فن وأدب - مقالاتمقالات

طواويس بهاء طاهر المجهدة

بعد انحياز لفن الرواية دام أحد عشر عامًا عاد الأديب الكبير بهاء طاهر إلى النقطة التي انطلقت منها مسيرته الأدبية.

أصدر مجموعة قصصية عنوانها “لم أعرف أن الطواويس تطير” هي الخامسة له، إلى جانب روايات ست.

تعكس هذه المجموعة الكثير من سمات المشروع الأدبي لطاهر برمته في مضمونه وشكله وسياقاته.

لم أعرف أن الطواويس تطير

قصة”إنت اسمك إيه؟”

تتناص وتتشاكل وتتفاعل مع المعطى القصصي المصري في وجهه الكلاسيكي، إلى درجة التشابه النسبي بين القصة الأولى وعنوانها “إنت اسمك إيه؟” مع قصة يوسف إدريس “لعبة البيت”.

فيما تدخل بنا قصة طاهر الثانية وهي “سكان القصر” أجواءً قريبةً من عالم نجيب محفوظ، وهي مسألة لا ينكرها الراوي ذاته، حين يقول عن ساكن القصر:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

“هو بالضبط جبلاوي نجيب محفوظ، ولا أحد غيره! سئم أولاد حارتهم فانتقل إلى حينا المنكوب ليعذب أولاد الأفندية”.

لكن طاهر، وهو أول من حصد جائزة البوكر بنسختها العربية، احتفظ بسمته في السرد، وبجملته المتفردة من حيث البساطة الآسرة والرشاقة الظاهرة، والذهاب إلى المعنى من أقرب طريق، دون إشباع السرد بزوائد تثقله، أو بنتوءات تقطع انسيابه.

قصة “كلاب مستوردة”

لم يكتف بهذا بل أضاف إلى الشكل كثيرًا عبر طريقة للحوار مغايرة أو مختلفة أو غير مطروقة بشدة، لم يحد عنها في أغلب القصص الست لمجموعته تلك، لكنها سيطرت على قصة “كلاب مستوردة” تمامًا. فالراوي ينوب عن شخصيات القصة في تبادلها الحوار، على شاكلة:

“_وقطعت هي الصمت حين قالت لزوجها بهدوء دون أن تنظر في وجهه إنه لا يفهم معنى الكلاب.

_هل يمكنها أن تشرح ذلك؟

_لا، لا، لا يمكنها، فهي مسألة حساسة لا يفيد فيها الشرح. الحساسية إما موجودة أو غير موجودة.

_ومع ذلك فسيكون شاكرًا لو قدمت له مثالًا واحدًا، واحدًا فقط على عدم حساسيته، وكيف لو سمحت جرَح مشاعرها أو مشاعر الكلب؟

_هو مثلًا لا يرى تعبيرات وجهه، حين يقترب منه ساكي”.

إن هذا الحوار أشبه بـ”المنولوج”، وإن كان طاهر يعرضه في صيغة “ديالوج” مازجًا بين الطريقتين، من دون أن يتوه منه خيط السرد، أو ينزلق عنه إلى مسارب جانبية لا تفيد البناء الدرامي.

الاتجاه الواقعي في الأعمال القصصية لبهاء طاهر

بهاء طاهر

أما لغة الحوار فقد تراوحت بين “الفصحى” في الأغلب، و”العامية” حين اقتضت الضرورة ذلك، لا سيما في القصة الأولى، حيث كان الحوار يدور بين جد وطفل صغير، أو بين الأم والطفل.

أما في بقية القصص فقد جاء الحوار بعربية جزلة، متسقة مع نضج وثقافة الشخصيات المتحاورة. وبين هاتين هناك “اللغة الثالثة” أو الفصحى البسيطة مثل تلك التي تظهر بحوار يسأل فيه أحدهم: “هل لديه ترخيص بائع جوال؟”

فيجيب: “لا هو بائع سريح يا باشا”.

ويوجد تناص مع القرآن الكريم في بعض المواضع مثل هاتين الجملتين: “أشداء على الغرباء، لكنهم متعاطفون فيما بينهم”. والموظف الكبير الذي كان مرؤوسيه يطلقون عليه: “مناع الخير المعتدي الأثيم”.

وإذا كان طاهر يدخل إلى أجواء القصص بطريقة مباشرة، لا مواربة فيها، تجعل القارئ يمسك خيط السرد بإحكام منذ البداية، فإن النهايات لم تكن على مستوى واحد.

اقرأ أيضاً: مراجعة فيلم “في هذا الركن الصغير

تعرف على: حال الريف المصري في النصوص الروائية

اقرأ أيضاً: قصة صورة وجه وظهر

كيف كانت نهايات قصص بهاء طاهر؟

بعضها جاء فاترًا لا يثير شجنًا، ولا يهز بدنًا، وبعضها انطوى على مفارقة، وآخر اتشح برداء رومانسي خالص، على غرار قصة “لم أكن أعرف أن الطواويس تطير” التي منحت عنوانها للمجموعة كلها.

إذ تنتهي قائلة: “ونظرتُ نحو الطاووس المأسور الذي كانت بعض ريشاته الملونة تبرز من ثقوب الشبكة، وهو ينتفض، وقلت لنفسي وأنا أنصرف: يا طائري العجوز أشباه عوادينا”.

وذلك في تعبير عن حال التوحد الوجداني بين الراوي، أو بطل القصة، وبين الطواويس، حيث يشعر كلاهما بالغربة، الأول في بلاد غير بلاده، والثانية في بيئة غير بيئتها.

يتكرر هذا التوحد وتلك النهاية الشجية في قصة “قطط لا تصلح”، إذ تنتهي: “عندما رأته القطط ينصرف، بدأت تتقدم نحوي في بطء، وهمست لها وأنا أمد يدي نحوها: تعالوا يا إخوتي وأخواتي! فأتوا طائعين”.

فالموظف، المريض بالضغط والمرارة، الذي أرسله رئيسه في العمل ليراقب عمال المنجم في الصحراء البعيدة، يشعر أنه لا يختلف كثيرًا عن القطط التي أطلقتها صاحبتها الأجنبية في حديقة الفندق –الذي تمتلكه– بعد أن قامت بإخصاء ذكورها ونزعت أرحام إناثها.

تتكرر حالة التوحد تلك في قصة “كلاب مستوردة” إذ تتخذ السيدة من كلبها “ساكي” أنيسًا لها، يعوضها عن غياب زوجها، رجل الأعمال، عنها فترات طويلة.

تقرب الكلب إليها، إلى درجة تثير غيرة الزوج، لكنه يرضخ للأمر الواقع حين يدرك أن ساكي يشغلها عن الطفل أو الأطفال الذين لا تستطيع أن تنجبهم.

مجموعة أعمال بهاء طاهر

بهاء طاهر

ما يلفت الانتباه في تلك المجموعة القصصية أن بهاء طاهر لم يفارق عالمه الأدبي كثيرًا، فباستثناء القصة الأولى التي يحكي فيها خبرة جد مع حفيد له يعاني من “فرط الحركة”، جاءت غالبية القصص لتعيد إنتاج بعض مشروعه الإبداعي، أو تقتطف منه، وتتوالد عنه.

لهذا نجد أن قصتي “الطواويس” و”الجارة” ينسجان على المنوال ذاته الذي ظهر في أعمال عدة للمؤلف، في مطلعها روايته البديعة “الحب في المنفى”، حيث الإنسان الشرقي الذي يعاني الغربة ويواجه الثقافة الغربية في عقر دارها.

أما قصة “قطط لا تصلح” فتقع أحداثها على مرمى حجر من عالم الصحراء، الذي ظهر على استحياء في رواية “خالتي صفية والدير” ثم استوى على سوقه في آخر أعمال طاهر الروائية الموسومة بـ”واحة الغروب”.

قصة “سكان القصر”

نحت قصة “سكان القصر” منحى رمزيًا، فبدا القصر فيها أشبه بـ”تكية” نجيب محفوظ تارة وببيت السلطة تارة أخرى، وحوله تدور شائعات تتوالد بكثافة واستمرار.

لكن ما عليه من حراس وما يدور بينهم من ترتيب يشي بأن المؤلف يقصد السلطة السياسية على الأرجح، وليست أي سلطة دينية.

ويسرد مكابدات فنان تشكيلي يقطن بشقة تطل على هذا القصر الغامض، الذي لا يملك أحد إجابة تجلي الغموض الكامن في رحم الأسئلة المثارة حوله.

تنتهي القصة دون أن يقبض الفنان المأزوم على شيء حول ما يقض مضجعه، وهو ما تشي به نهاية القصة حيث تقول:

“ثم هب فجأة من مكانه، وفتح مصراعي الشباك بعنف وضجيج وصرخ بأعلى صوته: قولوا! ما الذي يحدث لنا؟ ما الذي يحدث؟ فجاوبه الصمت”.

قصة الجارة

تعد القصة الأخيرة “الجارة” هي الأروع والأكمل مقارنة بالأخريات، سواء في نزعتها الإنسانية وصفائها اللغوي، أو في معمارها القصصي المتين. وبها يحافظ طاهر على رومانسية أدبه وعلى الانتصار لروح الشرق وقيمه.

القصة تحكي عن أرملة، فارقها زوج كان يحب الحياة، وأودع فيها نصيحةً غاليةً وعتها وتمثلتها وتماهت معها، تقول ببساطة: “لنعش سعداء بقدر ما نستطيع”.

هنا تقول: “أنا لا أبكي حين أذكر زوجي. هو علمني ألا أذكره بالحزن، بل بالفرح”.

هذه الأرملة الفرنسية العجوز، التي تركها ابنها وذهب مع زوجته، كانت تمثل قدوة بالنسبة لبطل القصة، الشرقي المتزوج من أوروبية، وذلك في سعيه إلى السعادة والتفاؤل والعيش ببال رخي. فها هو يقول لها حين أصيبت بإغماءة عارضة:

“لا! لا تخذليني يا جارتي الشجاعة! أنا ألتمس من شجاعتك الأمل الذي ضاع مع عمر انقضى دون معنى ولا فرح، فلا تتركيني وحيدًا، هيا! عيشي ألف عام كما وعدت زوجك”.

ثم يقول لها في معرض رده على اقتراحات بإرسالها إلى المستشفى أو بيت المسنين، جملة فارقة، انتهت بها القصة:

“بل ابقي معنا أرجوك. ابقي معنا دائما، فأنا أيضا أريد أن أعيش ألف عام”.

إن هذه المجموعة لا تشق في شكلها ومضمونها طريقًا جديدًا ولا مغايرًا في مشروع بهاء طاهر الأدبي، ولا توسع حيزه إلا على مستوى الكم، لكنها تقدم برهانًا ناصعًا على أن هذا الأديب العربي الكبير لا يزال وفيًا للقصة القصيرة في زمن الرواية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

**************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري