مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

ضبط الايقاع

هل خرج ديكتاتور مستبد على شعبه في يوم ما ليعترف لهم بظلمه وفساده مقتنعاً بأن الظلم والفساد هما الحل لنهضة الدولة أم مهما كان الديكتاتور سيئا فإنه دائماً يجد مبرراً لأفعاله؟
لا يوجد ظلم وإنما يوجد عملاء ممولون أو جهلاء فوجب تحجيم فعلهم ولو بالقوة حتى لا تعم الفوضى في البلاد وتتراجع الأحوال المعيشية للمواطنين الشرفاء! هكذا يفكر الديكتاتور.

هل يعي أب متسلط وجبار بحقيقته أم يرى نفسه أبًا فاضلًا عامرًا بالخير، صنع رجالاً بالقوة والضغط والوضع تحت الظروف الصعبة حتى يكونوا أشداء؟
هل يرى اللص نفسه ظالمًا معتديًا؟ أم يرى أنه عادل يعيد توزيع الثروة، وضحية يأخذ حقه المسلوب في المجتمع الفاسد ومضطر تجبره الظروف؟

كيف رأى النازيون أنفسهم وهم يحرقون اليهود؟ هم يستحقون الحرق والعقاب لأنهم خبثاء والأرض ستكون أكثر هدوءًا وإنسانية بدونهم.
ما هي حجة الصهاينة في ظلمهم للعرب؟
هم يريدون حقهم المسلوب!
وماذا عن جرائم الحروب من قتل واغتصاب وتعذيب وتمثيل بالجثث؟
إن جنسي هو الأسمى والأرقى من الأجناس الأخرى وبالتالي فلا مانع من ذبحهم كما نذبح الأنعام لنأكلها، والجنود تحت ضغط نفسي نتيجة الحرب فلا مانع من تفريغ تلك الشحنة السلبية.
ولماذا قتل الأطفال والنساء؟
لأنهم أعداء، فهذا الطفل عندما يكبر فهو عدو وهذه المرأة عندما تلد فهي عدوة.

العقل بالفطرة يستسحن العدل ويستقبح الظلم، والعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، وبالتالي فلا يوجد أحد على الأرض يُحب الظلم بل الكل يكرهه ويستنكره، وأما الظالم فيحاول الهروب من تهمته ويحاول إيجاد مبررات لتصرفاته لتتوافق مع العدل وتكون بعيدة عن الظلم كما أوضحنا في الأمثلة السابقة.
والعقل بالفطرة يستحسن الخير ويستقبح الشر، والخير هو النفع وتحقيق الزيادة سواء مادياً أو معنوياً والشر هو الفقدان وتحقيق النقصان سواء مادياً أو معنوياً وبالتالي أفعال الإنسان موجهة نحو تحصيل الخيرات والابتعاد عن الشرور.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وعملية الاستحسان والاستقباح هذه تحتاج لوجود ضابط، يجب أن يرسم قلم العقل على لوحة الحُسن والقُبح، يجب تعريف العدل أولاً وتحديد كيفية إعطاء كل ذي حق حقه في الموضوعات المختلفة، يجب التفكر والتأمل في الأمور لمعرفة هل بالفعل هي تحقق خيرًا ومنفعة أم ظاهرها كذلك ولكنها في الحقيقة تحقق ضررًا أو شرًّا إن لم يكن مادياً فهو معنوي، وإن لم يكن في عالم الدنيا فهو في عوالم أخرى.

أن نكون ظالمين ونجهل بظلمنا ونظن أننا أصحاب حق، فهذا الجهل المركب راجع إلى لعب الفأر في غياب القط، أي أنه راجع إلى الإفراط في الحُسن والقبُح دون وجود ضابط عقلي، هذا الجهل المركب راجع لضابط آخر غير العقل، وهو تشبع النفس بالشهوات والغضب وآفات أخلاقية كالحقد والتكبر وحب السلطة وحب الظهور والكره وغيرهم.
قد يقطع إنسان علاقته بآخر لأنه انتقده مجرد انتقاد عابر موضوعي بنّاء بنية طيبة، لكن ولأنه يرى صاحبه أدنى منه نتيجة إعجابه بنفسه وتكبره فقرر أن يقطع علاقته به ظاناً أن ذلك هو العدل وبذلك سيكون بخير وبعيداً عن شر نقد صاحبه، أو شخص آخر تُحركه أنانيته داخل أوتوبيس فقرر ألا يقوم من مكانه لرجل عجوز ظاناً أنه بذلك يحافظ على حقه وذلك هو العدل الذي يعود عليه بالخير، أو هذا الطالب الذي حركته شهوته فقرر ألا يحضر دروسه مُفضلاً اللهو على حساب الدراسة ظاناً أن العدالة تكمن في أولوية الترفيه وذلك سيعود عليه بالخير، أو هؤلاء السياسيون المنتفعون الذين يعتمدون على قُبح القتل والإيذاء فينتقدون المقاومين المدافعين عن أرضهم ويصفونهم بالإرهاب ويطالبونهم بقبول السلام دون أي اعتبارات عقلية، أو هذه البنت الرقيقة التي تستحسن وتحب البطل الذي يخون عمه بعلاقته بزوجة عمه فهي تحكمها العاطفة الهاربة من التعقل، أو تيار ديني يرى الإنسان مُجبرًا ومُقيدًا في أفعاله من الله لأنه يستقبح أن يكون هناك نظام علل وأسباب تحكم الكون ظاناً أن الله لا يتقيد بشيء رغم أن الله هو الخالق لهذا النظام وليس معنى ذلك أن الله مُقيد بنظامه، والأمثلة كثيرة اجتماعية وسياسية ودينية على عشوائية الحُسن والقُبح.
كيف نضبط هذه العملية؟

يجب أن يعمل الضابط الأخلاقي بداخلنا أولاً ونطهر أفكارنا وأحكامنا من موانع التفكير المتمثلة في شهواتنا ورغباتنا وقلقنا واكتئابنا وغرورنا وغضبنا وانقيادنا للآخرين، وأن يكون تحقيق العدالة في تصرفاتنا هي الغاية الأصيلة وفقاً لقيادة العقل.

الضابط الفكري:
إن العقل مُبرمج (مفطور) على العمل بطريقة معينة وفقاً لأمور موضوعة في تصميمه، أولها: البديهيات العقلية، والعقل يقوم بعملية التفكير، والتفكير هو “الوصول لأمر مجهول عن طريق ترتيب الأمور المعلومة بشكل معين” وبالتالي فالتفكير يحتاج إلى وجود معلومات سابقة تكون بمثابة المادة الخام التي ستدخل مصنع التفكير لتحويل المجهول لمعلوم، فإذا حدثت جريمة ما فمعلومة وجود كاميرا للمراقبة في مكان الحادث ستساعد في الوصول للأمر المجهول وهو المجرم، فالعقل يصل للمجهول عن طريق حركة الذهن في المعلومات التي يمتلكها، وعندما يصل للمجهول (أي يصبح معلومًا) تدخل هذه المعلومة الجديدة في عملية تفكير ثانية وهكذا، فكل مجهول يصبح معلومًا يتم استخدامه في عمليات تفكير أخرى.
قلنا التفكير يحتاج لوجود معلومات سابقة، حسنًا، كيف تمت أول عملية تفكير قام بها العقل؟ فالتفكير يحتاج معلومات والمعلومات تأتي من التفكير!
إن العقل به مجموعة من الأساسيات أو الأوليات الموضوعه به وهي بيّنة بذاتها أي هي أفكار لم تأتِ نتيجة تفكير بل العقل البشري مُبرمج عليها، هذه الأفكار هي نقطة انطلاق عملية التفكير وتُسمى البديهيات العقلية، مثل فكرة استحالة اجتماع النقيضين فمُحال أن أكون موجودًا وغير موجود في نفس الزمان والمكان مثلًا، ولكل نتيجة سبب فمُحال أن يأتي الدخان بدون السبب المؤدي له وهو النار مثلًا، والصغير لا يستوعب الكبير فمُحال أن يحتوي صندوق صغير على حيوان ضخم كالفيل مثلًا، وغيرها من الأفكار التي لا نحتاج لدليل ولا نحتاج للتفكير في إثباتها لأنها موجودة داخل التصميم العقلي بالفعل وليست مجهولة.
فلا حاجة لي لإثبات أن الحاسوب الذي بين يدي الآن لم أنسَهْ في العمل فهذا أمر في منتهى البداهة أو أن هدا الحاسوب ليس هاتفي الجوال فالحاسوب هو الحاسوب وهذا بديهي، وكل الأفكار وعمليات التفكير التي قام بها البشر كان أساسها وبدايتها هذه الأفكار البديهية، مثلاً يوجد مقتول، إذًا هناك قاتل لأن البداهة تقول لكل معلول علة، سأستبعد الشخص الفلاني لأنه كان خارج المدينة وقت الحادثة ومستحيل أن يكون خارج وداخل المدينة في نفس الوقت لأن استحالة اجتماع النقيضين أمر بديهي، وسأستبعد الطفل الصغير لأن طعنة السكين دخلت في أعماق القلب وبالتالي تحتاج لقوة وهذا الطفل لا يمتلك هذه القوة! والبداهة تقول فاقد الشيء لا يعطيه.

يجب رد الأفكار التي نؤمن بها للبديهيات العقلية لمعرفة ما إذا كانت تطابق الواقع أم لا، وبالإضافة لذلك يجب أن تكون المفاهيم التي نتبناها مفاهيم ذاتية وليست عرضية، والمفهوم الذاتي هو المفهوم المقوم للشيء وبانتفائه ينتفي الشيء بينما المفهوم العارض هو المفهوم الذي يعرض على الشيء بعد قيامه وبانتفائه يظل الشيء موجودًا، مثلًا لو قلنا أن السكر حبيبات بيضاء يتم استخراجها من القصب فهذا مفهوم عارض، لأن من الممكن أن يكون السكر ليس حبيبات وليس أبيضًا ولا يتم استخراجه من القصب ويظل كما هو سكرًا ولكي نُعّرف السكر تعريفًا ذاتيًا يجب أن نذكر الصفة التي إذا انعدمت سقط المفهوم ولم يكن له وجود وهي التحلية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

رد الأفكار والأفعال للبديهيات والتعريف الذاتي يُعتبر الضمانة لظبط أفكارنا وعدم الوقوع في فخ ما هو مشهور من مُحسنات ومقبحات يتم الإيمان بهن بطرق غير منطقية، وبالتالي فدراسة المنطق ومناهج المعرفة يجب أن تكون الدراسة الأولى للإنسان والأساس الذي يبني عليه علومه وأفكاره.

اقرأ أيضاً:

الشهداء لا يسقطون… حق المقاومة وإيجاد المعنى

الخديوي إسماعيل .. الرجل الذي استطاع التسويق لنفسه

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الهُوية..والأصالة..والمعاصرة – فلننقذ الحضارة !

مقالات ذات صلة