العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثامن والثلاثون
المدرسة المشَّائية: (36) ابن رشد وكتبه "فصل المقال"، "مناهج الأدلة"، "تهافت التهافت"
الفلسفة والتأويل: (4) دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 37) دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا (3): أ. الفلسفة واجبة بالشرع. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التأويل الرشدية: دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا.
ب. علوم المنطق: واجبةٌ بالشرع
ضرورة معرفة أنواع البراهين وشروطها
إذا كان الشرع قد حث على معرفة الله تعالى وسائر موجوداته بالبرهان، وكان من الأفضل أو الأمر الضروري لمن أراد أن يعلم الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات بالبرهان أن يتقدم أولًا فيعلم أنواع البراهين وشروطها، وبماذا يخالف القياس البرهاني (قياس الفلاسفة) القياس الجدلي (قياس المتكلمين)، والقياس الخطابي (قياس الخطباء)، والقياس المغالطي (قياس السوفسطائيين).
علم المنطق آلة النظر
يقول ابن رشد إنه: “يجب على المؤمن بالشرع، الممتثل أمره بالنظر في الموجودات، أن يتعلم علم المنطق، وعلم المنطق يتنزل من النظر (التفلسف) منزلة الآلات من العمل (النظر هو الفلسفة وآلات النظر هي علم المنطق)”. “فإنه كما أن الفقيه يستنبط من الأمر بالتفقه في الأحكام وجوب معرفة المقاييس الفقهية على أنواعها، وما منها قياس وما منها ليس بقياس، كذلك يجب على العارف (الفيلسوف) أن يستنبط من الأمر بالنظر في الموجودات وجوب معرفة القياس العقلي وأنواعه، بل هو أحْرى بذلك لأنه إذا كان الفقيه يستنبط من قوله تعالى “فاعتبروا يا أولي الأبصار” وجوبَ معرفة القياس الفقهي، فكم بالحري والأولى أن يستنبط من ذلك العارفُ بالله وجوب معرفة القياس العقلي”.
ابن حزم الأندلسي: من لم يعرف المنطق لم يَجزْ له أن يفتي بين اثنين
في أطروحتي للماجستير “المنهج الظاهري عند ابن حزم”، حاولت أن أبين أن ابن حزم وضع منهجًا يقينيًا لعلمي العقيدة والشريعة، أعني علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. وهذا المنهج الحزمي يقوم على البرهان والمنطق الأرسطي الذي يقول عنه ابن حزم: “إنه –أي المنطق– علمٌ مظلومٌ، ونصرُ المظلومِ فرضٌ وأجر”. وقد ذهب ابن حزم إلى القول بأن: “من لا يعرف المنطق لم يجزْ له أن يفتي بين اثنين، لجهله بحدود الكلام وبناء بعضه على بعض وتقديم المقدمات وإنتاج النتائج”، ولذلك ألف ابن حزم كتابه “التقريب لحد المنطق والمدخل إليه”. وقد واصل ابن رشد الطريق الذي بدأه ابن حزم وأضاف إليه كثيرًا. كان ابن حزم البداية وكان ابن رشد المنتهى في المنطق.
مكفر الفلاسفة ومبيح منهجهم: الغزالي أيضًا يوجب دراسة المنطق
أما الإمام الغزالي –مكفر الفلاسفة ومبيح منهجهم!– فقد اتفق مع ابن حزم، في وجوب دراسة المنطق وألف فيه كتبًا قيمة، وقد قرر في كتابه المستصفى أن المنطق مقدمةٌ ضرورية للعلوم كلها، ومن لم يدرس المنطق “فلا ثقة بعلومه أصلًا”، وأنه لا سبيل إلى أن يعلم أحدٌ الحقَ إلا من صناعة المنطق.
إذًا:
– يجب بالشرع النظر في علم المنطق.
وقد تكفل ابن رشد بأداء هذا “الواجب الشرعي” فشرح المنطق الأرسطي شروحًا عديدة: كبرى ووسطى وصغرى.
ج. النظر في كتب القدماء: واجبٌ بالشرع
لا يمكن لإنسان أن يبدأ علمًا من الصفر
يقرر ابن رشد أنه “ليس في الصنائع صناعة يقدر أن ينشئها واحدٌ بعينه، فكيف بصناعة الصنائع وهي الحكمة (الفلسفة). وإذا كان هذا هكذا، فقد يجب علينا، أن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السابقة نظرًا في الموجودات واعتبارًا لها وفق ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم”.
التراكم المعرفي والإبداع الحضاري عبر العصور: ما كان موافقًا للحق قبلناه من القدماء، وما كان غير ذلك نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم
لقد أوضح ابن رشد أنه “إن كان غيرُنا (من الأمم السابقة المنتجة للحضارة) قد فحص عن ذلك فبيّنٌ (واضحٌ) أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركًا لنا أو غير مشارك في الملة. فإن الآلة التي تصح بها التذكية (يعني سكين الذبح التي نذبح بها الطيور أو الحيوانات) ليس يُعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك، إذا كان فيها شروطُ الصحة. وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام. وإذا كان الأمر هكذا، وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا في كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابًا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه، فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم”.
إذًا:
ليس كل ما أتى به القدماء باطلًا، بل فيه الحق وفيه الباطل، وواجب الفيلسوف الأخذ بالحق والتنبيه على الباطل وشكر القدماء، في الحالين، واجب بالشرع.
لولا كتب القدماء ما فاق الغزالي غيره من العلماء
يرى ابن رشد في مذهب أفلاطون وأرسطو “منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية” ويقول: “إن قصدهم إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن لهم إلا هذا القصد لكان كافيًا في مدحهم. مع أنه لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولًا يعتد به”.
ويقول ابن رشد عن الإمام الغزالي: “ومعظم ما استفاد هذا الرجل (الغزالي) من النباهة وفاق الناسَ فيما وضع من الكتب التي وضعها إنما استفادها من كتب الفلاسفة ومن تعاليمهم”. و”أفيجوز لمن استفاد من كتبهم وتعاليمهم، مقدار ما استفاد هو منها، حتى فاق أهل زمانه وعظم في ملة الإسلام صيتُه وذكرُه، أن يقول فيهم هذا القول، وأن يصرح بذمهم على الإطلاق وذم علومهم؟!”. ومع ذلك: “فإن أكثر الأقاويل التي عاندهم بها هذا الرجل هي شكوك تعرض عند ضرب أقاويلهم بعضها ببعض، وتشبيه المختلفات منها ببعض، وذلك معاندة غير تامة”. و”الجدل نافع مباح في سائر العلوم ومحرم في هذا العلم (يعني العلم الإلهي)”.
إذًا:
- يجب بالشرع النظر في كتب القدماء.
- التراكم المعرفي ضرورة حضارية وشرعية.
- والتواصل الحضاري واجبٌ بالشرع.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع ابن رشد وكتبه “فصل المقال”، “مناهج الأدلة”، “تهافت التهافت”: الفلسفة والتأويل: (5) دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا.
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس
الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر
الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر
الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون
الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون، الجزء الخامس والعشرون
الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون، الجزء الثامن والعشرون
الجزء التاسع والعشرون، الجزء الثلاثون، الجزء الواحد والثلاثون، الجزء الثاني والثلاثون
الجزء الثالث والثلاثون، الجزء الرابع والثلاثون، الجزء الخامس والثلاثون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا