مقالات

أن تمتلك قوتك .. تلك قصة أخرى

على مر التاريخ ظلت الزراعة هي خط الأساس الذي تبنى عليه الحضارة، فلا تستقر أمة _فضلا عن أن تتقدم_ إلا بإقامة المجتمعات الزراعية، وما يترتب على  ذلك من فرض للنظام وتوزيع عادل للمياه وطرق تخزين ونقل المحاصيل وإنتاج التقاوي وهكذا.

ومن ثم فإن جميع هذه العمليات وما يتعلق بها لابد أن تكون فى يد الشعب إن أراد النهوض وامتلاك قراره، وهناك من أدرك هذه الحقيقة وعمل بها وهناك من _لسبب أو لآخر_ لم يفعل. فى السطور القادمة سنتعرف على ما انتهى إليه حال هؤلاء وأولئك.

الهندسة الوراثية والزراعة

تتكون الكائنات الحية من خلايا تحتوي على نواة بها المادة الوراثية (الحمض النووي) الذي يشبه الكتيب الذي يتحكم في صفات الكائن كالطول واللون وعدد السنابل وحجم إدرار اللبن والإصابة ببعض الأمراض وغير ذلك الكثير، حيث توجد داخل هذا الحمض جينات، كل جين منها عبارة عن مجموعة من القواعد النيتروجينية الأربعة (أدنين، ثايمين، ستوزين، جوانين) بتوليفات مختلفة  _كما يظهر في الشكل_ تعبر كل منها عن صفة معينة في الكائن،

بالتالي فعند الرغبة في تغيير أي صفة في الكائن للأفضل أو للأسوأ، كزيادة وزن الحبة أو تكوين اللحم أو مقاومة الجفاف أو ملوحة التربة أو مقاومة بعض الأمراض، فإنه يتعين إضافة أو قطع بعض هذه الجينات/القواعد النيتروجينية فيكتسب الكائن أو يفقد صفة معينة، ومجموع التقنيات المستخدمة لهذا الغرض تعرف جميعها بعلم الهندسة الوراثية.DNA simple2 - أن تمتلك قوتك .. تلك قصة أخرىولما كان المجال الزراعي الذي يعتمد في مجمله على الكائنات الحية يحتاج للتطور المستمر لزيادة الإنتاج كما ونوعا فقد دخل علم الهندسة الوراثية بقوة لتحقيق ذلك، فمن إنتاج البذور عالية الإنتاجية لزيادة إدرار الحليب إلى الفواكه والخضروات التي تتحمل التخزين دون تبريد وغير ذلك الكثير،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبالتالي زادت الأرباح فظهرت المنافسة بين من يمتلك العلم والمال، ومن ثم تكونت الاحتكارات من الشركات الكبرى متعددة الجنسيات والمتخصصة في التحكم الجيني للكائنات، هنا يظهر جشع الإنسان بأبشع الصور، فمن المعروف أن المزارع ينتج محصولا معينا ثم يقوم ببيعه للتاجر ويبقي على جزء منه ليستخدمه كتقاوي للموسم القادم.

لكن أنى لهذه الشركات أن تسمح بهذا؟ فقامت بإنتاج بذور معدلة وراثيا عقيمة، أي لا تنتج أي نبات إذا تمت زراعتها مرة أخرى، أي يظل المزارع رهنا لإرادة هذه الشركات فإن رفضت بيع التقاوي له فلن يجد مايزرعه، كما أن هذه البذور خفيفة الوزن أي لها القدرة على الانتشار بالرياح، أي أن المزارع الذي يقرر استخدام البذور العادية فإن البذور المعدلة وراثيا تدخل لأرضه وتنبت مع محصوله النقي وتلوثه.

لكن قد يطرأ في ذهن القارئ سؤال منطقي مفاده ما المشكلة في زيادة إنتاجية المحاصيل كما ونوعا لمواجهة الجوع في العالم؟ أليس هذا أفضل لحياة ومستقبل الإنسان ومساعدة الدول النامية على الارتقاء بنفسها بعد أن أمنت الطعام لشعوبها؟

أضرار المنتجات المهندسة وراثيا

  • تسبب السرطان خاصة في المعدة والقولون.
  • تشوه الأجنة وتسبب الإجهاض.
  • خفض معدلات الخصوبة والحمل.
  • زيادة الإصابة بالأمراض العصبية مثل الألزهايمر وباركنسون (الشلل الرعاش).
  • إنتاج حشرات أو ميكروبات سامة مقاومة للمبيدات أو المضادات الحيوية تستخدم في الحرب البيولوجية على الإنسان أو حتى تدمير المحاصيل الزراعية.
  • قد تحدث طفرات في الكائن المحور وراثيا مما يجعل صفاته غير متوقعة، فقد تتحول الطماطم مثلا لنبات سام أو مسبب لنوع غير معروف من الحساسية ومن ثم يصعب علاجه.
  • قد تنتقل جينات المقاومة لمبيدات الأعشاب من نبات ما لأحد أنواع الحشائش التي يستهدفها المبيد من خلال التلقيح الخلطي فتصبح الحشائش مقاومة للمبيد، فيتم استخدام كميات أكبر منه مما يعني تلوثا أكبر للبيئة.
  • القضاء على الأصول الوراثية للنباتات كالقطن المصري.
  • الخضوع لاحتكار الشركات.
  • تلويث التربة وحتى جعلها غير قابلة للزراعة.
  • قرصنة الجينات، حيث يجوب العلماء أنحاء العالم للبحث عن كائنات تحمل جينات مرغوبة لإدخالها في الكائنات المعدلة وراثيا، مع الاحتفاظ بالجينات الأصلية دون مشاركة الأرباح مع شعوب الدول التي أخذت منها هذه الكائنات، فيما يعد نوعا جديدا من الاستعمار العلمي يتنافى مع معاهدة التنوع البيولوجي.
  • إنتاج نباتات تحمل صفات وراثية لا يتم تنشيطها إلا بعد رش هذه النباتات بمواد كيميائية تنتجها نفس الشركات المنتجة للنباتات المحورة وراثيا، مما يعني مزيدا من تدمير البيئة والاعتماد على هذه الشركات، وأيضا مزيدا من النفقات وبالتالي الضغط على ميزانيات الدول الفقيرة والتي تمثل المستهلك والسوق الأول لهذه التقنيات المعروفة بإسم (جيرت) Genetic use restriction technology(GURT)

تجارب فعلية

الهند

قامت الشركات المنتجة للبذور المعدلة وراثيا باستهداف محصول القطن، فتم إدخال بذور معدلة وراثيا _تم الادعاء وقتها أنها مقاومة للإصابة بدودة اللوز الأمريكية_ مما يقلل من عدد مرات رش المبيدات وبالتالي التكاليف، وتم توزيع هذه البذور على المزارعين بسعر يساوي ثلاثة أضعاف البذور الهندية التي اعتاد المزارعون على استخدامها واضطروا للاستدانة لشراء البذور، لكن اتضح أنها ليست مقاومة للإصابة بديدان اللوز فقام المزارعون بشراء مبيدات بتكلفة أكبر لإنقاذ المحصول فتراكمت الديون ولم يستطيعوا السداد، إذ أن نسبة كبيرة من المحصول قد أصيبت فانتحر حوالي 200.000 مزارع تحت وطأة الديون مابين عامي 2011 و 2012 فتم حظر زراعة القطن في ولاية أندرا براديش.

مصر

كانت مصر حتى عام 1979 متقدمة في المجال الزراعي، خاصة في المحاصيل الاستراتيجية كالقطن والقمح وقصب السكر، لكن بعد الانفتاح الاقتصادي ورغبة من الشركات متعددة الجنسيات في دخول السوق الزراعي المصري الكبير، أصدر الرئيس الأمريكي رونالد ريجان عام 1981 قرارا بتشكيل لجنة رئاسية من خبراء الزراعة  “لبحث تطوير الزراعة في مصر” والتي خلصت لتوصيات منها إحلال زراعة الفراولة والموز والخوخ محل الزراعات السابقة، فانخفض إنتاج القطن من 10 ملايين و800 ألف قنطار بما يعادل  %60 من الإنتاج العالمي ووصل لـ 1.033.215 قنطار عام 2015، كما تم إحلال بذور القطن المحلي المصري (ذو الشهرة العالمية) ببذور مهجنة وراثيا ضعيفة الإنتاجية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

العراق

في عام  2003 أصدر المجلس الحاكم للعراق برئاسة بول بريمر قرارا برقم 81 بمنع المزارعين العراقيين من زراعة البذور المحلية بل زراعة بذور هجينة مستوردة عقيمة مع دفع رسوم براءة اختراع سنوية للشركات المنتجة إضافة لثمن البذور نفسها بموجب اتفاقية يوقعها المزارعون مع هذه الشركات، لكن حاليا يعد العراق خاليا من البذور المعدلة وراثيا حيث تم إيقاف استيراد بذور البطاطا عام 2010 وبذور دوار الشمس عام 2017 ويرجع ذلك للاكتفاء من البذور المحلية.

وختاما فإن الاحتجاج بفوائد تقنيات الهندسة الوراثية من زيادة كمية المحصول وتحسين جودته وزيادة مقاومته للإصابة بالأمراض المختلفة وغير ذلك مما يسوقه مؤيدي هذه التقنية مع الادعاء بأن الأضرار الناتجة عن الهندسة الوراثية غير مؤكدة كل ذلك لا يبرر استخدام الكائنات المعدلة وراثيا في التغذية،

فصحة البشر ليست مجالا للمغامرة ولو حتى بدافع نبيل كالقضاء على الجوع كما في زعمهم، فضلا عن السعي المحموم لجني الأرباح، من ناحية أخرى فلا يعني ذلك التوقف عن البحث في هذا المجال لأن الآخرين لن يفعلوا وإنما مواصلة البحث لكن مع وضع ضوابط صارمة لتجنب الأضرار المؤكدة و المحتملة أيضا.

المصادر

  • مجلة الفيصل.
  • مجلة البيان الصحي الإماراتية.
  • البيئة الزراعة المستدامة والمنتجات المعدلة وراثيا (أبحاث اقتصادية وإدارية – العدد الخامس 2009) جامعة سكيكدة – الجزائر.
  • موقع سودانيل.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

مصر لم لا ؟! .. عن الزراعة العضوية ومعوقاتها

الزراعة المصرية

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لغة الجينات.. لغة الله!

محمد طنطاوي

مدرس كيمياء الأراضي كلية الزراعة جامعة الأزهر أسيوط

 

مقالات ذات صلة