مقالات

لقد ذهبوا لصيد الأسماك, لكن هذه المرة كنت أنت السمكة فاحذر!

الإعلام وعملية صيد الأسماك

دوما ما كانت والدتي تصحبني لامتحانات الثانوية العامة. ربما لم أكن أقَدِّر هذا المجهود الجبار الذي كانت تبذله معي في وقتها، فنحن في هذه السن نأخذ الكثير من الاهتمام الذي نحظى به كحق مكتسب لا كفضل ممنوح، ولا نفيق من ذلك الإحساس الكاذب إلا بعد أن نكبر، لنجد واقع الوحدة يصفع وجوهنا لنندم على كل لحظة كنا نحظى فيها باهتمام الوالدة العطوفة ولم نشعر بمدى جمال ورقة هذا الاهتمام.

يمضي صغير الكنغر فترات طويلة في كيس الأم يرضع ويتغذى ويحتمي فيه من المخاطر، وكذلك كانت أمي تحتويني في نوع آخر من الأكياس أو الأغلفة، إنه غلاف الوقاية المعنوية والعاطفية! يذهب البعض في أفكارهم ليقول أن الرجل يبحث في شريكة حياته عن من تستمر في توفير ذلك الكيس له ولو بشكل جزئي؛ فالرجل كبر في السن أو صغر، سيظل يفتقد ذلك الاهتمام والحنان إلى أن يجده فيمن تسكن لها روحه وتهدأ عندها جوامحه.

وذهب أصحاب السلوك والعشق الرفيع لما هو أبعد من ذلك بأن العاشق الحقيقي فعلا هو من يعشق الكمال المطلق والإله، وإنما يكون عشقه لتلك الكمالات الجزئية كحنان الأم أو كعطف الزوجة هو مثال تطبيقي على عشقه للكمال الأعلى، فجمال تلك المشاعر يذكره بجمال العطف الإلهي وطمأنينة النوم في كنفه. هي بعض المشاعر الرقيقة، كالشرر توقد الكثير من شمعات النور في قلوب تحجرت مع مرور الزمن وكثرة الانشغال بالمال والعمل وغيرها من نشاطات الحياة الرتيبة.

عملية صيد إحترافية

كنا نذهب أنا وأمي في الصباح الباكر بعد أن نتناول الإفطار سويا للمدرسة التي يعقد فيها الامتحان. كانت المدرسة تطل على أحد تفريعات قناة المحمودية بالإسكندرية. أتذكر ذلك المشهد جيدا الذي كان يتكرر كل صباح، فالصياد يركب مركبه الصغير الرشيق مع زملائه، بعد أن جهز شباكه وطعمه الذي سيجذب به الأسماك ، ثم يبدأ في مساره المعتاد في القناة ذهابا وإيابا وهو ممسك بقطعتين من الخشب يدق بهما على خشب المركب ليصدر نقرات متراتبة بعد أن ألقى ببعض فتات الخبز على سطح الماء. لوحة ربما كان ينبغى أن أكون رساما لكي أستطيع أن أحفظ هذا المشهد الخلاب بألوان الزيت على القماش لكى أستعيد تلك الذكريات كلما رأيتها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عندما شاهدت ذلك المشهد لأول مرة لم أفهم ماذا يحدث، فلقد اعتقدت بسذاجة أنهم يفعلون ذلك لتمرير الوقت وكسر الملل! ربما سيدندنون بعض الألحان وأن هذا النقر هو بمثابة الافتتاحية والتسخين قبل الموال، لكن والدتي وصفت لي كل تلك الخطوات وأسبابها كي أفهم الحقيقة. كبرت مع الأيام والشهور والسنين وربما ضعفت في عقلي ذاكرة هذا المشهد، واستسلمت كما في كثير الأحيان لضغط الحياة ومشاغلها.

شباك لافتات الإعلانات

منذ أيام قليلة سافرت من الإسكندرية للقاهرة، ومررنا في السفر بالطريق الدائري. أعتاد عند السفر أن أرمي بنظري للأخضر المترامي في الأفق، فكم هو جميل ذلك البساط الممتد الذي تلونت كل رقعة فيه بدرجة مختلفة من درجات الاخضرار!

هي لوحة أخرى تجعلني أتمنى لو كنت رساما كي لا تفوتني مثل تلك الفرص في اقتناص مشاهد خلابة من الطبيعة، ولكن كلما حاولت أن أمد بصري نحو ذلك الأفق، قاطعتني اللوحات الإعلانية العملاقة التي افترشت الطريق يمينا ويسارا، إن صاحب هذه الفكرة يعرف ما يفعله بدقة، فارتفاع اللوحات يقع بين مستوى الناظر ومستوى الأفق حيث مرمى بصر المتأمل التلقائي بالضبط، فلا يمكنك ألا تقع في شباك تلك الإعلانات مهما حاولت،

شباك تذكرني بشباك ذلك الصياد الذي كان يقرع بعصيه الخشبية لينبه السمك من نومه على وجبته الخفيفة المرشوشة لكي يقع فريسة شباكه ما أن يذهب ليأكلها.

مشاهد لا تدعو للرقي

تنتظر القنوات الفضائية اقتراب شهر الفضيلة كل عام كي تنشر تلك الشباك. فتجد كل الطرقات وواجهات العمارات وحتى المترو والحافلات قد ارتسمت وتوشمت بتلك اللافتات. لم تكن تلك اللافتات لتضايقني لو أنها كانت تدعو لما أرى فيه رقيا للإنسان بعلمه أو بخلقه، بالعكس ربما كانت ستبهجني حين إذٍ أكثر من مشاهد الطبيعة. لكنها لافتات حملت السم في العسل، والشتائم في قالب الفن، والإغراء السفيه في قالب الأزمات الاجتماعية والدراما العاطفية، والسيولة الفكرية في قالب الوجاهة الاجتماعية، والرعونة والتسيب الأخلاقي في قالب الحرية والإنسانية، والقسوة والعنف في قالب الرجولة والنخوة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مشاهد وصور ولقطات مفرطة في استفزاز الغضب والشهوة والاستهلاكية في النفوس لدرجة تلهيك عن المعاني الأخلاقية والاجتماعية التي كان من المفروض لهذه الفترة الخاصة من السنة أن تثريها وتنميها في نفوسنا.

ماذا حدث للفن ؟

كان الفن في القديم يعتمد على النظرة المثالية للمجتمع، فربما خرجت الإبداعات الفنية الأولى من رحم نارمر أو “مينا” موحد القطرين وأحمس طارد الهكسوس، وحمورابي القانوني، وكامنجي حكيم الأخلاق، أو من رحم قصائد هومر اليونان البطولية عن فضائل أبطال الأوليمب، ومثالية أفلاطون ومدينته الفاضلة، أو القصص الإنجيلية والتوراتية عن الأنبياء وتهذيب النفس والأخلاق.

فرأينا ملاحم تجسدها لوحات ومنحوتات ومؤلفات ومسرحيات الفن على مر التاريخ كمحاولة لتنقش الفضيلة والسمو في عقول المجتمعات. مجتمعات آمنت أن الرقي لا يكون فقط في وصفة الأكل المستعار من جزر “الكاريبي”، مع التوابل الباهظة الثمن المستوردة من أواسط آسيا مع لب الصنوبر الذي سافر لنا من أسقاع “اسكندنافيا”. ونسينا أن الفلاح الفقير في آسيا أو العامل البسيط في جزر الكاريبي ربما لا يستطيع أن يأكل مثل تلك الوجبات الباهظة التي يوهمنا الإعلام أن هذا هو أكلهم الطبيعي، فكن مثل الكاريبي!

التفنن في إثارة الغرائز والشهوات

فيتحول برنامج الطبخ من محاولة لمساعدة المنزل والأسرة على تقديم وجبات شهية وصحية من خامات متواضعة ومتوفرة للجميع، يتحول هنا للوحة إعلانات كبيرة للمستلزمات والتوابل التي ربما تستوردها لنا نفس الشركات التي ترعى البرنامج. فبدون أن يذكر مقدم البرنامج اسم الماركة التجارية، وفي سوق يغلب عليه الطابع الاحتكاري في الاستيراد لكثير السلع التبذيرية، فإن مجرد ذكر هذه المقادير المستوردة في الوصفة يعد ضمنا إعلانا للمستورد الوحيد لذلك النوع من الإضافات أو التوابل أو الثمار الاستوائية.

فيتحول الهدف من ترويض النفس وتربية الأسرة والحرمان والشعور بمعاناة المستضعفين، لتنافس على الإفراط وتزاحم موائد الإفطار بأصناف وتلال من المأكولات التي تغرقنا أكثر فأكثر في شباك الصياد بعد أن امتلأت بطوننا بوجبته الزائفة التي لا تعالج بل تزيد من أمراضنا النفسية والاجتماعية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لن أتطرق بالتفصيل للملف الشائك الآخر وهو ملف الشهوة. فيكفينا أن نشاهد الكم الكبير من التعري والإغراء والعناوين المستفزة التي تعنونت بها تلك المسلسلات التي ندخلها بيوتنا كما قال المسيح “كالذئب في قطيع الأغنام”. كم من أسرة هدمت بسبب نزوة فارغة غرزتها في نفس وعقل الزوج أو الزوجة بسبب ممثلة مسِفَّة تدعو مسلسلاتها لهدم وتدمير ثوابت ودعائم المجتمع الجيدة؟ كم من بنت وولد لم يرعو النخوة والكرامة والأداب العامة والأخلاق بسبب قصة تهيم بالعاطفة المحتارة بين البطل والبطلة –لم يترك منها المخرج إلا بعض التفاصيل الخاصة جدا ربما رغما عنه بسبب الرقابة– قد جيشت مشاعر كثيرة جدا لدرجة الجنون في نفوس هؤلاء الشباب لدرجة أخرجتهم عن وعيهم؟

الأمر أشبه بعملية صيد الأسماك

وحالنا كل عام كحال تلك الأسماك المسكينة في شبكة الصياد كل صباح، وكأني بهم في كل ليلة يجتمعون قبل أن تبزغ شمس الصباح ويأتي الصياد بمصائده (أو في حالتنا، الإعلام بمصائبه) ويحصون خسائر معركة الصباح الماضي ويحذر بعضهم بعضا من خطر اللحن الساحر الذي يقرعه الصياد، أو رائحة وطعم الخبز الشهي الذي يلقيه على سطح الماء لتأكله الأسماك فينكشف له موقع السرب ونقاط ضعفه، أو الخرزات والكور الملونة المبهجة التي يزين بها شباكه لتسحر أعين الأسماك فيينجذب لها كالحديد للمغناطيس، فيقع في الفخاخ المنصوبة،

وإذا بالأسماك وهي تتكلم وتتباحث تسمع الصوت المألوف من بعيد، صوت ضربات الخشب على الخشب المألوفة، فينقطع الاجتماع قبل أن ينتهي لاستراتيجية واضحة ذات بدائل واقعية تمنعهم من الوقوع في شراك الصياد. فتذهب الأسماك تحت تأثير التنويم المغناطيسي أو مثل “الزومبي” لتأكل الطعم وتنبهر بالألوان والمغريات ثم تقع في الشباك ويعود الصياد بعد أن امتص ثروات “الشعب”… أقصد الأسماك ونهب مقدراتها دون أدنى مقاومة منها.

نريد إعلام هادف

إننا نستحق ويجب أن نسعى لإعلام وبرامج تلفزيونية ومسلسلات ترقي النفس، نريد أن نعود لتلك الأيام القديمة الرائعة التي كان يلقانا فيها “ونيس ومايسة” على كل إفطار بفكرة أخلاقية وتهذيبية جديدة في إطار كوميدي خفيف وطريف. أو “أبلة فضيلة” التي كانت تلقانا بطريقة كلامها الهادئة الحنونة لتزرع فينا الجميل وتنزع منا الخبيث في كل صباح بصوت الجدة الرقيقة المحبة لأحفادها.

نريد مسلسلات مثل “المال والبنون” وكيف دمر صراع الثروة والكنز ذلك الرجل حتى خسر كل شيء أو “حسن أرابيسك” ابن البلد “الصنايعي” فنان النحاس الذي أبهرنا بلوحاته الفكرية والثقافية التي نقشها في قلوبنا قبل أن ينقشها على صفائح النحاس، أو فوازير “عمو فؤاد” بمواقفها الطريفة وهزلها الخفيف.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حلول عملية حالية

وبينما تبحث أيادي معينة عن التخريب والإفساد، وتبحث أيادي أخرى عن البديل والتجديد، فإن بعض الأيادي عليها أن تمسك بمقبض الباب وتمنع دخول الذئب للمنزل. ذلك الأب وتلك الأم التي تحمي أولادها من ذلك الهجوم الشرس الذي يفتك بأسرتنا المصرية بمعتقدات ومقاييس وطباع حياة مزيفة ومستوردة مفروضة علينا لا بالطبع ولكن بالتطبيع. فهي أفكار دخيلة لا تعبر عن ثقافتنا الشرقية ولا نخوتنا ولا عزتنا ولا كرامتنا.

ذهبت بعض الدعوات الجريئة على صفحات التواصل الاجتماعي لأفكار جيدة كشراء بروجكتور أو شاشة تلفاز متوسطة الحجم بدلا من طبق “الدش” و”الرسيفر” وتحميل برنامج ترفيهي متنوع أنت الذي تختار مكوناته لأسرتك وفق مبادئك الأخلاقية من على الإنترنت وتعرضها لهم في سينما منزلية بدلا من أن يفرض عليك محتوى من الخارج لا تريده. أفكار بسيطة لكن جيدة وإيجابية لن تؤتي ثمارها إلا بقلوب جريئة ونفوس مشمئزة من واقع الإسفاف الذي نعيشه لتنطلق ببدايات متواضعة لنغيير الواقع. فنحن نستحق أيا كانت الوسيلة “إعلام هادف لمجتمع فاضل”!

اقرأ أيضاً:

تأثير الإعلام على الأطفال

الحقيقة في عصر الإعلام

دور الإعلام في ترسيخ الأفكار والقيم

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة