إصداراتمقالات

تحرير المرأة

ظهرت في الغرب الدعوات والحركات المطالبة بإصلاح أوضاع المرأة وضرورة خروجها للعمل منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تقريبًا، وتطورت الصيحات فنادت بـ “تحريرها” ومساواتها بالرجل تمامًا، وفض كل ما “يقيد حركتها “سواء أعراف أو تقاليد أو تشريعات قانونية ودينية، فكيلت الاتهامات للحجاب مثلًا، وللتشريعات الدينية الخاصة بالأسرة..
وبعيدًا عن السياق التاريخي لهذه الدعوات، ينبغي لنا الالتفات إلى السياق الحضاري والمعرفي الذي أزهرت فيه، فالدعوات للفيمينيزم “feminism”  أو “النسوية” أينعت في تربة الحضارة الغربية المادية التي اعتمدت المنهج المادي التجريبي، الذي يعتمد على المشاهدات الحسية، منهجًا معرفيًا كاشفًا عن الواقع ومدخلًا إلى التعرف على العالم وعلى الإنسان بالضرورة، ولقصور المدخل وعجزه عن تجاوز ما يدركه الحس من عوارض مادية للمحسوسات، فقد أورث ذلك مجموعة مفاهيم قاصرة عن الكون والإنسان، فتم تعريف الإنسان في إطار بعده المادي فقط “جسده” وأغفل الجانب المجرد فيه “روحه”، وظهرت دعوات جعلت الحق في صف القوي الأقدر على البقاء، أو القيمة فيما يجلب اللذة فقط، وتحددت أهمية الإنسان كمادة استعمالية حسب مقدار النفع المادي الذي يقدمه، ثم قادهم قطار المادية إلى محطته التي أعلن فيها نسبية كل شيء وسقوط كل مطلق وإمكانية تساوي كل مختلف، فلم يعد هناك خير وشر، وجميل وقبيح، ورجل وامرأة، مرحلة من السيولة التامة وميوعة المعايير، وعالم أشبه بسوق كبير من طرفين منتج ومستهلك والقيمة فيه للاستهلاك وفقط دون البحث عن أية غاية من وراء ذلك..
في هذا الإطار نمت دعوات تحرير المرأة المطالبة بتغليب الطبيعي على الإنساني فهاجمت دورها في الأسرة وهمشته واعتبرته إهانة لها فهدمت الكيان الإنساني كله بالنفاذ إلى بيئته وحاضنته الأولى، وطالبت بخروج المرأة لسوق العمل لمنافسة الرجل، وهاجمت العفة ودعت للسفور والإباحية وجعلت المرأة إما سلعة أو مروجة لسلعة تباع وتشترى بدعوى التحرر، وطالبت المرأة بالثورة على كل تقليد وتمجيد رأيها الشخصي وفرديتها لا لهدف إلا للثورة، فاعتبر الخروج عن المألوف والمتفق عليه قيمة في ذاته بغض النظر عن غاية ذلك، وأيًا يكن المألوف!
وللأسف تلقينا تلك الدعوات في الشرق بأيد مفتوحة ومرحبة وقد خدعنا بريق شعاراتها، فعدلنا عن قيمنا ومفاهيمنا ومنطلقاتنا المعرفية وسياقنا الحضاري المخالف تمامًا للوارد إلينا من الغرب وقبلنا كل شيء على علته، دون إمعان نظر فيه أو تمحيص، أو نظرة عميقة لسياقه الحضاري، فتشوهت مجتمعاتنا وأصبحنا كالمسوخ، وصرنا نعاني من أزمات انتشار الإباحية وارتفاع معدلات التفسخ الأسري، وغياب دور الأم في حياة أبنائها، وألقيت المرأة والرجل أيضًا في مفرمة الاستهلاك غير المبرر وغير الهادف إلى شيء، ناهيك عن الضغوطات العصبية الشديدة التي تعاني منها المرأة وهي المطلوب منها أن تؤدي عملها على الوجه الأفضل وأن تنمي مهاراتها باستمرار لتتمكن من المنافسة، وأن تهتم بمظهرها وشكلها طوال الوقت لكي تظهر جميلة دومًا، وتتابع آخر خطوط الموضة لتكون دومًا مواكبة لكل ما هو جديد، وأن تحترس من المتحرشين ولا بأس من تعلم بعض المهارات القتالية لتتمكن من الدفاع عن نفسها، وأن تستجيب لكل صيحة مجتمعية جديدة”اخلعي الحجاب، اتركي بيت أهلك لأنك مستقلة، سافري واخرجي وشوفي الدنيا.. إلخ”، وأن تكون عضوة جمعية نسائية مطالبة بتحرير المرأة، وأخيرًا أن تكون زوجة وأم! ولست أدري هل كل تلك القيود التي كبلوا بها المسكينة هي ما يعتبرونه تحررًا؟!
في مقابل ذلك يقف سياقنا الحضاري بمبنعه الإلهي محافظًا على الإنسان غير مختذل له كما فعل الغرب، فيعرّفه في إطار بعديه المادي والمعنوي، ويعترف باحتياجات كلا البعدين ويجعل سعادة الإنسان في وصوله لكماله؛ الكمال المادي المعني بحفظ جسده بطعام وشراب ومسكن وملبس ومنكح، وكماله المعنوي بالمعرفة الحقة والفضائل الأخلاقية، وأعلن تقدم الكمالات المعنوية على المادية لكونها مناط تميز الإنسان عن غيره من الكائنات؛ فأقر للإنسان بخصوصيته عن الطبيعة، وحفظ له نفسه وكرمها، وجعل غايته الوصول للكمال المطلق ومقام القرب الإلهي والتشبه بأخلاق الإله بما يمثله من جمال مطلق وخير محض، ولم يفرق هنا بين رجل وامرأة فكلاهما إنسان سعادته في وصوله لكماله!
في هذا الإطار وهذا السياق المعرفي يتم النظر للمرأة لا باعتبارها كائنًا أقل رقيًا من الرجل، ولا أعلى منه أيضًا!
ولكنه إطار يعترف باختلافاتهما ولا ينكرها ولكن لا يظلم المرأة ولا الرجل.. إطار يدعو لتغليب الإنساني على الطبيعي، يدعو لمجتمع تشيع فيه العفة فيظهر الإنسان ويستتر الذكر والأنثى، مجتمع يعين أفراده بعضهم بعضًا على الترقي لا التسافل والانغماس في الشهوات والملذات..
إطار لا ينكر دور المرأة ومكانتها مجتمعيًا فبعملية حصر بسيطة لنوع العمل الذي يقوم به الإنسان نجده ينقسم إلى:
1- أعمال شخصية وتشمل سعي الإنسان لإصلاح نفسه كالتعليم والتهذيب الخلقي، ومباشرة الإنسان لممتلكاته الخاصة وإدارتها وهكذا.
2- أعمال ذات بعد عائلي: وتشمل جانبين؛ مادي يعنى بتوفير احتياجات الأسرة المادية، معنوي يعنى بالتربية والتوجيه والاهتمام والعناية والرفق الذي يوجهه الإنسان لأسرته.
3- أعمال مجتمعية: وهي التي تكون موجهة لخدمة المجتمع وترقيه ونهضته، وقد يدر ذلك دخلًا ماديًا  يكفل به الإنسان أسرته فيكون أيضًا من الأعمال ذات البعد العائلي.
والمرأة ليست مستثناة من تلكم الأعمال، فعلى الجانب الشخصي هي لا بد أن تهتم بكمالها المعنوي الذي يحفظ نفسها، وهي “في الإسلام” تدير أموالها وممتلكاتها بشكل حر تمامًا دون وصاية من أحد متى كانت بالغة عاقلة، وفي عائلتها هي ليست مكلفة بتوفير احتياجات الأسرة المادية”إلا إذا ادعت الظروف ذلك” بل أعفاها الإسلام من ذلك رفقًا بها، لكن دورها في الجانب المعنوي خطير جدًا وقد يكون أهم من دور الرجل في ذلك الشق فهي منبع معظم سلوكيات وقيم وأفكار الطفل في سنواته الأولى فضلًا عن دورها كزوجة، وأما الأعمال ذات البعد المجتمعي فالإسلام لم يدع لتعطيل طاقتها “في الوقت الذي تمثل فيه أكثر من نصف المجتمع أحيانًا” بل شجع على قيامها بدور إيجابي في سبيل ترقي مجتمعها ونهضته وتحضره؛ وبالتالي في إطار منطلقاتنا المعرفية والإلهية لسنا تحت ضغط الثنائية التي مُني بها الغرب، إما أن يكون بيتك هو محطتك الأولى والأخيرة أو تتهتكين تمامًا، بل يحكمنا العدل والحكمة والتوازن والتعقل في ترتيب الأولويات، كوني ناجحة مجتمعيًا دون أن يعطلك ذلك عن كمالك المعنوي، ودون أن يؤثر على دورك في أسرتك الذي لن يقوم به غيرك، والوقت الذي تستهلكينه في إصلاح المجتمع قد نختزله كثيرًا إذا أخرجنا أفرادًا صالحين.
هذه النظرة وهذا السياق هو ما يمثل التحرير الحقيقي للمرأة، الذي يعترف بإنسانيتها ولا يلقي بها فريسة لقيم المادية التي تنتهكها، بل يعلي إنسانيتها ويمكِّنها من التصرف بحرية في إطارها!

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة