إصداراتمقالات

لذة وحب وشوق (2)

لما كانت–كما سبق-الكمالات العقلية أكثر وإدراكاتها أتم، كانت اللذة التابعة لها أشد، لأن نسبة اللذة إلى اللذة كنسبة الكمال إلى الكمال، والإدراك إلى الإدراك، فالكمالات العقلية أعلى، والإدراك العقلي أعلى؛ لذلك تكون اللذة العقلية أعلى.

“فنسبة اللذة العقلية إلى الشهوانية، نسبة جلية الحق الأول وما يتلوه، إلى نيل كيفية الحلاوة، وكذلك نسبة الإدراكين”. فالفارق بين اللذة العقلية إلى الشهوانية عظيم، بل لا مجال للمقارنة بين إدراكين أحدهما للحق الأول وما يتلوه من أهل القدس؛ والآخر للحيوانية العجماء المنتكسة في المادة، وبين جلية الحق الأول إلى نيل كيف حسي خسيس.

إذن لماذا لا نشتاق لهذه الكمالات القدسية العليا؟ إما لغياب الإدراك أو لغياب الذوق، فلأننا لا نعلم بوجودها أو لا نلتفت إليها أو لم نتذوقها، ولانشغالنا بالذي هو أدنى. فمعرفة أن للنفس كمال حقيقي ليس من الأوليات العقلية، لكنه معلوم بعقل أو نص.

وبالرغم من ذلك فمن يتذوق من هذه اللذة العظمى طرفا ضئيلا؛ يتحرك بها وإليها حركة شديدة: ” والنفوس السليمة التي هي على الفطرة ولم يفظظها مباشرة الأمور الأرضية الجاسية، إذا سمعت ذكرا روحانيا، يشير إلى أحوال المفارقات، غشيها غاش شائق، لا يعرف سببه، وأصابها وجد مبرح، مع لذة مفرحة، يفضي بها إلى حيرة ودهش، وذلك للمناسبة، وقد جرب ذلك تجريبا شديدا”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما الذي يعرف وجود هذه اللذات ثم يسعى لها سعيها من التنزه والتجرد فهو في لذة قصوى، وتستمر تلك اللذة بعد ذلك في العالم التالي وتبلغ كمالها: “والعارفون المتنزهون، إذا وُضع عنهم درن مقارنة البدن، وانفكوا عن الشواغل، خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانتقشوا بالكمال الأعلى، وحلت لهم اللذة العليا…وليس هذا الالتذاذ مفقودا من كل وجه، والنفس في البدن، بل المنغمسون في تأمل الجبروت، المعرضون عن الشواغل، يصيبون وهم في الأبدان، من هذه اللذة، حظا وافرا، وقد يتمكن منهم فيشغلهم عن كل شيء”. فهي لذة تشغل عن كل ما دونها.

ثم يوضح الشيخ الرئيس درجات العشق، فأعظم عاشق هو الحق الأول سبحانه: “أجلّ مبتهج بشيء هو الأول، بذاته: لأنه أشد الأشياء إدراكا، لأشد الأشياء كمالا، الذي هو بريء عن طبيعة الإمكان والعدم. وهما منبع الشر. ولا شاغل له عنه”. “والأول عاشق لذاته معشوق لذاته، عُشق من غيره أو لم يعشق. ولكنه ليس لا يعشق من غيره، بل هو معشوق لذاته، من ذاته، ومن أشياء كثيرة غيره”. سبحانه الجميل محب الجمال!

ثم يتلوه الجواهر العقلية، أو الملائكة المقربون، وخاصة أوليائه من البشر بعد فراقهم للجسد، “ويتلوه المبتهجون به، وبذواتهم، من حيث هم مبتهجون به. وهم الجواهر العقلية القدسية. فليس ينسب إلى الأول الحق ولا إلى التالين من خُلص أوليائه القديسين شوق”، وذلك لبراءتهم عن القوة.

“وبعد المرتبتين مرتبة العشاق المشتاقين”، فالشوق يدل على نقص ما، لأنه يقتضي كما سبق أن يكون المشتاق قد حصّل شيئا وفاته شيئا، “فكل مشتاق فإنه قد نال شيئا وفقد شيئا”، فليس ينسب الشوق إلى المقامات العظمى سابقة الذكر. ولكنه للنفوس الناطقة الفلكية والكاملة الإنسانية ما دامت في الأبدان، وبحسب الشوق الأذى، ولما كان الأذى من قبل المعشوق كان لذيذا كما يوضحه الطوسي في شرحه.

وهذا الشوق باعث إلى الحركة نحو ما يفقده المشتاق من كمال؛ وذلك طالما كان المشتاق قادرا على الحركة. وأقصى درجة للنفوس البشرية في العالم المادي هي مرتبة العشق المختلط بالشوق: “والنفوس البشرية إذا نالت الغبطة العليا في حياتها الدنيا، كان أجلّ أحوالها أن تكون عاشقة مشتاقة، لا تخلص عن علاقة الشوق، اللهم إلا في الحياة الأخرى”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثم يتلوها “نفوس أخرى بشرية مترددة بين جهتي الربوبية، والسفالة على درجاتها”، فهي تتردد بين الكمالات الحقيقية الروحية وبين الوهمية المادية. “ثم يتلوها النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المنحوسة، التي لا مفاصل لرقابها المنكوسة”، فالملتذ بالمادة فقط؛ هو الأدنى درجة.

إن العاقل ليعلم خسة اللذات الحسية إلى تلك العقلية، وذلك واضح بتنبيهات بسيطة كالتي يوردها رئيس الفلاسفة؛ فالذي يكون في موضع غلبة في لعبة تافهة ربما يعرض له مأكول لذيذ أو منكوح لذيذ؛ فيعرض عنه من أجل اللذة الوهمية الخسيسة. والشخص قد يكون أمامه الطعام اللذيذ فيعرض عنه طلبا لأن يوصف بالعفة أو الحياء أو الحشمة. وكبير النفس يُفضّل الجوع والعطش على ذل الطلب، وطالب المدح والمكانة قد يتخلى عن بعض اللذات الحسية كي ينال مراده. وهذا يوضح علو اللذات الباطنة على الظاهرة، وأعلى اللذات الباطنة على الإطلاق هي تلك العقلية كما وضحنا.

واللذة العقلية أكبر من الحيوانية بالكمية والكيفية كما سبق، واللذات الحسية محدودة زمانا ومكانا، محدودة العدد لا تتفاوت إلا شدة وضعفا، ولا يحضر الملتذ به عند الملتذ إلا بكيفية وعرض ظاهر.

بينما العقلية فمتجردة عن الزمان والمكان، كثيرة العدد، والعقل يصل لكنه المعقول وحقيقته، فالعقلي خالص عن الشوب إلى الكنه، والحسي شوب كله. والإدراك التام واللذة التامة والعشق التام لا يكون إلا مع الوصول التام كما سبق.

والعاقل الذي عرف نظام الوجود، ومُبدِئُه الجميل الكامل مستحق العشق؛ وبُعد الجسمية الحيوانية عنه في قوس الوجود وتسافلها-ليعلم الفرق بين اللذتين، ولا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير باختياره. فالإدراك العقلي أتم والمدرَك القدسي أشد خيرية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهذه المعرفة ليست كافية، بل لا بد بعدها من العمل والسعي، فالإدراك لا يكفي بل لا بد من النيل والحصول كما سبق، كما أن للعارف السالك حالتان كما يشير الشيخ الرئيس؛ إحداهما لنفسه خاصة وهي حب الكمال، والثانية لنفسه وبدنه وهي حركته في طلب القرب من الكمال. فلا بد من السعي والحركة، وهما الجزء الأصعب في المعادلة لتطلبه جهاد النفس.

لقد انتكست رؤوس الإنسانية يوم استغنت عن القدس الذي بها، واستبدلت به البهيمية العجماء، فسقطت سقوطًا مزريًا في الشقاء والعذاب.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة