أن تكون إنسانا.. ماذا يعني؟! – الجزء الثالث
لا مراء أن التعامل الإنساني للمرء منا عندما يقرر أن يتصف سلوكه بسمات الإنسانية الحقة، لا يقف فقط عند التزامه بقواعد العدالة الثلاث -التي أشرنا إليها في المقال السابق من هذه السلسة- في دائرة تعامله مع الأفراد الآخرين في مجتمعه، وإنما يمتد -كما أشرنا سلفًا- إلى التزامه بهذه القواعد في دائرة تعامله مع الجماعات أو المؤسسات التي يتكون منها المجتمع الذي ينتمي إليه، وفي تعامله مع مجتمعه برمته، وفي تعامله مع أفراد، أو مؤسسات، أو جماعات المجتمعات الأخرى.
ويمكن تلخيص الملامح العامة لهذا التعامل في قاعدة كلية هي: أن يقوم هذا التعامل على تساوي الحقوق التي يطلب المرء منا من أي طرف من تلك الأطراف أن يمنحه إياها، مع الواجبات التي يُلزمه عقله بتأديتها لهذا الطرف مقابل تلكم الحقوق.
ما يترتب على التزام المرء بالمعايير الأخلاقية
فالتزام المرء منا بالمعايير الأخلاقية الثلاثة يقتضي ألا يطالب، ولو ضمنيًّا، جماعات أو مؤسسات المجتمع الذي ينتمي إليه، بذل الجهد والوقت لمنحه مقومات الوجود التي يريد (من منتجات وخدمات أساسية وترفيهية لا حصر لها)، إلا إذا كان هو يبذل -بالفعل- جهدًا مقابلًا في منحهم خدمات أو منتجات تكافئ ما بذلوه في إنتاجها من جهود.
بل إن التزامه بهذه المعايير يقتضي منه ألا يستهلك -لعلة أو لأخرى جعلت المال يسيل بين يديه- ما أنفق أبناء مجتمعات الغرب والشرق أعمارهم في اكتشافه واختراعه وإنتاجه، دون أن يبذل كفاحًا مكافئًا لكفاحهم في إنتاج مقومات هذا الوجود الإنساني الرغيد اعتمادًا على طفرة مالية ما أصابتنا كأفراد نتيجة لتوزيع الدولة لفائض مادي مؤقت توافر لديها من النفط أو القروض.
ولا ريب أن تراخيه في القيام بدور مكافئ لما يقوم به أبناء هذه المجتمعات -التي ينتمي جُلّهم لمجتمعات غير إسلامية- هو أمر قبل أن يحقق لهم تفوقًا عليه وتحكمًا في مصيره يقدح في عدالته، ويقدح من ثم في إنسانيته، لكونه لم يقدم لهم مقابلًا حقيقيًّا من كد يديه ونتاج عقله، على نحو يسهم في تطورهم، وتقدمهم، ومنحهم مزيدًا من مقومات الوجود الرغيد، مثلما فعلوا هم به كذلك.
كما أن هذا الالتزام يقتضي أيضًا ألا يُهلك نصيبه من فائض مالي ما حل ببلده فجأة من النفط في عقود قليلة، دون الاجتهاد في تنمية مردود هذا الفائض الطارئ، مما يمثل ظلمًا بينًا لأبنائه وأحفاده الذين لن يرثوا منه إلا الفقر والتخلف والحرمان، على نحو يهدد استمرارية وجودهم ذاته، في ظل عالم ليس للضعفاء فيه موطئ قدم.
كما يقتضي أن يدرك أن قدرته اليوم على التمتع بما يشاء من مقومات الحياة الرغيدة من مبتكرات الغرب والشرق عبر إنفاق القروض التي يقترضها وطنه في منتجات استهلاكية هو أيضًا ظلم جلي سوف يتحمل توابعه الأبناء والأحفاد، ناهيك عن أثر هذه القروض على استقلال إرادة وطنه، وخطرها على سيادته.
كما يقتضي ألا يُهلك كل ما ورثه عن ذويه من أموال -إذا كان يمتلك القدرة على الكسب والعطاء- ثم يترك ورثته فقراء يتكففون الناس، لأن ذلك أيضًا أمر يغاير الفطرة الإنسانية العادلة والعقلانية الإنسانية السوية، ويجعل فاعلية عقلانيته لا تختلف عن فاعلية عقلانية الحيوان القاصرة التي لا تنظر إلى آثار سلوكها خارج ما يحقق مصالحها الآنية قيد أنملة.
كما يقتضي أيضًا ألا يعتمد في توفير مقومات حياته المادية على إحسان الآخرين (أفراد، جماعات، مؤسسات، إلخ) مع قدرته على العمل والإنتاج، على نحو يغنيه عن تفضل الآخرين عليه وإحسانهم إليه، ذلك لأنه عندما يستحل اكتساب مقومات حياته تلك من كد غيره وعرقهم، فإنه يقترف سلوكًا لا يغاير كثيرًا سلوك ذلكم الذي يسرق عامدًا أموالهم التي شقوا في جمعها.
الالتزام بمبادئ العدالة يعني الالتزام في الفعل والقول
بل إن التزامه بمبادئ العدالة يجب أن يمتد -عندما تتحقق له الاستطاعة- إلى حث الآخرين (أفراد، جماعات، مؤسسات، مجتمع بأسره) على التمسك بتلكم المبادئ في تعاملهم مع غيرهم، ونهيهم عن خرقها، حتى لو لم يكن هو طرفًا مباشرًا في هذا التعامل، ولن يصيبه من عدم عدالة هؤلاء ضرر، ولن يناله من تمسكهم بها نفع، لأن توقفه أو تقصيره هنا، هو في جوهره صورة جلية من صور عدم العدالة التي لا تليق بإنسانيته،
ناهيك عن أن خرق العدالة من قبل أي طرف، وسكوته على ذلكم الخرق، سيُعرض لَبَنات المجتمع، أو جماعاته، أو مؤسساته، أو المجتمع بأسره -ولو بعد حين- لضرر قد يؤدي إذا ما تراكم أثره إلى مخاطر جمة، قد تصل إلى تفكك هذا المجتمع، وستصل إذا ما أصبح الظلم هو السيد في مسالك أبناء هذا المجتمع إلى زواله من خارطة الوجود.
بل إن ذلك الالتزام يمتد -إذا ما امتلك القدرة- إلى وجوب تقديمه النصرة لمن يقع عليه من غيره أي ظلم، لأنه إن حبس عنه قدرته تلك، حاسبه الله بمقدار الظلم الذي كان يستطيع رفعه فتركه ولم يرفعه، لكونه بذلك يصبح شريكًا في وقوع ذلكم الظلم، فالظلم يكون بالترك كما يكون بالفعل.
وهكذا، فالتزام المرء منا بممارسة العدالة في كل تلكم الصور -التي عرضناها سلفًا على سبيل المثال لا الحصر- تعني التزامه في فعله وقوله ومشاعره بما تمليه عليه فطرته الإنسانية السوية. وهو ما يؤهله لأن يصبح لبنة سليمة في بناء مجتمع إنساني قادر على أن يوفر لنفسه مقومات البقاء.
وإذا كان التزام المرء منا بهذه السمات الأخلاقية في تعامله مع الآخرين كفرد يمنحه صفة الإنسانية، فإن إنسانيته لن تكتمل ما لم تسود هذه السمات سلوكه عندما يتصرف كعضو منتمٍ لمؤسسة أو جماعة مع الأفراد والجماعات والمؤسسات والمجتمعات التي يتعامل معها، وهذا ما سوف نفصل له بمشيئة الله تعالى في المقال اللاحق.
اقرأ أيضاً:
كيف تعرف الواجبات المفروضة عليك كما تعرف حقوقك؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا