إصداراتمقالات

آلة الزمن الداروينية

آلة الزمن الداروينية

فى عام 1895 شهدت البشرية أولى روايات الخيال العلمى للأديب الإنجليزى هـ. ج. ويلز بعنوان ( آلة الزمن )، تلك الرواية التى لم تكتفى بطرح أطروحة غريبة عن السفر عبر الزمن إلى المستقبل فحسب، بل دارت رواية  آلة الزمن  حول ذلك التحول الإجتماعى الغريب الذى يراه الكاتب مستقبلاً للإنسانية فى ظل ذلك التفاوت الرهيب بين الطبقات، فالرواية التى تحكى عن العالم الإنجليزى الذى استطاع اختراع آلة للسفر عبر الأزمان لينتقل إلى عام 802701 حيث المستقبل المشرق والمدن الحديثة، يلاقى شعبًا رقيق الطباع ذو قدرات عقلية وبدنية ضعيفة يدعى (الأيلو) هم أحفاد الطبقة الغنية فى عصر الكاتب، بينما تتكشف عبر الأحداث للعالم عن شعبٍ آخر حاد الطباع قاسى الملامح يعمل ليل نهار على راحة شعب الأيلو ويدعى (المورولوك) أو أحفاد الطبقة العاملة الكادحة، غير أن للكاتب نظرة أكثر سوداوية حيث يرى أن التطور الطبيعى لكل من الطبقة الغنية المرفهة التى يكدح العمال لراحتها لن تلبث أن تصبح مجرد مزرعة للغذاء لأحفاد العمال الذين تكيفوا وتطوروا حتى أصبحوا المورولوك.

لتمثل تلك الرواية النتاج الأول لما طرحته النظرية التى هزت أرجاء العالم والتى أعلنها كل من ألفريد والاس وتشارلز داروين قبل أن تصدر مفصلة فى كتاب داروين الأشهر (أصل الأنواع) عام 1859 مما عرف باسم نظرية التطور أو الإنتخاب الطبيعى[1]، والحقيقة أننى لست من محبى هدم الأفكار لمجرد عدم اتساقها مع ما ننسبه نحن إلى الأديان أو حتى إلى النظرية نفسها التى وضعها كل من مؤيديها ومعارضيها فيما لم يخطر ببال صاحبها نفسه، وبخاصة حين نعلم أن داروين قد قضى زهاء ربع قرن فى بحث نظريته، فداروين الذى يرى البعض أن نظريته قد تكون هدمت إلى الأبد نظرية الخلق -مع ضعف الإلمام ببراهين وجود واجب الوجود- يقول فى ختام كتابه “هناك عظمة فى هذه النظرة للحياة، وقواها المتعددة، التى نُفثت أصلاً فى أشكال محدودة أو فى شكل واحد، وأنه بينما كان هذا الكوكب يواصل دورانه حسب قانون الجاذبية الثابت، تطورت ولا تزال تتطور، من بداية بالغة البساطة، أشكال بلا نهاية غاية فى الجمال والروعة.”[2] لذا وبعد إقرار هذا ننتقل إلى الخوض فى النظرية وتبعاتها اعتمادًا على حقيقتها أولاً ومن ثم الانتقال إلى مآرب من انتقدها أو انحاز لها.

فنظرية داروين التى كانت بذرتها الأولى داخله ما لاحظه لدى مربى الحيوانات الذى يزاوج بين الحيوانات ذات الأفضلية لإنتاج نسلاً أكثر قدرة وموائمة على البقاء، لم يلبث أن ربطها بما طرحه ملثوس حول كون الحياة ما هى إلا صراع للبقاء فى ظل محدودية الموارد،وسرعان ما تطورت لدى داروين بعد أن ربط بين التشابهات البنيوية العميقة لدى الأنواع المختلفة ليخرج فى النهاية بما أسماه الانتخاب الطبيعى، الذى فيه تقضى الطبيعة نفسها على الأضعف من النوع أو يناله من التطور عن طريق ظهور وضمور الأعضاء، ليرى فى كل ما هو موجود الآن ما هو إلا صور عليا من أنواع قديمة إلا أن تعود كل تلك الأنواع إلى أصل واحد أو عدة أصول، على أن داروين لم يتعرض فى كتابه الأشهر إلى تطور الإنسان نفسه وأصله غير أنه قد تعرض له فيما بعد فى كتابه (تسلسل الإنسان)، وإلى هنا تنتهى النظرية التى لم تتعرض لوجود خالق من عدمه وإن وضح بداية تعمد صاحبها لتجاهل الخوض فى تلك القضية، ربما لتغير موقفه الشخصى منها أو لما عاناه من فشل فى إثبات أصل أصل الأنواع[3].

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبعد أن فرغنا من تلك النظرية العلمية البحتة الباحثة فى مسار الأنواع وتطورها لابد أن نشير هاهنا إلى ما يتعمد البعض إغفاله، ليس فقط كون تلك النظرية ليست فلسفية ولا تعارض بينها وبين قضية وجود الإله، ولكن فشل تلك النظرية نفسها على المستوى العلمى، فنظرية داروين التى يرى فيها أن البيئة وتقلباتها وظروفها أو صراع البقاء المستمر بين الأنواع وأفراد النوع الواحد نفسه يتبعها بالضرورة تطور وضمور لدى الكائنات وينتقل ذلك التطور بالوراثة ليوجد نوعًا جديدًا أكثر قوة وقدرة واختلافًا قد تم هدمها ونقضها، حيث أثبت العلم أن التغييرات الحادثة سواء من البيئة أو الانتخاب الطبيعى من المحال أن تنتقل بالوراثة، قبل أن تظهر نظرية الطفرة على يد العالم هوغو دوفريس التى أجهزت على نظرية داروين تماماً من الناحية العلمية.

لنعود بعد ذلك إلى ما حاول أنصار تلك النظرية من الزج بها فى ميادين الفلسفة ظنًا منهم أن تلك النظرية تنافى وجود المُعل الأول، فالنظرية التى تتحدث عن قابلية التطور لدى الكائنات لا تتنافى أبدًامع وجود علة أولى أوجدت الكائنات، ناهيكم عن أن برهان النظم أو التصميم الذكى والذى يعد واحدًا من أشهر وأبسط براهين وجود الناظم لا يعارض بأى حال من الأحوال وجود القوانين التى بها يقوم النظم، فالجاذبية مثلاً وقوانينها لا تنفى وجود خالق حكيم واضع للقوانين المسيرة للعالم ضمن غائية واضحة، بغض النظر عن ذكر الإشكالات الواضحة والمكررة التى تؤكد نفس المعنى، كالتساؤل عن علة التطور الجمالى والشكلى الذى لا علاقة له بالبقاء مثلاً، أو عن السر فى ظهور لهذا الحيوان قرناً بينما لذاك اثنان، أو حتى التساؤل عن تلك الأجهزة التى لا يجوز بأى حال من الأحوال التصديق بكونها قد ظهرت تدريجيًا كالأذن وتركيبها الذى يجعلها بلا طائل ما لم تظهر دفعة واحدة، لينتهى بذلك حتى ما ذهب البعض للظن إليه من كون تلك النظرية تعد فتحًا فلسفيًا ما.

لذا كان لزامًا علينا العودة إلى مواطن الخلل فى تلك النظرية التى تعد حجر أساس لكثير من الفلسفات المادية والرؤى المتسافلة للإنسان، والتى يتضح تمامًا ما يعانيه أصحابها من خلل فى فى تعريف الإنسان تعريفًا دقيقًا تامًا، نظرًا لقصر القدرة على الوصول لحقيقة الإنسان -أو الحقيقة فى العموم- على الحس والحس وحده، معتمدًا فى ذلك على استقراءات بلا ميزان واضح، لذا كان من المنطقى أن يكتفى بتعريف الإنسان برسمه اعتمادًا على ما يعرض عليه، فلا يرى من الإنسان سوى حيوان يختلف عن غيره بوقفته المنتصبة، دون محاولة انتزاع المفهوم الحقيقي للإنسان كحيوان ناطق ذو نفس تواقة للقيم والمعانى، وهو ما صاغه الدكتور يوسف كرم فقال: “قلنا أن داروين عجب لتشابه أفراد النوع الواحد من حيث بنية الجسم وتوزعها أصنافًا تبعًا للبيئة وظروف المعيشة: فظاهر أن النوع ثابت من حيث الجوهر متغير من حيث العرض، ولكن داروين اتخذ التغير العرضى معيارًا وفسر الأنواع أنفسها كما تفسر الأصناف. وقد نسلم بالتطور ثم نرانا مضطرين إلى اعتبار الإنسان نوعًا قائمًا بذاته بسبب ما يختص به من علم ولغة وفن وصناعة وخلق ودين، وهى مظاهر للعقل لا نظير لها ولا أصل فى سائر الحيوانات. وقد نسلم بالتطور ثم نرانا مضطرين إلى الإقرار بموجد للمادة وموجه لها، لقصور المادة عن تنظيم نفسها. ولكن من العلماء والفلاسفة من يفكرون كالعامة بالمخيلة دون العقل فيسيغون المحالات. وسنصادف نفرًا منهم فيما يأتى من فصول، يتخذون من مذهب التطور سلاحًا يهاجمون به الدين والروحيات إطلاقًا.”[4].

المراجع
داروين مترددًا .. نظرة مقربة لتشارلز داروين وكيف وضع نظريته عن التطور – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2013
تاريخ الفلسفة الحديثة – دار المعارف بمصر

 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المصادر

[1]داروين متردداً – ديفيد كوامن صـ186

[2]المرجع السابق صـ224

[3]تاريخ الفلسفة الحديثة – د. يوسف كرم صـ334

[4]المرجع السابق صـ336

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

محمد صابر

مهندس حر

باحث في علوم التربية وفلسفة التعليم بمركز “بالعقل نبدأ”

دراسات عليا في كلية التربية جامعة المنصورة

حاصل على دورة إعداد معلم (TOT) من BRITCH FOUNDATION TRAINING LICENSE المعتمد من الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة