مقالات

أسوأ خطة دفاعية .. هل سمعت عن حريق مدينة الفسطاط زمن الفاطميين؟

الفسطاط كانت مدينة صاخبة، مزدحمة مليانة ناس من كل الأعراق العربية، حوالين أكبر مسجد “عمرو بن العاص”، ومليانة حواري وبيوت عالية شبه بعض وصلت لـ٦ أدوار وأكتر، فيها فرعين للنيل وسوق من أكبر الأسواق التجارية في المنطقة على ضفاف النيل، بجانب قصور زي دار الإمارة،

ومع تولي الدولة الأموية الحكم اتسعت الفسطاط أكتر، بقت تلت مساحة بغداد تقريبا، فيها حمام فاخر “حمام الفار”، وقصر كبير جدا اسمه الدار البيضاء اتبنى لمروان بن الحكم، ودار السلسلة، واسطبلات خيل وخلافه، بجانب حارات القبائل اللي عاشت في الفسطاط.

تخيلتوها؟ طيب.. كل الآثار دي اختفت، مفاضلش منهم غير مسجد عمرو بن العاص بس، طيب كل ده راح فين؟ وإيه علاقة ده بأسوأ خطة دفاعية تجاه عدو؟

عصر نفوذ الوزراء

كان فيه فترة معروفة في أواخر تاريخ الدولة الفاطمية، اسمها عصر نفوذ الوزراء، دي فترة الوزراء كان معاهم كل النفوذ، وبيضربوا في بعض، وبيحكموا مصر حرفيا، والإمام الفاطمي مجرد اسم لا غير، وعلى الجانب الآخر الصليبيين عمالين يسرقوا حتة حتة من الشام، والخليفة الفاطمي قاعد ملوش لا نفوذ ولا سلطة ولا قرار، الأمر كله في إيد الوزراء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في سنة ١١٦٣م كان فيه خناقة كبيرة بين اتنين من الطامعين في منصب الوزارة، أصل ده منصب الحاكم يعني، الاتنين دول هما “شاور” بن مجير السعدي حاكم الصعيد _منصب قبل الوزير على طول، وأبو الأشبال “ضرغام بن عامر اللخمي” أمير فرقة العسكر المغاربة في الدولة الفاطمية.

بداية العركة..

بص، الاتنين كانوا موالين لوزير كبير اسمه “الصالح طلائع بن رزيك” اللي كان بيحكم مصر والناس بتحبه وهوا اللي عينهم في أماكنهم دي، لكن في حياته الاتنين نفوذهم كبرت، وبينوا طمع في منصبه، فمقدرش إنه يشيلهم من المناصب دي،

فقبل ما يموت وصى ابنه “العادل رزيك بن طلائع” بأنه يسيبهم في حالهم وميخلعهمش عن المنصب ده، ومات فعلا وتولى ابنه العادل مكانه، لكن العادل منفذش وصية أبوه وقرر إنه يخلع شاور من المنصب، وبعت لشاور يعزله من منصبه.

معركة دموية

“شاور” جاله جواب الخلع ده وقطعه ورفض القرار، وجمع جيوش من الصعيد وسلحهم واتجه بيهم للقاهرة، ودخل في معركة دموية كبيرة مع الوزير “العادل رزيك بن طلائع” قدر فيها إنه ينتصر على رزيك ويقتله، وينصّب نفسه وزير مكان رزيك سمى نفسه أمير الجيوش،

وبدأ يستمتع بمنصبه الجديد ويعمل شوية حاجات كده، ويضيق على أهل القاهرة ويستغل نفوذه، فكسب سمعة زي الزفت، حلو؟ الكلام ده معجبش مين؟ ضرغام، ليه يبقى وزير هو أنا مت؟ فقام جمع جيشه وأنصاره، واتجه إلى القاهرة عشان يطالب بمنصب الوزارة، وفعلا بدأت المناوشات اللي دخلت الفريقين في معركة كبيرة استمرت لفترة بيتقاتل فيها الفريقين على منصب الوزارة،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لحد ما ضرغام قدر إنه يكسب المعركة دي في النهاية، وقتل ابن شاور الكبير “طيء”، وانسحب أهل القاهرة من المعركة لكرههم لشاور اللي كانت سمعته مش لطيفة مع الخليفة العاضد، فما كان من شاور إلا إنه يهرب بره القاهرة، ويدور على أي حد يقف في ظهره ضد ضرغام.

الخيانة الأولى..

شاور ملقاش حتة يهرب ليها غير الشام، هناك كان فيه حاكم معروف تاريخيا بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، دخل قصره وقعد معاه وطلب منه إنه يعاونه في الحرب دي ويستعيد وظيفته كوزير للدولة الفاطمية،

في مقابل إنه يدفع لزنكي تلت دخل مصر بعد اقتطاع العساكر، ويبعت معاه أمير من الشام يبقى سلطته لنور الدين زنكي بس، وفعلا بعت زنكي جيش كبير مع شاور بقيادة “أسد الدين شريكوه” واللي كان معاه ساعتها “صلاح الدين الأيوبي” عشان يحاربوا ضرغام.

الجيوش تلاقت، ودارت حرب جديدة بقيادة أسد الدين شريكوه أمير دولة زنكي، وبين جيش ضرغام، حرب فضلت أيام كان بيتقدم فيها شريكوه ببطء، وضرغام بيقاوم وينسحب، وحاول إنه يستنجد بالصليبيين وطلب مساعدة عموري الأول ملك بيت المقدس،

إلا أن شريكوه وصل لباب القاهرة الأول، واتحاصر ضرغام لحد ما عامة الناس قتلوه لما عرفوا إنه حاول يتواصل مع الصليبيين، ورجع شاور تاني وزير، بس المرة دي وزير وعليه رقيب اللي هو “أسد الدين شريكوه” وصلاح الدين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الخيانة الثانية..

شريكوه تحصن في بلبيس، وشاور رجع وزير في القاهرة، ولما رجع وزير تاني، معجبوش الموضوع، هو عايز يستولى على الحكم لوحده، ميبقاش فوقيه سوبرفايزر ممكن يطمع في الحكم في أي وقت، ومش أي رقيب بقى ده فيه تحتيه كمان واحد تاني اسمه صلاح الدين في عينيه بوادر أمل كده، فاللي هو أنا هستفيد إيه وأنا وزير خايف كده؟

فشاور قرر إن الاتفاق اللي عمله مع نور الدين زنكي ده ملوش أي لازمة، وتراجع عنه وطلب من أسد الدين شريكوه إنه كفاية كدة يا معلم وارجع بقى على الشام، ولما لقى إن الموضوع ده مأقنعش شريكوه ومش هيمشي، قرر إنه يلعب لعبة كده يخوف بيها الزنكيين.

الخيانة العظمى..

شاور كان بيدور على أي حاجة يتخلص بيها من اتفاقه مع زنكي، وعايز ينفرد بالحكم، فمين الخطر اللي ممكن يقف في ظهره ويخلصه من كل ده؟ الله ينور عليك، الصليبيين، فما كان من شاور إلا إنه بعت لعموري ملك بيت المقدس وقتها يخوفه من نفوذ نور الدين زنكي ويحثّه على إنه يحارب الزنكيين في الشام اللي كانوا مصدر خطر على الصليبيين هناك، ويخوفه أكتر لو إن زنكي سيطر على حكم مصر ساعتها الصليبيين هيتحاصروا.

فعموري استغل الفرصة اللي كان مستنيها بقاله مدة، وقرر إنه يجهز جيش من الصليبيين بحجة إنه بينصر شاور يعني، وشاور فتحله السكة جوة مصر، ودخلت الجيوش الصليبية مصر وحاصرت بلبيس لمدة ٣ شهور، لحد ما أجبروا أسد الدين شريكوه إنه يرجع على الشام تاني، هل خلصت الأمور لحد كده؟

المهزلة الكبرى..

سنة ١١٦٧م شاور خاف من نور الدين زنكي على الرغم من إن شريكوه كان مشي من مصر فعلا، فبعت لعموري تاني يستدعيه للقاهرة عشان يدافع عنه، والمراسلات دي وصلت لنور الدين زنكي اللي شاف إن شاور هيودي مصر والشام في داهية هو كمان بمراسلاته للصليبيين دي،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فبعت شريكوه وصلاح الدين لمصر بجيش عسكروا في الجيزة، وعموري وصل لمصر هو كمان بجيش صليبي عسكر تحت أسوار الفسطاط، وقامت معركة بينهم اسمها معركة البابين، انتصر فيها شريكوه على عموري.

حاول شريكوه إنه يدخل القاهرة لكنه معرفش، فانسحب على الصعيد في محاولة منه إنه يستدرج جيش شاور أو جيش عموري ويهزمهم لكن محاولاته بردو فشلت، حاول شريكوه إنه يبعت رسول لشاور يحثه فيه على مواجهة الصليبيين ويتعاون معاهم، لكن شاور قتل الرسول ده ورفض التعاون مع شريكوه.

حبة صبر عشان نفهم بقى..

فيه ٣ فرق بتنازع على الحكم، شاور السعدي في جهة، وعموري الصليبي في جهة، وشريكوه نائب نور الدين زنكي في جهة، التلاتة بيحاربوا بعض، وواقفين قصاد بعض، فيه تحالف بين شاور والصليبيين،

وفيه محاولة للتحالف بين شريكوه وشاور، والإسكندرية بقت تحت حكم صلاح الدين وخارج عن المواجهة من جهة رابعة، والخليفة العاضد في الشلاحات، ومحدش فاهم مين مع مين.

اللي حصل بعد كده إن شريكوه راح على الإسكندرية، وعموري راح هو كمان على الإسكندرية، وبدأوا مفاوضات بعيد عن شاور خالص، وفي المفاوضات اتفقوا على إن الاتنين ينسحبوا من مصر تماما، ويتبادلوا الأسرى، وشريكوه يسمح للصليبيين إنهم يدخلوا الإسكندرية ينقلوا الجرحى، ويا دار ما دخلك شر،

وفي جهة تانية اتفق عموري مع شاور اتفاق سري بأنه يسيب شوية عساكر صليبيين في القاهرة على أبوابها عشان يضمن إن زنكي مش هيخش القاهرة، مع وعد بأن مصر تبعت ١٠٠ ألف دينار دهب للصليبيين كل سنة، وخلصت الحكاية على كده وانسحب شريكوه وانسحب شوية من الصليبيين.

مذبحة بلبيس..

سنة ١١٦٨م وبعد انسحاب كل الأطراف، ملك بيت المقدس اللي شهد كل المهازل دي، فكر مع نفسه كده، مدام الدنيا لخبطة في مصر ومحدش عارف حد بالشكل السيئ ده، طب ما أبعت حملة تحتل مصر وتنتهز الفرصة الجميلة دي؟ واللي زود من قناعاته دي أن الجنود اللي سابهم على أبواب القاهرة كانوا بيبعتوله كل فترة يقنعوه إن الدنيا زبادي خلاط وإنه لازم ييجي يحتل القاهرة.

فملك بيت المقدس اتلكك بقى، اللي هو اتهم شاور إنه بيراسل نور الدين زنكي _اللي هما أعداء أصلا_ وإنه هيمتنع عن دفع الدنانير الدهب للصليبيين، وقام مكون جيش جرار من الصليبيين وقرر إنه ييجي يحتل مصر،

وبعد ١٠ أيام كان وصل لبلبيس عشان يرتكب أسوأ مذبحة شافتها محافظة الشرقية في تاريخها، وهي مذبحة بلبيس اللي دور القتل في كل سكانها مسلمين ومسيحيين لدرجة إن محدش من سكان بلبيس فضل عايش وقتها، كلهم اتقتلوا رجالة وستات، أسوأ مذبحة شافتها مصر.

هنا بقا اسوأ خطة دفاعية في التاريخ..

شاور وصلتله الأخبار، في لحظة واحدة بقى محاصر من الجميع، الزنكيين من بعيد، الصليبيين على مشارف القاهرة والفسطاط، وفجأة بقى لوحده وخلاص إنت في لحظة هتتحول عشان تكون إمارة صليبية، وكل اللي بتحاول تبنيه بقالك سنين هيتهد، فملقاش قدامه حلول نهائي، لحد ما لمعت في دماغه حل واحد ممكن يدافع بيه عن وزارته.

صحي الصبح، وأمر كل سكان الفسطاط إنهم يسيبوا بيوتهم ودكاكينهم وحياتهم كلها ويمشوا يروحوا يقعدوا في القاهرة، لحد ما الفسطاط فضيت خالص من الناس، وقام مولع فيها!

اه والله، ولع في الفسطاط، في كل شبر فيها، المدينة كلها بتتحرق، نار عظيمة كانوا بيشوفوا دخانها من على مسيرة ٣ أيام، حريقة استمرت ٥٤ يوما كأكبر حريقة في وقتها، والسبب؟ قال عشان يهدد الصليبيين ويخوفهم وميخلهومش يعرفوا يدخلو الفسطاط أو يتحصنوا فيها، وبعدين يهدد الصليبيين إنهم لو دخلوا القاهرة هيحرقها هيا كمان، شوف إزاي؟!

حرق الوزير شاور مدينة الفسطاط عن بكرة أبيها، نهاها من التاريخ خالص، بقت ركام منجيش منها غير مسجد عمرو بن العاص بس وبقايا حصن بابليون، عشان قال كده بيدافع عن مصر، متخيل إنه السبب في إن مفيش آثار كتير من الفسطاط؟ متخيل إن دي تعد أسوأ خطة دفاعية عرفها التاريخ؟ دافع عن مدينة الفسطاط بأنه ولع فيها ودمرها تماما، على مدار شهرين.

إيه رأيكم في الخطة العظيمة؟ اللي بيصنفها المؤرخين كأسوأ خطة دفاعية اتحطت في مدينة قبل كده؟

اقرأ أيضاً:

أكثر التجارُب العلمية رُعبًا في التاريخ

التاريخ كما يجب أن يكون

أقدم زقاق في مصر

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

محمد أمير

كاتب ومؤرخ وصانع محتوى

مقالات ذات صلة