العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السابع
المدرسة المشَّائية: (5) الفارابي: المعلم الثاني وفيلسوف المسلمين
“آراءُ أهلِ المدينةِ الفاضلة” (1)
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشات السابقة (ج 4، ج5، ج6) عن فيلسوف العرب الكندي. ولنبدأ –في هذه الدردشة– بالنموذج الثاني لفلاسفة المدرسة المشَّائية: المعلم الثاني: الفارابي.
الفارابي: المعلمُ الثاني وكتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة”
الفارابي (أبو نصر محمد بن محمد بن طَرْخَان بن أُوْزَلَغْ من مدينة فاراب (259 هــ/870م- 339هــ/950م). وأهم كتبه: “آراء أهل المدينة الفاضلة” (تقديم وتعليق ألبير نصري نادر، ط6، دار المشرق، بيروت، 1991م). وقيل ألفه بين بغداد ودمشق وعمل فصوله في مصر سنة 337هـ. هذا الكتاب الذي جمع، في سبعة وثلاثين فصلًا، أهمَ المسائل الفلسفيةِ والميتافيزيقيةِ والسياسيةِ والاجتماعيةِ والنفسيةِ والأخلاقية، ولم تكن حصيلةُ الجمعِ تجميعًا من فلسفات يونانية وغير يونانية، بل تركيبًا فريدًا انصهرتْ فيه موادُ البناء الأجنبية (الفلسفة) بمواد البناء المحلية (الدين) فأنتجت هندسةً معماريةً فكريةً فارابية رائدة: فلسفية ودينية.
تلخصتْ فلسفةُ الفارابي في تعريف الناس بالآراء الفلسفية التي تجعل من مدنهم فاضلةً وسعيدةً، وتجعل منهم أناسًا فضلاءَ وسعداءَ. وفي ذلك يقولُ الفارابي: “فأما الأشياءُ المشتركةُ التي ينبغي أنْ يعلمَها جميعُ أهلِ المدينةِ الفاضلةِ فهي أشياء، أولها: معرفة السبب الأول وجميع ما يوصف به (واجب الوجود وصفاته)، ثم الأشياء المفارقة للمادة، وما يوصف به كل واحد منها بما يخصه من الصفات والمرتبة (العقول العشرة)، إلى أن تنتهي من العقول المفارقة إلى العقل الفعَّال (نظرية الفيض: تفسير صدور الكثرة عن الأول)، ثم الرئيس الأول وكيف يكون الوحي (نظرية الفيض: تفسير النبوة)، ثم المدينة الفاضلة وأهلها والسعادة التي تصير إليها أنفسهم (المدينة الفاضلة)، والمدن المضادة لها (المدن غير الفاضلة)، وما تؤول إليه أنفسُهم بعد الموت (المصير)”.
فلسفة الفارابي للمجتمع والدين
وعليه، يمكننا مقاربة فلسفةِ الفارابي، وذلك على النحو الآتي:
الله تعالى: واجبُ الوجودِ وصفاته.
الميتافيزيقا الفيضية: صدورُ الكائناتِ عن الأول:
- التفسير العقلي لوجود الكثرة (جميع الكائنات) عن الواحد (الأول).
- التفسير العقلي لظاهرة النبوة.
المدينة الفاضلة والمدن غير الفاضلة:
- احتياج الإنسان إلى الاجتماع والتعاون: الإنسان كائن اجتماعي.
- تقسيم المجتمعات: كاملة وغير كاملة.
- الحاكم الفاضل: رئيس المدينة الفاضلة.
- المدن غير الفاضلة ومصيرها.
الله تعالى: واجبُ الوجودِ وصفاته
أولُ ما يجبُ معرفتُه من آراء فلسفية: اللهُ: واجبُ الوجود
كلُ شيء –في الرؤية الكونية الفارابية– إنما يبدأ بموجد الوجود: الله تعالى. إذ يبدأ كتابُ “آراءِ أهل المدينة الفاضلة” ببحث الإلهيات، فأول ما يجب على أهل المدينة الفاضلة معرفته من آراء فلسفية هو: البرهان على وجود الله –وهو برهان أصيل للفارابي– برهان الواجب والممكن.
تأمل الفارابي الوجودَ وقسمه إلى قسمين لا ثالث لهما: الموجود الواجب والموجود الممكن، فالله هو الموجود واجب الوجود (يعني أن وجوده واجب بذاته، ويستحيل ألا يوجد، فمتى فُرضَ غيرَ موجودٍ لزمَ منه مُحَالٌ). وكل ما عداه تعالى هو ممكن الوجود (أي بقية الكائنات التي يمكن أن توجد ويمكن ألا توجد، فإذا كانت موجودة فمن الذي أوجدها؟).
واجب الوجود تعالى هو الذي أوجد جميع الموجودات الأخرى، وأتى بها إلى الوجود، فهي كائنات ممكنة محتاجة إلى مُوْجِدٍ يوجدها، والذي أوجدها هو واجبُ الوجود سبحانه، فالله تعالى، عند الفارابي، هو: “الموجود الأول والسبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها”.
صفاتُ واجبِ الوجود
أعطى الفارابي لله الصفات التي تليق بتنزيهه وتوحيده: فهو الأول الواحد، وليس له شريك، وليس له شبيه، ولما كان الأول كمالًا، فوجوده أسمى وجود، وليس للأول ضد، “بريء من جميع أنحاء النقص”، هو أزلي قديم وموجود بذاته (أي لم يسبقه زمان، فليس قبله تعالى شيءٌ)، وهو ليس بمادة، ولا أيضًا له صورة، ولا أيضًا لوجوده غرض وغاية حتى يكون، ولا أيضًا استفاد وجوده من شيء آخر أقدم منه، فإذن ليست له علة فاعلية.
الأول لا يمكن تحديده أو تعريفه، إذ أنه غاية في البساطة، وهو ليس بجسم، هو وَحْدَةٌ مطلقةٌ، غيرُ منقسمٍ، ولما كان الأول غير مادي، فهو بجوهره عقل بالفعل ويعقل ذاته، وذاته معقولة، فهو عقل وعاقل ومعقول. ولما كان الأول يعقل ذاته فهو علم، وعلمه هو جوهره فهو عالم. وهو حق وحقيقة، لأنه موجود، وهو حياة وهو حي. ثم إن الأول لا يعشق إلا ذاته، وأنه كمال مطلق، وهو غير محتاج إلى غيره، ففيه العاشق والمعشوق واحد. ولكن كل ذلك جوهر واحد غير منقسم ولا متكثر.
خلاصة تأويلية:
إنها سعادة إنسانية مبنية على معرفة إلهية: تلكم هي أول الآراء التي يجب، على أهل المدينة –لكي تكون مدينتُهم فاضلةً سعيدةً– أن يعرفوها، عن سبب وجودهم: الله تعالى، وفي معرفتهم له تعالى سببُ سعادتهم وسببُ جعل مدينتهم فاضلةً وسعيدةً.
لكن كيف صدرتِ الكائناتُ عن الأول تعالى؟ في الدردشة القادمة –بإذن الله– نتعرف نظريةَ الفارابي الفيضية، وكيف أنَّ الموجوداتِ كلَها صدرتْ، بالفيض، عنه تعالى.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا