي وقت مضى، كما أن الرهان على استقطاب قطاعات جماهيرية لمساندة مختلف الأطراف في مواقفها بات أكثر قوة وشراسة، مع اتساع المنشغلين بالكرة، لا سيما إن تعلق الأمر بوصول مصر إلى بطولة كأس العالم، هنا احتدم الصراع بين مدرب الفريق “حندوسة” المعروف بمحافظته دينيًا وولائه للسلطة، وبين أكبر نجومه “ناصر” المحترف في فريق بالدوري الألماني وأحد أهم اللاعبين في العالم، والذي استشهد والده في إحدى الحروب ضد إسرائيل، في حين ينتمي أخوه الأصغر إلى اليسار المصري المعروف برفضه للتطبيع، ومثَّل هذا الصراع مثالًا أو نموذجًا لما يدور في رؤوس الأطراف الفاعلة المتلاحمة في الجدل والتنافس الحاد حول هذه القضية.

تطل أربعة أطراف أخرى على ساحة الجدل: الأول الأمن المصري الذي أُلقي على رأسه عبء تأمين المباراة التي يرفضها ويلفظها قطاع واسع من الناس، وتأمين ما بعدها إن خسر الفريق المصري، والثاني الحكومة الإسرائيلية التي وجدتها فرصة سانحة لتعويم التطبيع إلى الشرائح الاجتماعية الدنيا في مصر، أما الثالث فهو الصحافة المصرية التي وجد الناس مانشيتاتها الرئيسية تقول ذات يوم: “حلم المونديال في تل أبيب”، والرابع تنظيم إرهابي يتزعمه رجل اسمه “سعيد الصوارمي”، راح يخطط لتفجير كبير في أثناء المباراة أو قبلها أو بعدها.

رواية من شوطين

1628521849226 1440x954 1 1024x678 - رواية تتخيل مبارة كرة قدم بين مصر وإسرائيلرغم أن الكاتب جعل العنوان الفرعي لحكايته “رواية من شوطين”، فإنه لم يكتب سوى شوطًا واحدًا، واستراحة امتدت طويلًا لتبتلع الجدل العارم حول التطبيع الكروي، ثم ترك الشوط الثاني ليتخيله القارئ، قبل أن يكتب له جملته الأخيرة: “صافرة النهاية”، متوجهًا إليه بعد أن وصلت الأحداث إلى ذروتها وبلغت الرغبة في معرفة بقية الحكاية أوسع مدى لها، إثر توالي النقلات السريعة المشوقة، فقال: “إنك تريد أن تعرف ماذا جرى بعد كل هذه المفاجآت، وهذا طبعًا حقك. هل أقيمت المباراة؟ بأي نتيجة انتهت؟ وكيف سارت؟ هل شارك “ناصر” لاعبًا أو جالسًا على دكة البدلاء؟ هل تم العثور على قنابل؟ هل ألقي القبض على الصوارمي؟ هل ألغيت المباراة وتأجلت إلى موعد آخر؟ هل انفجرت أي قنابل؟ هل انفجرت في أثناء المباراة أم بعد إخلاء الاستاد؟ هل هناك ضحايا؟ هل عرف الجمهور كواليس كل ما جرى أم ظل على حاله؟…

الحقيقة أنني مثلك، أريد إجابة على كل سؤال مضى، لكنني كأي مواطن لم يجد تذكرة للمباراة، ويجلس أمام تلفزيون منزله في الموعد المحدد ينتظر المباراة، وفجأة تنقطع الكهرباء كما هي عادتها، ويستمر انقطاعها، في وقت تهاوت فيه بطاريات الموبايل والكمبيوتر والآي باد. كيف لي أن أعرف تفاصيل أخرى عما يجري وأجيب أسئلتك؟ ربما تابعت أنت ولديك إجابة، وإن لم يكن أتمنى عليك أن تبحث وتدقق وتنظر حولك، ربما تصل ما انقطع، وترى ما رأيت، وما لم أرَ. قلت لك كل ما أعرف، ولم أحط بالمزيد خبرًا”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تبدو الرواية في مجملها نابتة من تجربة الصاوي، الذي اعتاد أن يكتب عمودًا صحفيًا طالما توسل بالقصة أو الحكاية، في تسلسلها المشوق وتوظيفها الصورة والحوار وتعدد الأصوات أو وجود راوٍ واحد، وفي كثير من الأحيان كان مثل هذا المقال القصة أو القصة المقال يصل إلى نهايات مفتوحة، إما لتفضيل عدم إعطاء إجابات حاسمة أو مواقف قاطعة في مسائل تحتاج إلى الاختلاف، أو رغبة في إشراك القارئ في كل ما يجري، أو إعطاء الكاتب نفسه فرصة ليمعن النظر في مواقفه.

مقالات ذات صلة:

لماذا نرفض التطبيع مع إسرائيل؟

صراع تاريخي ترجم إلى ساحة منافسة رياضية

ماذا لو كانت الحياة مباراة كرة قدم؟ 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة