العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السادس والثلاثون
المدرسة المشَّائية: (34) ابن رشد وكتبه "فصل المقال"، "مناهج الأدلة"، "تهافت التهافت"
الفلسفة والتأويل (2): دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 35) عن مقدمة لفلسفة التأويل عند ابن رشد (1): مقدمة: ابن رشد الفيلسوف الفقيه: التأويل والتكفير. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التأويل الرشدية: دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا.
أولًا: دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا:
1. الغزالي: تكفير الفلاسفة في مسائل ثلاث: (قدم العالم – علم الله بالجزئيات – المعاد الجسماني).
رد ابن رشد على تكفير الغزالي للفارابي وابن سينا في مسائل ثلاث، فإن “سأل سائل ابنَ رشد: ما تقول في الفلاسفة من أهل الإسلام كأبي نصر الفارابي وابن سينا؟ فإن أبا حامد الغزالي قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف بـ”تهافت الفلاسفة” في ثلاث مسائل: في القول بقدم العالم، وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات تعالى عن ذلك، وفي تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد”. وخلاصة الجواب الرشدي عن هذا السؤال المُشْكِل: لقد غلط الغزالي على الفارابي وابن سينا بتأويل فلسفتهما وفق فهمه هو تأويلًا ظنيًا، لا كما ينبغي أن تفهم الفلسفة بالرجوع إلى مصادرها الأصلية وخصوصًا أرسطو. وهذا ما أوضحه ابن رشد في رده على الغزالي.
2. رد ابن رشد على الغزالي في المسائل الثلاث
قال ابن رشد: الظاهر من قول الغزالي في ذلك أنه ليس تكفيره إياهما في ذلك قطعًا، إذ قد صرح في كتابه “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال. وقد تبين من قولنا أنه ليس يمكن أن يتقرر إجماع في أمثال هذه المسائل. وقد غلط الغزالي على الفارابي وابن سينا في تأويله التكفيري للفلاسفة في هذه المسائل الثلاث:
أ. في مسألة عدم علم الله بالجزئيات: العلم الإلهي يختلف عن العلم الإنساني
الله يعلم الجزئيات بعلم مختلف عن علمنا بها: يقول ابن رشد: “وإلى هذا كله فقد نرى أن أبا حامد قد غلط على الحكماء المشائين فيما نسب إليهم من أنهم يقولون إنه تقدس وتعالى لا يعلم الجزئيات أصلًا، بل يرون أنه يعلمها تعالى بعلم غير مجانس لعلمنا بها، وذلك أن علمنا بها معلول (مسبب/ناتج عن) للمعلوم به (الشيء الذي نراه أو نحسه بحاسة من حواسنا هو سبب علمنا به)، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره (يحدث علمنا بجلوس زيد إذا رأيناه جالسًا ويتغير علمنا بأن زيدًا جالسًا إذا قام زيد)، وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا: فإنه علة للمعلوم (علم الله سبب لوجود الشيء) الذي هو الموجود. فمن شبه العلمين أحدهما (العلم الإلهي) بالآخر (العلم الإنساني) فقد جعل المتقابلات وخواصها واحدة، وذلك غاية الجهل.
اسم العلم مشترك لفظي: فاسم العلم إذا قيل على العلم المحدث والقديم فهو مقول باشتراك الاسم المحض: كما يقال في كثير من الأسماء المتقابلات، مثل الجلل المقول على العظيم والصغير. والصريم المقول على الضوء والظلمة.
لا يوجد تعريف جامع مانع للعلمين: ولهذا ليس ها هنا حد (تعريف) يشتمل العلمين جميعًا كما توهمه المتكلمون من أهل زماننا.
المشاؤون يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذار بالجزئيات الحادثة القادمة من العلم الإلهي: وكيف يُتَوهَّم على المشائين أنهم يقولون إنه سبحانه لا يعلم بالعلم القديم الجزئيات، وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل. وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان من عند العلم الأزلي المدبر للكل والمستولي عليه.
علم الله منزه عن أن يوصف بجزئي أو بكلي: وليس يرون أنه لا يعلم الجزئيات فقط على النحو الذي نعلمه نحن، بل ولا الكليات: فإن الكليات المعلومة عندنا معلولة (= مسببة) أيضًا عن طبيعة الوجود، والأمر في ذلك العلم (= الإلهي) بالعكس. وذلك ما أدى إليه البرهان أن ذلك العلم منزه عن أن يوصف بكلي أو جزئي. فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة، أعني تكفيرهم أو لا تكفيرهم.
إذًا فالعلم القديم إنما يتعلق بالموجودات على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث، لا أنه غير متعلق كما حُكِي عن الفلاسفة أنهم يقولون، لموضع هذا الشك (أي تغير العلم القديم لتغير المعلوم) إنه سبحانه لا يعلم الجزئيات. وليس الأمر كما توهم عليهم بل يرون أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها، إذ كان علة لها لا معلولًا عنها كالحال في العلم المحدث. وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به: فإنه قد اضطر إلى أنه علم بالأشياء لأن صدورها عنه إنما هو من جهة أنه عالم، لا من جهة أنه موجود فقط أو موجود بصفة كذا، بل من جهة أنه عالم، كما قال تعالى: “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)” (سورة الملك) وقد اضطر البرهان إلى أنه غير عالم بها بعلم هو على صفة العلم المحدث. فواجب أن يكون للموجودات علم آخر لا يكيف، وهو العلم القديم سبحانه. وكيف يمكن أن يتصور أن المشائين من الحكماء (أمثال الفارابي وابن سينا) يرون أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات، وهم يرون أنه سبب الإنذار في المنامات والوحي وغير ذلك من أنواع المنامات؟!
ب. في مسألة قدم العالم: محض اختلاف في التسمية
وفي رد ابن رشد على الغزالي في مسألة قدم العالم يقول: “وأما مسألة قدم العالم أو حدوثه فإن الاختلاف فيها عندي، بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين، يكاد أن يكون راجعًا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء. وذلك أنهم اتفقوا على أن ها هنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين. فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة:
- فأما الطرف الواحد فهو: موجود وجد من شيء غيره وعن شيء: أعني عن سبب فاعل ومن مادة. والزمان متقدم على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات، وغير ذلك. فهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة.
- وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان: وهذا أيضًا اتفق الجميع من الفرقتين (من المتكلمين والفلاسفة) على تسميته قديمًا. وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى الذي هو فاعل الكل، وموجده، والحافظ له، سبحانه وتعالى قدره.
- وأما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان، لكنه موجود عن شيء: أعني عن فاعل. وهذا هو العالم بأسره.
الكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم. فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه، أو يلزمهم ذلك. إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام. وهم أيضًا متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه. وكذلك الوجود المستقبل. وإما يختلفون في الزمان الماضي والوجود الماضي. فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته. وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل.
فهذا الوجود الآخر الأمر فيه بين أنه قد أخذ شبهًا من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم. فمن غلّب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديمًا. ومن غلّب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثًا. وهو في الحقيقة ليس محدثًا حقيقيًا ولا قديمًا حقيقيًا. فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة. ومنهم من سماه محدثًا أزليًا وهو أفلاطون وشيعته لكون الزمان متناهيا عندهم من الماضي. فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر. فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد، أعني أن تكون متقابلة، كما ظن المتكلمون في هذه المسألة. أعني أن اسم القدم والحدوث في العالم بأسره هو من المتقابلة، وقد تبين من قولنا أن الأمر ليس كذلك”.
ج. في مسألة حشر الأجساد: المعاد كوجود يختلف عن المعاد كأحوال
يرى ابن رشد “أن المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذور، والمصيب فيها مشكور ومأجور. وذلك إذا اعترف بالوجود وتأول فيها نحوًا من أنحاء التأويل، أعني في صفة المعاد لا في وجوده، إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود. وإنما كان جحد الوجود في هذه كفرًا لأنه في أصل من أصول الشريعة، وهو مما يقع بالطرق الثلاثة المشتركة للأحمر والأسود”.
د. المتكلمون ليسوا على ظاهر الشرع بل متأولون
ليس في الشرع أن الله كان موجودًا مع العدم المحض: وهذا كله –كما يقول ابن رشد– مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع، فإن ظاهر الشرع إذا تُصُفح ظهر من الآيات الواردة في الإنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين (الماضي والمستقبل). أعني غير منقطع. وذلك أن قوله تبارك وتعالى: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ” (سورة هود: 7)، يقتضي يظاهره أن وجودًا قبل هذا الوجود وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى: “يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ ” (سورة إبراهيم: 48)، يقتضي أيضًا بظاهره أن وجودًا ظاهرًا بعد هذا الوجود، وقوله تعالى: “ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ” (سورة فصلت: 11) يقتضي بظاهره أن السماوات خُلقت من شيء. فالمتكلمون ليسوا في قولهم أيضًا على ظاهر الشرع، بل متأولون. فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودًا مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصًا أبدًا. فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه؟ والظاهر، الذي قلناه، من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء”.
إذًا:
– تأويلات الغزالي للفارابي وابن سينا هي سبب تكفيره للفلسفة والفلاسفة.
– تأويلات الغزالي ظنية غير برهانية وخلاف ما قصد إليه الفلاسفة.
خلاصة تأويلية
إذًا القضية –عند ابن رشد– قضية تأويل برهاني مقبول، أو قضية تأويل ظني غير برهاني مرفوض. فما التأويل وما التأويل البرهاني؟ كانت إجابة ابن رشد بمنزلة تقديم فلسفة جديدة في التأويل: ما أسميه بـ”فلسفة التأويل البرهاني” كما سوف نرى –بإذن الله– في دردشات قادمة. لكن قبل ذلك كان على ابن رشد أن يدافع أولًا عن شرعية الفلسفة والمنطق وأن يفتينا في المسألة باعتباره فقيهَ فقهاء قرطبة والخلافة الموحدية (دولة الموحدين) في بلاد المغرب والأندلس.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع ابن رشد وكتبه “فصل المقال”، “مناهج الأدلة”، “تهافت التهافت”: الفلسفة والتأويل (3): دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا.
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس، الجزء السادس، الجزء السابع
الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر،الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر
الجزء الرابع عشر، الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر
الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون، الجزء الثالث والعشرون
الجزء الرابع والعشرون، الجزء الخامس والعشرون، الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون
الجزء الثامن والعشرون، الجزء التاسع والعشرون، الجزء الثلاثون، الجزء الواحد والثلاثون
الجزء الثاني والثلاثون، الجزء الثالث والثلاثون، الجزء الرابع والثلاثون، الجزء الخامس والثلاثون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا