مقالات

سيكوندوس: الفيلسوف الصامت! .. الجزء الأول

لا شك أن اللغة تُمثل بُعدًا أساسيًا من أبعاد علاقة الإنسان بذاته وبالعالم الخارجي المُحيط به، فنحن نُفكر ونُحدث أنفسنا باللغة، وبها نستقبل ونُرسل رسائلنا التواصلية من وإلى الآخرين، وبها أيضًا نتعبد وندعو. ومع ذلك، لا ينبغي تفسير الصمت أنه نفيٌ للغة أو إنكارٌ لأهميتها ومركزيتها، بل بوصفه وسيلةً للكشف عن عُمق وأسرار اللغة، فهذه الأخيرة تكمن مخفية بين الكلمات، أو في عُمق ما يمكن قوله بين شخصين! ولو تأملت أغلب مراحل حياتك لوجدتها –إن صح التعبير– خوارزمية من الصور والأفكار، أي من خطاب الصمت. هذه الخوارزمية تتجلى مثل لوحة زيتية ترتسم عليها سيمفونية الحياة، إنها الخلفية التي تتكشف في ظلها ديناميكيات العالم، مما يسمح لنا بتقدير مد الأحداث وجزرها بوعي متزايد، لذا نقول إن الصمت هو الوقفة المقدسة التي تضفي العمق والأهمية على تجاربنا، وتتيح لنا مواجهة القيود المفروضة على التعبير والمعرفة البشرية!

بعبارة أخرى، نستطيع القول أن للصمت صوتًا من طبيعة خاصة، يحملنا إلى جوانب من الواقع تتجاوز حدود اللغة، أو إلى عالم يعلو فوق أسوار الفهم اللغوي، إذ يكمن الفهم في التواصل مع ما هو غير منطوق. وبهذا المعنى يغدو الصمت بمنزلة تذكير لنا أن ثمة نظامًا أكثر جوهرية يتوارى خلف الفوضى الظاهرة للكون، ويخطو بنا نحو مساحة لا متناهية لمواجهة المخاوف الوجودية، والسعي إلى تحقيق الذات واكتشافها والإمساك بالجوهر الحقيقي للفرد، بعيدًا عن ضجيج العالم وعن التوقعات والأعراف كافة التي يفرضها العالم الناطق! وعلى هذا النحو قد يكون الصمت تأملًا (في خلوة)، أو تعبدًا (منهيٌ عنه في الإسلام ما لم يكن صمتًا عن شر: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت»).

تحتوي الإلياذة والأوديسة لهوميروس على 27802 كلمة، منها 112 كلمة تتعلق بسياقات الصمت. وفي كتابه «القوانين»، أشار «أفلاطون» إلى أن الصمت يمكن أن يكون قصديًا (أن تلتزم الصمت إزاء مواقف بعينها)، قضائيًا أو قانونيًا (صمت المُشرع عن التوافه)، تعليميًا (في التواصل مع الأطفال)، ظرفيًا (في العلاقات مع كبار السن وفي التفاعلات الاجتماعية والاحتفالات والألعاب وفي المسرح والأماكن العامة، وكذلك في المواقف الخطرة: شكلًا من الدفاع عن النفس، أو شكلًا من الشجاعة ومقاومة الألم والعدوان)، وقد يكون الصمت في النهاية انسحابًا من الحياة إلى الأبد، وهو الصمت موتًا!

لكن ماذا لو كان الصمت عقابًا للذات، أو تأديبًا للنفس على جُرمٍ أو خطيئة؟! هذا ما فعله واحدٌ من فلاسفة اليونان القدامى المجهولين: «سيكوندوس الصامت» (Secundus the Silent) الذي التزم الصمت ولم يتخل عنه حتى موته عقابًا لنفسه على ما عدَّه ذنبًا اقترفه، وحين تعرض للتهديد اضطر إلى الإجابة عن عددٍ من الأسئلة كتابةً، ليُدون لنا بعض أهم مأثوراته الفلسفية!

عاش «سيكوندوس» في أثينا في أوائل القرن الثاني، ولا تتوافر لنا أية معلومات عنه سوى ما احتوته قطعة من ورق البردي ترجع إلى القرن الثالث، ونصٌ مجهول عن سيرته الذاتية احتوته مخطوطة من القرن الحادي عشر. وقد أحضر «ويليلموس ميديكوس» (Willelmus Medicus)، الذي أصبح فيما بعد راهبًا في دير «سان دوني» (Saint-Denis) بباريس، المخطوطة الكاملة من القسطنطينية إلى فرنسا سنة 1167، وترجمها إلى اللاتينية تحت عنوان «حياة سيكوندوس» (Vita Secundi Philosophi/ Life of Secundus) وقد حظيت هذه الترجمة بشعبية كبيرة في العصور الوسطى، وضم الراهب الدومينيكاني «فنسنت بوفيه» (Vincent of Beauvais) نسخة منها إلى موسوعته الشاملة «المرآة الكبرى» Greater Mirror) /Speculum Maius) في القرن الثالث عشر. وفي القرن الرابع عشر، خصَّص كتاب «حياة الفلاسفة وعاداتهم الأخلاقية» (Lives and Manners of the Philosophers /De Vita et Moribus Philosophorum)، وهو قاموس لاتيني مجهول للسِيَر الذاتية لفلاسفة ما قبل الحقبة المسيحية القدماء، فصلًا مستقلًا عن «سيكوندوس». وتضمنت ترجمات العصور الوسطى المتأخرة للنص اللاتيني «حياة سيكوندوس»: نسختان ألمانيتان، واثنتان إسبانيتان، وست نسخ فرنسية، ونسخة أيسلندية، وأربع نسخ إيطالية، كما تُرجم النص إلى لغات أخرى عدة. ويؤخذ النص على أنه توثيق للعواقب الوخيمة الناجمة عن الإصرار على طلب المعرفة إزاء ما هو مسكوت عنه، أو على نحو أدق: النتائج الكارثية لطلب الرجال معرفة جوانب بعينها في شخصية المرأة!

يشير النص إلى أن «سيكوندوس» قد أرسله والديه صغيرًا لتلقي التعليم في إحدى مراكزه المنتشرة في أثينا، وقد شاع وقتئذٍ الفرض القائل أن أية امرأة لا تستطيع مقاومة الإغراء والحفاظ على عفتها، لا سيما إغراء المال. وحين أصبح بالغًا قرَّر «سيكوندوس» اختبار هذا الفرض والتحقق من صحته بنفسه (ربما ليثبت كذبه). ورغم عدم معقولية تعميم الفرض في كل مكانٍ وزمان، فقد اتخذ الفيلسوف خطوةً مجنونة: أن تكون أمه موضع اختبار الرفض!

كانت أمه وقتئذٍ أرملة، وكانت ثمة نظرة إلى الأرامل في تلك الحقبة على أنهن متشوقات جنسيًا. ومع ذلك كانت ممارستهن للجنس مقابل المال أمرًا صادمًا للمجتمع الأثيني، والأشد صدمة منه وعارًا «زنا المحارم» أو «سفاح القربى»! لم يهتم «سيكوندوس» بهذا كله، بل مضى في خطته غير عابئ بتوابعها. تنكَّر في زي الفيلسوف الساخر بشعره المسترسل فوق ظهره ولحيته الكثيفة، وعرض على أمه –دون أن تتعرف عليه– أن يُمارس الجنس معها مقابل خمسين قطعة ذهبية، وكانت صدمته عنيفة حين أعلنت موافقتها! تزينت له، وأعدت له العشاء وتناولاه معًا، وحين ذهبا إلى النوم وسلَّمت له جسدها، لم يفعل شيئًا، بل طوَّقها بذراعه مثلما يفعل الطفل مع أمه، وثبَّت عينيه على الثديين اللذين أرضعاه، واستلقى ونام حتى الصباح. ومع بزوغ ضوء الفجر نهض «سيكوندوس» وتهيأ للخروج، لكنها أمسكت به واستوقفته قائلة: لماذا امتنعت؟ هل فعلت ذلك فقط من أجل إدانتي؟! أجابها: لا يا أمي، لقد امتنعت لأنه ما كان لي أن أدنس المكان الذي خرجت منه إلى الحياة! من أنت؟ (سألت في فزع)، أنا «سيكوندوس»، ابنك!

لم تستطع الأم تحمل وقع الصدمة، ومع أنها لم تبلغ بفعلها حد الفاحشة من وجهة نظر المجتمع اليوناني/الروماني القديم، إلا أن عذابها النفسي وشعورها بالخجل والعار دفعها إلى التخلص من حياتها، نعم، لقد شنقت نفسها! أما الابن فقد أدرك أن ما فعله مع أمه لم يكن محض خطأ، بل خطيئة لا تُغتفر، تملَّكه الشعور بالذنب إزاء وفاة أمه، فقرَّر أن يظل صامتًا لبقية حياته، ربما التماسًا (أو استلهامًا) للشرط الصارم الذي فرضته المدرسة الفيثاغورية على كل مبتدئ أراد الالتحاق بها: الصمت التام لمدة خمس سنوات، لكن «سيكوندوس» قرَّر الالتزام بالصمت مدى الحياة!

في غضون ذلك، سمع الإمبراطور الروماني «هادريان» (Hadrian 76 – 138) بعد وصوله إلى أثينا بقصة «سيكوندوس»، فأمر باستدعائه إلى مجلسه. وما أن وصل حتى نهض «هادريان» لاستقباله، مبادرًا بالترحيب به، راغبًا في اختباره بنفسه لمعرفة ما إذا كان ملتزمًا حقًا بالصمت أم لا، لكن «سيكوندوس» ظل محافظًا على صمته المعتاد. خاطبه «هادريان» مرة أخرى: «تكلم أيها الفيلسوف حتى نعرفك، لن نرى فيك الحكمة ما دُمت صامتًا. ها أنا ذا أقف أمامك وأطلب منك أن تتكلم، تكلم وأخرج حكمتك بما لديك كله من بلاغة»!

مع ذلك، لم يكن «سيكوندوس» يشعر بالخجل أو الخوف من الإمبراطور، ظل متشبثًا بصمته، إلى أن نفد صبر «هادريان» وقال لنائبٍ له: «حاول إقناع الفيلسوف بأن ينطق ولو بكلمة»، فأجاب النائب بعد محاولات فاشلة: «سيدي، قد يكون من الممكن إقناع الأسود والفهود وسائر الوحوش البرية أن تتكلم بأصوات بشرية، أما الفيلسوف، فمن المستحيل دفعه إلى النطق رغمًا عنه»! فما كان من «هادريان» إلا أن استدعى جلادًا يونانيًا وأمره قائلًا: «لا ينبغي أن يعيش أي رجل يرفض أن يُكلم الإمبراطور هادريان، خذوه وعاقبوه». وقبل أن يُغادر الجلاد مصطحبًا «سيكوندوس»، دعاه «هادريان» على انفراد وقال له: «عندما تقود الفيلسوف بعيدًا، تحدث معه على طول الطريق وشجعه على الكلام، فإذا أقنعته وتكلم، فاقطع رأسه، وإن لم يستجب فأعده إلى هنا سالمًا».

اقتيد «سيكوندوس» بعيدًا في صمت، وتوجه به الجلاد الذي كان يتولى مسؤوليته إلى «بيرايوس» (Piraeus) وهو المكان الذي تُنَفذ العقوبات فيه عادةً، وقال له الجلاد: «سيكوندوس، لماذا تموت وأنت متمسك بالصمت؟ تكلم وستعيش. امنح نفسك هدية الحياة بكلمة. هوذا البجع يغني قرب نهاية حياته، والمخلوقات المجنحة الأخرى جميعها تصدر أصواتًا منحتها إياها الطبيعة. ما من كائنٍ حي إلا وله صوت. لذا أعد النظر وغير هدفك، والوقت الذي ستكسبه بذلك سيكون كافيًا لصمتك». بهذه الكلمات وغيرها سعى الجلاد إلى تشجيع «سيكوندوس» وإيقاعه في الفخ. لكن «سيكوندوس» كان يحتقر الحياة ذاتها وينتظر الموت بصمت، غير عابئٍ بما قيل له. حينئذٍ قال الجلاد: «سيكوندوس، مُد رقبتك واستقبل السيف». مد «سيكوندوس» رقبته في صمت، فأراه الجلاد السيف المسلول وقال له: «سيكوندوس، اشترِ موتك بالكلام»، لكن «سيكوندوس» لم يتكلم!

لم يجد الجلاد بُدًا من أن يصطحب «سيكوندوس» عائدًا إلى «هادريان»، وقال له: «سيدي القيصر، لقد أعدت إليك سيكوندوس مثلما كان عندما سلمته إليّ، صامتًا حتى الموت»! تعجب «هادريان» من قوة عزيمة الفيلسوف ونهض قائلًا: «سكوندوس، في التزامك بالصمت، فرضت على نفسك نوعًا من القانون، ولم أتمكن من خرق قانونك هذا. الآن خُذ هذا اللوح واكتب عليه وتحدث معي بيديك». أخذ «سيكوندس» اللوح وكتب قائلًا: «من جهتي يا هادريان، لم أخف منك ولن أخاف بسبب الموت، لديك القدرة على قتلي، لأنك اليوم حاكمٌ، لكن هذا كل شيء، ليس لديك أية سلطة على كلامي، ولا على الكلمات التي اخترت أن أتحدث بها». قرأ «هادريان» هذا وقال: «موقفك في الدفاع عن النفس جيد، لكن تعال وأجبني في عدد من الأمور الأخرى، لدي عشرون سؤالًا أطرحها عليك». وتوالت إجابات «سيكوندوس».

يتبع…

اقرأ أيضاً: 

اسأل فيلسوفًا: تأملات في فلسفة الشوارع!

الكندي فيلسوف العرب والمسلمين

لمحة من حياة شوبنهاور

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية