إصداراتمقالات

الإعلام وعقلية العوام – كيف يتم التأثير على الجمهور من خلال الإعلام ؟

الإعلام و العوام

للإنسان قوى مدركة متنوعة؛ هي الحس والخيال والوهم والعقل النظري.

والعقل النظري بمعناه العام له مستويات من التصديق؛ كالخطابي والجدلي والبرهاني.

العقل الخطابي والبرهاني

والعقل الخطابي هو المعتمد على المقبولات أو الأمور التي تؤخذ ممن يوثق به. والجدلي هو المعتمد على المسلّمات والمشهورات الشائعة. وهما بهذا الشكل يعتمدان على ظنّيات، قد تصيب وتخطئ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والعقل البرهاني يعتمد على البديهيات اليقينية، وينطلق منها بالقياس العقلي ليستدل. وهذا الاستدلال إما أن يكون بسيطًا يصل لأمور قريبة من البديهية، أو مركبًا. والبسيط موجود في جميع الناس. والمركب هو الخاص بالعلماء؛ ويحتاج لتدريب وتمرين وتعليم، ووقت طويل، وظروف مواتية، واستعداد من المتعلم، ووجود المعلم والعلم، وقد لا يتوفر هذا لجميع أفراد المجتمع، فيحصل تنوع واختلاف وتدرج.

والعقل البرهاني يعتمد على اليقينيات، فيصيب دائمًا إن تم مراعاة قواعد الاستدلال، وهو الذي تُبنى عليه كافة المعارف الإنسانية اليقينية.

ومن الفخوخ التي قد يقع فيها العقل بمعناه العام هو المغالطات أو الشبهات، وهي أمور شبيهة بالأمور اليقينية، تختلط على العوام ، ويستطيع الخواص تمييز الخطأ والصواب فيها.

ومن الفخوخ أيضا الخطاب الشعري العاطفي، الذي يخاطب الخيال ويحرك العواطف، ويتخطى العقل، ويعمل عملًا شبيها بالتصديق.

والعقل النظري يتم تطويره بالتعليم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبالإضافة للقوى المدركة السابقة؛ يمتلك الإنسان أيضًا قوى محركة متنوعة؛ هي الشهوة والغضب والعقل العملي.

والعقل العملي يتحكم في الشهوة والغضب ويسيطر عليهما، وتزداد قوته بتهذيب النفس، أي بالتربية.

العوام والخواص

والخواص في مجال ما؛ هم العالمون بأصول ومبادئ هذا المجال، وكيفية الاستدلال والاستنباط من هذه الأصول. و العوام في مجال ما؛ لا علم لهم بالأصول أو كيفية الاستنباط من هذه الأصول، وهم في ذلك درجات. وقد يكون الإنسان من الخواص في الطب مثلا لكنه عامي في الهندسة.

وخواص العلوم العقلية هم العالمون بمبادئ البرهان وكيفية الاستنباط من هذه المبادئ. وخواص المجتمع الفاضل لديهم علم يقيني برهاني صحيح بالاعتقادات السليمة، والأيديولوجيات السليمة، وعلم سليم بالواقع حولهم، وبظروف الزمان والمكان، وبما ينبغي أن يحدث لكي يصبح المجتمع وأفراده أفضل. بينما عوام هذا المجتمع فهم على درجات من العلم بهذه الاعتقادات والأيديولوجيات.

وبشكل عام فإن هؤلاء العوام طبقا للتحليل السابق؛ إدراكهم يميل أكثر ناحية الإدراكات الجزئية، أي الحسية والخيالية والوهمية، وأقل ناحية الإدراك العقلي الكلي المحض. وتحركهم العواطف والشهوة والغضب بشكل أكبر من التحرك المعتمد على العقل فقط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ويميلون للإدراكات الخطابية والجدلية الظنية، لأنها تأتي ممن يثقون فيه، أو تتبع رأي الأغلبية والشائع. وغير قادرين على الاستدلالات المركبة الصعبة. وقد ينخدعون بالمغالطات، وقد تحركهم العواطف ويغيب العقل.

واعتقاداتهم وأيديولوجياتهم ليست مبنية على أسس برهانية عقلية سليمة وثابتة، ولا علم لهم بمبادئها أو بكيفية الاستنباط من هذه المبادئ.

لكن يجب أن نلاحظ أن لديهم العقل البرهاني بمعناه البسيط، أي لديهم البديهيات اليقينية، ويمكنهم أن يبنوا عليها استدلالات بسيطة غير مركبة. كما يمكنهم معرفة الحسن والقبيح العقلي، مثل حُسن العدل والأخلاق الفاضلة، وقبح الظلم والأخلاق السيئة. وهذا هام جدا.

وهنا يظهر دور الإعلام

فإن اعتمد هذا الإعلام على العواطف والشهوة والغضب، فهو يغيب العقل. وإن روّج للاعتقادات الشائعة والمسلّمات والمقبولات المجتمعية الخاطئة؛ فهو يقودهم في الاتجاه الخاطئ.

وإن اعتمد الكذب والمغالطات فقد تنطلي عليهم. وإن اعتمد الشعر والفنون العاطفية الموجهة في اتجاه خاطئ فقد يضلهم. وقد يهدم اعتقاداتهم وأيديولوجياتهم بناء على ذلك، أو على الأقل يثير لديهم الشكوك والحيرة والتخبط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وأيضا إن اعتمد الإعلام على خطاب عقلي محض، وتوجيه وتحريك عقلي محض، واستدلالات مركبة ومعقدة، واهتم بالكليات دون التطرق للجزئيات والتفاصيل الملموسة في حياتهم، فقد لا يفهمه العوام ، وقد لا يؤثر فيهم أو يحركهم، وقد يشعرون أنه خطاب نخبوي بعيد عن واقعهم وحياتهم.

وقد يصطدم بثوابت مجتمعية شائعة ومقبولة، وباعتقادات وأيديولوجيات خاطئة، فيرفضه الناس برغم أنه على حق.

فما الحل؟

الحل هو أن تظل الغاية ثابتة وشريفة وهي الحق والعدل، وأن تتغير الوسيلة لوسيلة مناسبة للخطاب العام، مع كونها شريفة أيضا، فيتم تقديم إعلام مناسب للعامة ولكنه تابع للحق. أي أن تخاطب الناس على قدر عقولهم؛ مثلما يرشدنا لذلك علم المنطق، ويرشدنا لذلك أيضا ديننا الحنيف.

أولاً:

فأولا: يجب أن يتم النهوض بمستوى العوام بشكل عام إذا أردنا تطورا ورُقيًا حقيقيا، والطريق الوحيد لذلك هو التعليم والتربية بمعناهما العام، المستمر داخل وخارج المدارس والجامعات، بل في المجتمع ومؤسساته ككل، فيكون المجتمع دافعا ومساعدا على العلم والتعلم والثقافة المستمرة، والتربية والتخلق والفضيلة الدائمة.

ويجب الاهتمام بالعلوم العقلية التي تطور إدراك الإنسان وفهمه وتصديقه، وتعليمها منذ الصغر قدر المستطاع، مثل علوم المنطق، ونظرية المعرفة. وأيضا الاهتمام بالجانب التربوي والتهذيبي والأخلاقي منذ الصغر.

ويجب نشر البحث العقلي، والبحث العلمي، وثقافة عدم التصديق إلا بدليل، وثقافة البحث عن صحة وحجية الدليل. كما يجب بناء معتقدات وأيديولوجيات المتعلمين على مبان عقلية وبرهانية سليمة، ويجب الاهتمام ببناء نخب عقلية واعية في المجتمع، لديها العلم بعلوم البرهان، ومعتقدات وأيديولوجيات حقة مبنية على البرهان، والعمل بالأخلاق الحسنة.

ثانياً:

ثانيا: أن يتم تقديم إعلام محتواه صادق وحقيقي، لكنه يقترب من الجزئيات والتفاصيل الهامة في حياة الناس، ويتناول مسائل وجزئيات محسوسة ومتخيلة، قريبة من ذهنهم وإدراكهم الخيالي والحسي.

وألا يتم مخاطبة الشهوة والغضب والعاطفة المحضة، وألا يتم تغييب العقل. ولا يمنع ذلك وجود العاطفة بشكل محكوم بالعقل، فالعواطف شيء مهم في حياة الإنسان شرط ألا تغيب عقله. والغضب له موضعه المناسب عقلا أيضا؛ وهو الشجاعة عند ملاقاة العدو الحقيقي، والغضب من انتهاك كرامة الشعب بالباطل.

والشهوة لها مواضعها الطبيعية، فيجب توجيه الناس إلى أنها يجب ألا تتخطى هذا الإطار، ويساعد على ذلك أنظمة تربية جيدة كما سبق.

وأيضا أن يقوم الإعلام بتبسيط المعلومات الحقة وتقديمها في شكل مقبول ومناسب للمجتمع، بالطرق الخطابية والجدلية الخاضعة للحكم العقلي. وكشف المغالطات والخدع التي تقدم إليهم، وذلك عن طريق المختصين، ومواجهتها بالعلم الحقيقي، وبتبسيطها لهم قدر استيعابهم.

وأيضا يجب أن يتم مخاطبة العقل البرهاني والبديهيات لديهم قدر استطاعتهم، وتطوير قدرتهم على الاستدلال والاعتماد على أدلة صحيحة لكنها أيضا بسيطة ومناسبة لهم، ونشر ثقافة عدم التصديق إلا بدليل صحيح قدر المستطاع، ومخاطبة الحسن والقبح العقلي فيهم. وذلك خاصة عندما تكون المسألة المطروحة مخالفة لما اعتادوا عليه أو تقبلوه أو ما هو مشهور بينهم. وهذا سلاح هام يحتاج لحسن استخدام ومهارة وتدرج حسب مستوى المتلقي.

ويجب نشر وتقوية ودعم المعتقدات والأيديولوجيات الحقة المبنية على البراهين بين الناس؛ بالإعلام الخطابي والجدلي أيضا، والتصدي للمغالطات أيضا في هذا الإطار. ويمكن تطوير الخطاب وتنويعه حسب تطور المجتمع واختلاف ظروفه.

كما يجب استخدام الفن أيضًا لكن في إطار قيمة وهدف سامي.

في النهاية

في النهاية يجب أن نتذكر أن لفظ عامي ليس سبة أو إهانة، فكلنا عوام بشكل ما كما سبق، فالشخص قد يكون عالما في الفيزياء عاميا في التاريخ، وإن تعرض لمسألة معقدة في الطب فقد لا يستطيع فهمها أو الاستدلال عليها، ويحتاج للمختص كي يبسطها له ويقدمها له بخطاب يفهمه. كما أن من يزدد علما يزدد علما بجهله فيزدد تواضعا، وإلا كان جهولا أحمقا.

وهنا يظهر الدور الهام للمثقفين وقادة الفكر في المجتمع، والمتصدين عموما للشأن العام، وضرورة كونهم من الحكماء ومن الخواص عقلا، ذوي علم حقيقي وليس علم وهمي كاذب، وثقافة حقيقية، واطلاع سليم على ظروف الزمان والمكان.

وأيضا ذوي فضيلة حقيقية، وأخلاق حسنة، فليسوا باحثين عن مصلحتهم الخاصة، أو لذّاتهم الضيقة على حساب المجتمع والعامة. لا يتاجرون بالعوام وقضاياهم، ولا ينكرون فضلهم وفضل المجتمع عليهم، ولا يتكبرون بما أوتوا؛ بل يعلمون أنه مسئولية وتكليف وأمانة وعبء.

كما يعلمون أنهم محتاجين للعوام وللمجتمع؛ من أجل تكاملهم، ومن أجل تحقيق العدل لأنفسهم وللآخرين.

وأيضا يجب أن نتذكر أن كمالات الإنسان كفرد وكمجتمع لا تتحقق إلا بالعدل، والذي لا يمكن تحقيقه إلا بالعلم والأخلاق، والطريق إليهما يبدأ بالعقل، وأن الإعلام يجب أن يخدم هذه الغاية، وإلا كان معطلا لها، هادما لكمال الفرد والمجتمع، معطلا للعدل.

اقرأ أيضاً:

هل الإعلام صادق في نقله لمشاكل الواقع ؟

تأثير الإعلام على الأطفال

الحقيقة في عصر الإعلام

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة